عصر المشاهير الزائفة بقلم د.نبيل عبد الفتاح. في ” مختارات سينما إيزيس “
كانت نماذج البطولة، والعظمة فى العالم ما قبل الحديث استثناءات نادرة، وكانت تعزى فى بعض الأحيان إلى المشيئة الإلهية، وأسباب ما ورائية، تجعل من بعض الشخصيات عظيمة لأعمالها غير العادية، والاستثنائية فى الحياة، والقيادة، والحروب والصراعات حول المصالح والمكانة، والنفوذ، والاستيلاء على ثروات الأعداء، والاحتلال، والغزو، والدفاع عن الجماعة والأوطان. كانت البطولة تتجلى فى القيادة الشجاعة فى القتال، والنصر، ويبرز بعضهم كبطل تحيط به هالات الانتصار، والاعتراف به، وتسنده إلى الوصف والمجاز عظيم!
كان شكسبير يقسم العظماء –وفق دانيل بورستين- إلى ثلاث مجموعات فى الاتجاه المتعارف عليه أولئك الذين وُلدوا عظماء، وأولئك الذين أقحمت عليهم العظمة إقحامًا. ولم يخطر بباله أولئك الذين استأجروا خبراء علاقات عامة وسكرتارية صحفية لجعل أنفسهم يبدون عظماء (ص 75). هذا التصنيف الشكسبيرى للعظمة، كان يعكس المفاهيم السائدة فى عصره، والموروثة، والخلط بين الصفة عظيم، وبين واقعة الميلاد اللصيقة ببعضهم! من ناحية أخرى، كان يعكس بعض الأفكار السائدة فى عصره!
وما أشار إليه دانيل بورستين، وبحق، هو الانتقال إلى عصر ثورة الجرافيك، وسلطة الصورة، وخبراء العلاقات العامة، وشركاتها، لتحويل بعض الشخصيات إلى مجال جديد هو مفهوم الشهرة، لاسيما فى النصف الأول من القرن الماضى، والذى تمدد من السينما، إلى السياسة، وصراعات الأحزاب وقادتها فى الولايات المتحدة الأمريكية، فى ظل ثورة التوقعات المفرطة، والإثارة والأحداث الزائفة، والانتقال من نمط عبادة الأبطال الشعبى، إلى نمط الشخصية المشهورة ويبدو أن ذلك جاء أيضا نتاجا للمعرفة النقدية الحديثة التى حاولت تفكيك مفهوم العظمة، والعظماء، وإحلال وسائل الأعلام-، وسلطة الصورة الفوتوغرافية، والسينمائية، وخبراء العلاقات العامة-، مفهوم الشهرة محل مفهوم البطولة، ويعود ذلك إلى القيم والثقافة الديمقراطية، وإلى الفرد والفردانية، والإنسان العادى، على نحو ما تم إشاعته أنذاك مثل شخصيات سياسية كفرانكلين روزفلت، وجورج واشنطن، ولينكولن الذين تمتعوا بمسحة عاديه نحن نجلهم، ليس لأنهم يتمتعون بكاريزما، أو تفضيل إلهى، أو نعمة أو موهبة منحها لهم الله، ولكن لأنهم تجليا لأنفسنا ويسمون بنا (ص 81). تم نزع الطابع اللا تاريخى والأسطورى والاستثنائى للعظماء ما قبل تطور العلوم التاريخية، القصص التى ارتبطت بها هالات العظمة، وصورها اللاتاريخية مع صعود عصر الجماهير، تحولت الجموع فى ظل وسائل الإعلام الجماهيرية، إلى هدف، ومحض مستهلكين فى الأسواق لما تعرضه عليها وسائل الإعلام، حيث تحيا الجماهير فى عالم من الأحداث الزائفة المتوهم المختلف تماما. حيت الكلمات والصور التى تصل إلى الجماهير تزيل السحر عن الأسماء الكبيرة فى نفس عملية استحضارها (ص 89). لا شك أن ثورة الفنون التصويرية، هى التى وظفت التوقعات المفرطة، فى أحداث نقلة من مفهوم البطولة والعظمة إلى مجال الشهرة الناتجة عن تكرار الحضور فى قلب الأخبار، والأحداث الزائفة، وهو نتاج لأنماط من الدعاية المرتبطة بالتجارة، ومن ثم ارتباط السوق الرأسمالى، بالشخصيات المشهورة، وزائعة الصيت.
سيلفستر ستالون “روكي”
الشخص المشهور منذ القرن الماضى ارتبط بالفنون الترفيهية، وليست الفنون الرفيعة وهو ما يعبر عن العلاقة بين السوق، والاستهلاك، والتوقعات المفرطة. الشخصيات المشهورة ليست سوى شخصيات عادية، وأحيانا بعضهم مديوكرات، لكن حضورهم فى الأخبار المكثف، يضفى عليهم الشهرة، وهم شخصيات من الممثلين، والممثلات، وبعض المطربين والمطربات والرياضيين، ولعبت الصورة الفوتوغرافية، والسينما، والتلفاز، والمجلات والصحف الورقية دورًا بارزًا، مع خبراء الإعلان، والعلاقات العامة، فى الترويج لبعض هذه الشخصيات، الذين يكفى أن يكونوا قادرين على الوصول إلى قلب الأخبار، وفق بورستين. من هنا حالة الشهرة هى جزء من الأخبار، والأحداث الزائفة،، ويمكن لشخص ما أن يكون شهيرًافى مرحلة، أو فترة زمنية، ويتهاوى بعيدًا ويسقط ببعده عن الأحداث، والأخبار، أو لتجاوز طلب السوق على شهرته الزائفة، وذلك بعكس البطل التراجيدى، أو البطل ما قبل عالم الجرافيك، وسلطة الصورة والمرئيات. من هنا يصف المؤلف أن المشاهير (وهم أحداث زائفة بشرية) على التغطية على الأبطال، والمشاهير يموتون بسرعة، ويتم استبدالهم بسرعة أكبر كما شهدنا فى القرن الماضى، حتى ثورة الفضائيات، ثم هيمنة عالم الرقمنة، وتحولاته الكبرى والزلزالية. صعود، وموت المشاهير، فى الصحف الورقية والتلفازات والمرئيات، بات أكثر سرعة مع سطوة الصور المرئية والتلفازية، وبات لها حضور فاعلً، فى تحول بعض الشخصيات العادية إلى شخصيات مشهورة، وسرعان ما يتم استهلاكها، وتركها للسقوط والنسيان.
مع نظام الغذاء السريع، وماكدونالدز، وويمبى، وما شابه، الذى يعتمد على الوجبات السريعة، وفق صناعة الطلب الفعال على هذا النمط، مع تغيير نظام الحياة اليومية فى أمريكا، سيطر نمط الأغنية السريعة، والرقص السريع، والقصص والروايات البوليسية، والمغامرات، ومعهما سرعة إنتاج المشاهير، واستهلاكهم، والبحث عن شخصيات جديدة فى قلب الأخبار، والحكايات الزائفة. منذ كتابة دانيال بورستين كتابه الهام، تغيرت الدنيا فى أمريكا، والعالم، وظلت الولايات المتحدة، المعمل البشرى للغرب، فى الإعلام، وثقافة الترفيه، والشخصيات الشهيرة، وما أطلق عليه عصر النجوم اللامعة.
د.نبيل عبد الفتاح
كاتب ومفكر مصري
–
عن جريدة ” الأهرام ” بتاريخ 30 يونيو 2022 لـ ” مختارات سينما إيزيس “