إدوار غليسان بين ظهيرة الفلسفة وليل الشعر بقلم محمود هدايت
إدوار غليسان، بين ظهيرة الفلسفة وليل الشعر
بقلم
محمود هدايت/العراق ــ نِفَر
“أكتبُ في حضور جميع لغات العالم حتى وإن كنت لا أعرفها”1
انخساف اللغة بالمعنى، سمةٌ بارزة في تفكير إدوار غليسان، فالنص لديه سواء كان شعراً أو فلسفة يتحدّر من ضرورة إيجاد مشكل لساني يعيد للكتابة عنفها الشعري الأوّل، المؤدي إلى صياغات معتاصة على التداول المباشر، ما يجعل انفتاحه على الانخساف مطلب نصي، فلا كتابة مواجهة دونما انخساف مفاجئ في أرضية المعاني، تحدثهُ اللغة أو يتم بدفع سّرّي منها، تنجم عنه علاقة انقطاعات، ترتسم ملامحها بمباغتة الشعري للفلسفي. وهذا يشير إلى فارق فكري في استقبال الكتابة، فماذا لو لم يكن ثمة انخساف خيالات، كيف سيدير النص مؤتمره اللساني، وبأيَّة جسارة سيمرن حرائقه على التمدد والزحف في غابات الخيال الذي لا يحوز التباسه إلا في اكتشاف انخسافه؟ فلا شعر من دون ارتباك فلسفي، ولا فلسفة بلا عنف لامرئي. كما أنَّ هذا لا يتحقّق إلا بتوريط الفلسفة بالشعر، دون أدنى تلميح عن ذلك.
في دعوته إلى ضرورة (الفكر الأرخبيلي) اختبر إدوار غليسان ضفتي التفكير وهما:(الشعر والفلسفة) وكان يبتغي من وراء ذلك، بناء متخيلات جديدة، تُجاوز ما درجت الكتابة عليه من مقولات أجناسية، ربما بذلك وحده يتمكن من مشاغلة الجمرك اللغوي ومجاوزته بالكثافة اللسانية، لهذا نجده كثيرا ما يعول ويحتفي بأهمية توافر المتاهة اللسانية في استقبال لحظة التفكير وملامستها بخيال كوني شاغله الأساسي لحَم تلك الجزر وتوحيدها بحساسية شديدة التوهّج تركز على الاتصال والانفصال في خط تموجي واحد، نصل بواسطته إلى ذلك الذي نخشى الوصول إليه. أي كتابة ما لا يُكتب، الصمت الأعلى لمعنى كامن في اللامرئي.
من ميزات فكر إدوار غليسان أنَّه لا يخفي شغفه في التمدد الشعري على الفلسفة، ولا يتوارى خلف المراوغة في تعقّب الإشكال الفكري المراد سبر أغواره. ومثلما هو منشغلٌ في تطوير اتساع قلقه اللغوي وإدامة، نجده مأخوذ في تفجير الإشكال الفكري باللامرئي، كأنَّ صخرة سيزيف بعجرفة ثقلها قد استقرت على ظهر اللغة. وما هذا إلا نوع من تعذيب الخيال وتمكينه من توطيد علاقته مع الجرح الأسطوري للشعر، مثل أرخبيلات تغازل بعضها بعضاً في محاولة اتصال، و”الفكر الأرخبيلي هو فكر المحاولة والرغبة الحدسية”2، إذن، هو منشغلٌ بالانفتاح على العالم بتيقظ صيروري وانسحار وشساعة.
في كتاب(فلسفة العلاقة) يختبر غليسان أحلام الخيال في الذهاب إلى حيث تغيب الأشياء لتظهر القصيدة التي لا يتحقَّق حضورها إلا بين أخاديد مسنونة بالتذكر، فالشعر من وجهة نظره سعي دائم بين تذكر ونسيان، أي انفعال وتفاعل، فكما يظهر في نصوص غليسان أن الشعر يتشكّل من غياب الشيء في اللامرئي، مما يعني أنَّه نسيان بصيغة تذكر، إذ هو كالأشباح تغيب لنتذكرها نسياناً يومئ إلى أنها قد اختفت. وهذه مزية من يسعى إلى الإقامة في الخسف الفكري للوجود، هناك حيث يغدو الإنسان مروِّض نيران، أو جامع تحف روحانية في متحف اللامرئي: (القصيدة) التي بمقدورها التأسيس لحضارة الخيال.
إنَّ الامعان في عالم غليسان بقراءة فاحصة، سيؤدي بالنهاية إلى التعرف على مراحل ذوبان المكان في الزمان، الحدّ الذي يغدوان فيه واحداً متعدداً، ومما يبدو أنَّ غليسان يتعامل مع المكان بوصفه ميناءً للخيالات غير المرصودة، فهو من طينة شعراء المستحيل الإنساني، الأمر الذي يعني أنَّ انصهاره في الشعر متأتٍ من إيمانه الفكري بإمكانية القصيدة على حفظ ذاكرة اللسان، أي ما سطرته الشعوب من ثقافات وأدب رفيع، إذن، هو يكتب الشعر كونه يرى في القصيدة احتفاء بحياة اللغة وديمومتها كمنزل للعالم كما يصفها هيدغر. لكن كيف سنكون من سكنى هذا المنزل دونما توافر (لسان أرخبيلي) ينظر للتواصل اللغوي كتواصلٍ متعدّدٍ الطبقات. يقترب لينفصل، وينفصل ليقترب.
مَثَّل نص غليسان في الأدب توجّه خاص، وكانت كتابته بمثابة مصد فكري وجمالي، منح الخيال أصالة الحضور في المشهد الأدبي، الذي استطاع غليسان تشخيص أزماته، فكان من أشد المعارضين لدخول الرواية في لعبة الجوائز، ما جعله يتهمها بالفن الفاسد، في المقابل أظهر غليسان تطرّفه المطلق واللانهائيّ للشعر والعمل على مضاعفة حضوره بوصفه محاولة في تجويد الكثافة الإنسانية، ذلك لأنَّ الشعر لديه هو “الفن الأدبي الوحيد الذي يقول بدون أن يقول وفي نفس الوقت يقول”3 وهذا في حد ذاته شروع في مواجهة العالم بالغموض الأعلى الذي لا تُلمس أخاديده إلا بقصيدة متمرنة على التلبس بالكون، وتمجيد انطواء لؤلؤة الوجود في محارة هيدغر:(اللغة).
القلق اللساني هو أكثرُ ما يشغل شاعر مثل إدوار غليسان، فهو يشدد على أهمية عدم استصغار أية لغة كانت، كونه يرى في الوجود (متخيل لغات) إذ لا يمكن بلوغ الذهاب نحو الكينونة إلا في تعظيم شأن اللغات جميعاً، من خلال العمل الدائم على تنظيف تأريخ اللسان، أي تحريره من عقدة السيد والعبد، باعتباره بشرة الفكر الكوني، وقد اتضحت ملامح الدعوة للسان حرّ في محاوراته القائمة على ضرورة الصراع بين (نهارات العقل وليل الحواس). هناك حيث تنطلق من الشعر شرارة الانقلاب الليلي، وتبيَّن ذلك في ملامسته للمكان بشعرية الأرخبيل، بمعنى أنَّ المكان لديه أشبه بيد هاملت المتردّدة. فهو يكتبُ ليغور في الحذر، ذلك لأنَّ “الشعر هو التحقّقُ السّرّي للسّرّ” بحسب يانيس ريتسوس.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1.متخيل اللغات.
2.فلسفة العلاقة.
3.متخيل اللغات.
إدوار غليسان
بقلم
محمود هدايت
كاتب وباحث وناقد عراقي