النوستالجيا في مجتمعات الومضات الرقمي بقلم نبيل عبد الفتاح
مصطلح نوستالجيا مركب من المفردتين “nostos” العودة، و”alogos” المعاناة أو الشوق ومعناهما «ألم الشوق»(1) والحنين لماضي ما، سواء أكان ماضي بعيد أو بسيط أو مركب(2). وكان المصطلح يشير لحالة مرضية سوسيو- نفسية لدى بعضهم للذات في الحاضر. ومن ثم تميل أو تجنح إلى تنشيط الذاكرة. وتستدعى بعض الوقائع والصور التي مرت أو عبرت في تاريخ الشخص “النوستالجي” الذي يدرك ويستعيد هذه الأحداث بوصفها لحظات سعادة أو حب أو عشق أو ممارسة حواسية حميمية. أو شكلت نقطة تحول حياتية، سواء في سردية حياته الذاكرتية، والفعلية، أو نقطة انطلاق في عمله المهني. أو في تكوين ثروته، أو مكانته الاجتماعية أو السياسية.
هذا الحنين الجارف أو الشوق العارم لهذه الاستدعاءات الشخصية تمثل سعيا من الذات الجريحة أو المأزومة للبحث عن توازن ما لحظي إزاء واقعها. وقد يمثل ذلك لدى بعضهم هروب من حالة نفسية واجتماعية ما، أو تعثر في مساره أيا كان! أو تجاه واقع سياسي واجتماعي واقتصادي مأزوم ومحبط. بعض الاستدعاءات للنوستالجيا تدور في إطار جماعة عرقية أو قومية أو قبلية أو دينية أو مذهبية أو لغوية. والحياة في دائرتها وثقافتها وأفراحها وأتراحها الجماعية.
بعض أنماط النوستالجيا تعد جزءا من حالة الوعي الشخصي أو الفردي – في المجتمعات التي تم فيها ميلاد الفرد في إطار الرأسمالية والتصنيع – أو اللاوعي وتحولاته ومكبوتاته. ويتم استدعاءها لإعادة فحص بعض الوقائع الحياتية المؤثرة سلبا أو إيجابا على مسارات الشخص أو الفرد.
**
النوستالجيا جزء من عالم الذاكرة وصورها، وباتت جزءا من فلسفتها كجزء من الدرس الفلسفي على أهميته التاريخية والمعاصرة. إلا أن الدرس السوسيو – نفسي بالغ الأهمية في تحليل حالة الشوق والحنين لبعض الماضي الفردي والجماعي والقومي في بعض لحظات التاريخ. وخاصة المرحلة الراهنة التي تكالبت فيها الأزمات وتكاثرت على مصر وعالمنا العربي الكبير. وخاصة في نوستالجيا الحياة الرقمية وومضاتها فائقة السرعة، والنسيان. بينما كل الوقائع جزء من ذاكرة البيانات الضخمة التي تحمل الذاكرة الكونية لعالمنا. يمكننا تصنيف النوستالجيا على نحو مبسط إلى عدة أنماط على النحو التالي:
- النوستالجيا الشخصية.
- النوستالجيا التاريخية لبعض المكونات الأساسية للمجتمعات العربية لجماعات مذهبية – سنة وشيعة ومسيحيين أرثوذكس وكاثوليك وبروتستانت أو بهائيين أو غيرهم.
- النوستالجيا الوطنية/القومية التي تتجلى في مجتمعات عربية مأزومة ومتفاقمة في مشكلاتها المركبة. ولا يبدو في أفقها السياسي أن ثمة حلولا متاحة أمامها في ظل الحكم التسلطي أو الشمولي المستبد. في هذه الوضعية بعض المعارضين يستدعي بعض من قادة تيارهم السياسي. مثل الناصريين والبعثيين في العراق وأتباع الكولونيل القذافي في ليبيا أو الليبراليين التوانسة من أتباع الحبيب بورقيبة! أو استدعاء مفهوم العدالة الاجتماعية متمثلا في سياساتهم الاجتماعية ونسيان قضايا الحريات العامة والشخصية. أو استدعاء بعض معارك مواجهة مرحلة الاستعمار الغربي. وما بعد الكولونيالية أو الانتصار السياسي، أو في حرب أكتوبر على المثال المصري أو التحرر الوطني من الكولونيالية الفرنسية الوحشية الوقحة في الجزائر!
- نوستالجيا بعض الشعوب لبعض الثورات التي أدت إلى تغيير هيكلي اجتماعي وسياسي في أنظمتها وبناء القوة داخلها وعلاقات الإنتاج مثل”ثورة” كرومويل كما يطلق عليها في التاريخ السياسي لبريطانيا، والثورة الفرنسية، والثورة البلشفية، أو الثورة الثقافية في الصين.
- نوستالجيا المهاجرين خارج بلادهم إلى بلدان أخرى وأصبحوا جزءا من مواطنيها. ويجتاح بعضهم الحنين للوطن الأم، وبعض من حياتهم وذكرياتهم قبل الهجرة. بعضها نتاج للوحدة والاغتراب وعدم الاندماج الاجتماعي.. إلخ.
- نوستالجيا الأمكنة والصداقات التي تستدعيها الذاكرة في لحظة ما أو ذكرى مرتبطة بمكان ما كان مؤثرا نسبيا في حياة الشخص/الفرد.
هذه الأنماط النوستالجية تستدعيها الذاكرة وصورها من قلب التاريخ الشخصي أو الجماعي أو القومي. لكي تؤدي وظيفة نفسية وسوسيولوجية ترمى إلى استعادة لحظات مؤثرة في حيوات هذه الأنماط وتحقيق إشباع ما. أو تماسك على هذه المستويات في لحظات تحتاجها شخصيا أو فرديا وجماعيا وقوميا إزاء أزمات الواقع الفعلي الموضوعي التي تواجه هذه الأنماط.
**
كان التأمل جزءا من اللجوء للنوستالجيا، وبعض من شغف البحث والحنين في الماضي. بحثا عن مصادر تشكيل الذات الفردية والجماعية في مساراتها المتعددة أو الملتوية أو المضطربة.
السؤال الذي نطرحه ما الجديد والمتغير في حالات وأنماط النوستالجيا؟!
يتمثل الجديد المتغير والمتحول في النوستالجيا المعبر عنها رقميا بصور الومضات والكتابة الشذرية على مواقع التواصل الاجتماعي. بعض التغيرات في عالم رقمي وفعلي مفعم بالأزمات الكبرى، والاضطرابات، والحروب الأهلية، وبين الدول. ثمة أيضا تضخم مفرط في الأنا والذوات الرقمية لدى الجموع الرقمية الغفيرة. وسطوة الأشياء والتشيؤ والاستهلاك المفرط والاستعراضات على حياة الجموع الرقمية والفعلية الغفيرة التي حلت محل كل ما هو حقيقي وفق جي ديبور. وخضوع الذوات الغفيرة لإعادة التشكيل المستمر عبر الاستهلاك الفعلي والرقمي من خلال نظم البيانات الضخمة تحت هيمنة الشركات الرقمية الكونية العملاقة.
حالة الغليان الحراري في عالمنا كله، والفيروسات المتحورة الذي يعيد طرح مسألة مركزية الإنسان في الطبيعة والوجود. وأسئلته الفلسفية والدينية والاقتصادية والرأسمالية المتوحشة بما فيها الرأسمالية الرقمية. حيث ثنائية الحرية والرقابة الرقمية مسيطرة في نعومة وسرية.
نوستالجيا
**
ظهور بدايات لإعادة النظر التاريخي والنقدي في بعض السرديات التاريخية حول بعض الأديان. وجمود بعض السلطات الدينية لها وعدم قدرتها على تقديم اجتهادات أو تجديدات تفسيرية وتأويلية لمواجهة أسئلة جديدة ومختلفة عن الأسئلة والإجابات النقدية القديمة الموروثة حول العقائد ونشأتها ومفاهيم الألوهية. وأيضا الأديان الأخرى الآسيوية والإفريقية وخاصة في ظل عصر الأناسة الروبوتية وما بعدها مع التطور فائق السرعة للذكاء الاصطناعي التوليدي والروبوتات قلق من وضعية الإنسان في عصر الاضطرابات والتحولات فائقة السرعة. عصر الخوف المدرك واللامدرك في الوعي الجمعي للشعوب، وثقافاتها المتعددة في عالمنا.
الجديد في حالات النوستالجيا ذي صلة بالتعبير الرقمي عنها بالصور والكتابات الوجيزة جدا الشذراتية عن استدعاءات الحنين للماضي والتعبير الومضاتي عنه. مجتمع الومضات الرقمي أثر على أنماط التفكير الرقمي والفعلي وأدى إلى شيوع السطحية والتفاهات والانطباعات المرسلة في الخطابات الشذراتية والقراءة الومضة. وأيضا التعبير عن النوستالجيا بصور الومضات والانطباعات الساكنة في أحكام القيمة الرغائبية وتشكل نوستالجيا الومضات والشذرات تعبيرا عن بعض من التشوش في الذاكرات الفردية والجماعية والقومية.
لغة الومضات والشذرات المضطربة فائقة السرعة، أثرت على تمثل واستعادة النوستالجيا من الذاكرات الفعلية إلى الرقمية. وساد التركيز الومضاتي سعيا وراء التفضيلات على مواقع التواصل الاجتماعي المتعددة. هذه المتغيرات أدت إلى تشكل النوستالجيا الرقمية ووظائفها السوسيو – نفسية والسياسية، والحث على مشاركات وتفضيلات الأصدقاء وغيرهم.
**
إنها ترمى إلى استدعاء الصور من الطفولة للمدارس إلى الجامعة والعمل والحب، والزواج والعشق والرفقة، والتريض والسفر للتصييف على الشواطئ أو بعض التفاصيل المؤثرة في حياة الفرد الرقمي. هنا النوستالجيا الرقمية ترمي أيضا إلى تحيين الذاكرة واستدعاءات لفرح ما وللحظة ما. ولكن معبرا عنه على نحو ومضاتي فائق السرعة في استهلاكه من المتابعين. بعض الممثلات والمطربات تدير صورهن النوستالجية لشبابهن وأفلامهن مع نجوم أيامهن. بعض من يديرون هذه الصفحات بأجر تعبيرا عن محاولة منهن أنهن لازلن في شرخ الشباب. ولاستعادة نوستالجيا أفلامهن القديمة، وهو تعبير عن الحنين لماضي غادرهن.
بعض المطربين والمطربات كبار السن يضعون قطعة صغيرة هي الأجمل في أغنياتهم. لمحاولة مواكبة الأغاني السريعة للأجيال الشابة الجديدة واستهلاكها الغنائي البالغ السرعة للموسيقى والأغنية.
بعض النوستالجيا السياسية تستعيد صورة زعيم وطني أو حدث تاريخي ومعها تعليق حاسم في حكمه التاريخي دون تعمق أو درس تاريخي للحدث ومالأته مثل سعد زغلول، ومصطفى النحاس باشا وأحداث 1919. و”الليبرالية” هكذا!! في مواجهة جمال عبدالناصر، ونظام يوليو 1952 مع إسقاط أحكام سطحية وانطباعية جازمة على الصور والتعليقات. أو تمجيد بعضهم للسادات ومبارك دونما تحليل لاختلالات النظام وسياساته. ونتائجه في تدهور الدولة والنظام السياسي والاجتماعي والانهيار الاقتصادي وسياسات التصنيع، والتعليم والصحة. وتفشي الفساد الهيكلي في الدولة والمجتمع وتراجع دولة القانون.
**
هناك صور ومضات وشذرات تعليقات ومضات في الإفراط في استخدام لا علمي، ولا تاريخي لمصطلح “ثورة” من العرابيين إلى 1919 إلى 23 يوليو 1952 إلى 15 مايو الساداتي إلى 25 يناير 2011 إلى 30 يونيو وهكذا.
كلها نوستالجيا ومضاتية رقمية حاملة لانطباعات سطحية وساذجة وتفتقر لموضوعية البحث والمناهج التاريخية. تحولت النوستالجيا الرقمية إلى توظيفات في الصراعات السياسية وسجالات الانطباعات الساذجة بين أشخاص وجماعات لا توجد قاعدة اجتماعية لها ولا لخطابها السياسي ونوستالجياتها الرقمية.
ثمة توظيف للنوستالجيا الرقمية من بعض الروائيين والروائيات والقصاصين والقصاصات والشعراء والشاعرات في نشر أغلفة أعمالهم/ هن الأولى وصورهم/هن. وفقرة أو فقرتين لناقد كبير أو صورة معه أو مع كاتب كبير! بعض الصور بعد أو أثناء الحصول على جائزة ما أيا كانت قيمتها وأهميتها.. إلخ.
**
كلها نوستالجيا لتوازن الذات وأنها ذات قيمة ومكانة أدبية، وأنها قدمت إبداعا بقطع النظر عن قيمة ما كتبه، أو كتبت. وهناك صور بعض الترجمات إلى اللغات الأجنبية بصرف النظر عن مدى ذيوعها بين بعض القراء الغربيين أو الآسيويين أو عدم انتشارها!
إنها نوستالجيا رقمية تستدعى بعض اللحظات لتثبت لذاتها وللمتابعين لها أنهم/هن لازلن ذوي أهمية في الحياة الثقافية الشاحبة في هذا البلد وذاك!
إنها مساع عبر الحنين والشوق إلى الماضي لإحداث توازن سوسيو- نفسي عبر بعض الذكريات التي عبرتها حالة هروب إلى النوستالجيا والذاكرة والتعبير الرقمي عنها في مواجهة واقع موضوعي مُتخم بالمشكلات والعوائق التاريخية والهيكلية والتخلف المركب. وعدم القدرة على مواجهتها في دول العسر العربية بالعقل الحر والفكر النقدي وحريات التعبير المحاصرة والفعل السياسي الحر، إنها نوستالجيا لمواجهة غياب الأمل في الحاضر والمستقبل الغائم!
بقلم
نبيل عبد الفتاح
نبيل عبد الفتاح كاتب وباحث ومفكر مصري تنويري ومستشار مركز الأهرام للدراسات الإستراتيجية
هوامش:
1- بوجمود شكود- مدونات – 2016
2- لمزيد من التفاصيل انظر موقع ويكيبيديا
عن موقع ( باب مصر )