تحديات في طريق الثقافة المصرية بقلم نبيل عبد الفتاح
تطورات التكنولوجية تفرض تحديات كبيرة على الواقع المصرى وعلى المثقفين المصريين
ثقافة «الرقمنة» تؤدى إلى انفجار الذات الإنسانية وإلى تحولات حادة فى القيم علينا أن ندرسها
الذكاء الاصطناعى سيؤدى لتحولات أشبه بالزلازل فى الثقافة والتعليم ندخل بها إلى عصر ما بعد الإنسان
إستهلال
فى العدد الماضى من جريدة ” الدستور ” طرح الباحث الكبير نبيل عبدالفتاح، الجزء الأول من دراسته حول مفهوم الثقافة فى مصر الآن، واشتبك نقديًا مع الفهم السائد للثقافة سواء فى مرحلة ما قبل ثورة يوليو أو ما بعدها وحتى ما قبل يناير ٢٠١١، منتقدًا عددًا من الظواهر مثل حصر الثقافة فى الفنون والآداب والاعتماد على أساتذة كلية الآداب كمحركين ثقافيين ومسئولين عن الهيئات الثقافية.. فى هذا العدد يواصل نبيل عبدالفتاح طرح التحديات التى تواجه الثقافة المصرية والمتمثلة فى التطورات التكنولوجية الحادة وسيادة الذكاء الاصطناعى، وأثره على الثقافة والتعليم، وهو ما يقود إلى ما سمّاه عصر «ما بعد الإنسان».. طرح جديد وجاد يُطرح لأول مرة فى الصحافة المصرية من خلال جريدة «الدستور».. فإلى المقال.
***
جزء من النزعة السوسيو- نفسية للجماعات الثقافية فى وقت الأزمات، والعصبة المنغلقة حول ذاتها، الميل للإدانة المحمولة على النقد والرفض فى عديد الأحيان للآراء المختلفة، وهى جزء من ميراث قمع العقل الحر دينيًا وسياسيًا، وجماهيريًا لينقض المألوف والشائع من أفكار، وقيم متناقضة، وتفسخ فى الأنسجة الاجتماعية، خاصة الرؤى والأفكار النقيضة للسلطات الاجتماعية والسياسية، والدينية. ومن البديهى- تبًا للبداهة- أن تحدى المنظومات السائدة يأخذ طريقين ومتابعات خلالهما:
أولها: طريق راديكالى يهدم الأبنية الفكرية والقيمية والعقائدية السائدة، ويطرح عليها أسئلة العصر وتطوراته ويمهد للقطيعة معها، وهذا حصاد الفكر الحداثى وما بعده، وما بعد بعده إلى القطع المعرفى مع بشائر وتحولات الثورة الصناعية الرابعة، والذكاء الصناعى.
ثانيهما: الطريق الإصلاحى الذى يرمى إلى إصلاحات فكرية ومؤسسية وسياسية واجتماعية جزئية لا تسعى إلى تقويض النظام الاجتماعى، أو السلطات السائدة وإنما إلى إصلاح بعض مثالبها واختلالاتها الهيكلية.
غالبًا كلا المسعيين يواجه بضراوة حادة من القوى المستفيدة من الأوضاع القائمة المأزومة، والمختلة، ويوظفون كل فرائض التخلف فى الفكر السائد، ومواريثه، خاصة الدينية، والسياسية والثقافية، إزاء كلا الاتجاهين، دونما تمييز، وهذا يعود لأن تقويض السائد «راديكاليًا»- جذريًا- أو جزئيًا يشكل تهديدًا لمكانتهم السياسية والدينية والاجتماعية، وأيضًا، وهذا الأهم، لمصالح كليهما كافة! والإصلاح والراديكالية كلاهما حلول تفرض المساءلة، والأهم الإقصاء!
من هنا تواجه النزعة الإصلاحية- والراديكالية- ميراثًا صعبًا، وقوى متضامنة، ومتعاضدة حول مكانتها ومصالحها فى السياسة والأديان والمذاهب والثقافة الرسمية ومنظمات المجتمع الأهلى- لأن المصطلح غير دقيق ومستعار ويروج له!- العاملة فى النشاط الثقافى، وبتمويلات خارجية فى الغالب لغياب دعم الدولة لها، ورجال الأعمال والتمويل الداخلى للأنشطة.
فى لحظات تفاقم المشكلات الموروثة والحالية، وفى مفارق الطرق، لا بد من العزم والحزم فى التعامل مع هذه الفرائض، من مصالح ومواريث إنتاج التخلف المركب، سعيًا وراء الخروج من سياجات الأزمة، والانتقال من نقد السلطة، إلى النقد المزدوج لها، وللمجتمع وقواه التى تبدو وكأنها فاعلة، بينما لا سند اجتماعيًا لها، إلا توظيفات الجماعات الدينية والسلفية، وبعض أركان السلطات السائدة!
من هنا تبدو الأهمية القصوى للعقل النقدى، العقل الحر، ودوره، وحمايته قانونًا من جائحات الفكر المتخلف واستدعائه للسلطة، أو المزايدات الاجتماعية إزاءه، وأيضًا غل يد بعض عناصر السلطة التى تميل إلى ميراث القمع بديلًا عن الحوار الحر والعقلانى.
لماذا هذا المدخل الموجز الحامل لبداهات، تبًا لها، لأن خطاب البداهات يعيد إنتاج ذاته، لأنه من المفترض أن يكون جزءًا من المساءلة والنقد، والرفض!
١- ما هى المشكلات الثقافية، المتفاقمة، والمنفجرة فى جهاز الدولة الثقافى، وبيروقراطيته، بعيدًا عن المجاملات الفارغة، وهل هناك سياسة.
٢- ما هى التحولات التى أدت إلى تراجع القوة الثقافية المصرية فى الإقليم العربى؟
٣- ما هى التحولات فى الثقافات العالمية المتعددة فى ظل ما بعد العولمة والانتقال إلى الثورة الصناعية الرابعة؟
٤- كيف يمكن استعادة القوة الثقافية المصرية وأهميتها ودورها فى نظام السياسة الخارجية فى إقليم متغير ومضطرب؟
٥- ما هى الأهداف التمناه من التجديد الثقافى المصرى؟
٦- ما هى مداخل التجديد الرسمى، والطوعى، وفى الإطار الثقافى العام للجموع الغفيرة؟
الأسئلة السابقة هى التى يجب أن تطرح مع غيرها فى أى محاورات رصينة وجادة، وخلاقة، وليس «الهوية والثقافة».
يميل غالب الجمهور المتعلم، وغيره إلى البحث عن حلول عملية ويأنف غالبهم من التحليلات النظرية المؤسسة على البحث والمعلومات واللغة السوسيو- سياسية والسوسيو- فلسفية، لأنها تبدو غائبة فى الأنماط الكتابية، والقولية، الشفاهية السائدة. هذا الاتجاه البراجماتى البسيط وعدم تمثل وقبول اللغة الاصطلاحية، هو دلالة تخلف فى الوعى العلمى والمعرفة ونمط التعليم النقلى، الاستظهارى السائد، أكثر من كونها بحثًا عن حلول عملية تستشرف المستقبل، وواقع المشكلات الموضوعى:
ساد ولا يزال هذا الاتجاه نتيجة تراجع وانحدار مستويات التعليم العام، والجامعى، وعدم إصلاحه وتطويره ليواكب تطورات التعليم فى عالمنا، وتراجع البعثات العلمية إلى الجامعات والمعاهد الغربية الأكثر تقدمًا!
من ناحية ثانية: تراجع البحث فى الجامعات لأساتذة الجامعات، وأساليب الترقى داخلها مع ازدياد الجامعات الإقليمية!
من ناحية ثالثة: غياب الطلب السياسى والطلب الاجتماعى على الثقافة، واعتبارها أمرًا هامشيًا فى ظل عسر الحياة، والبطالة، والمشكلات الاقتصادية والاجتماعية.
من ناحية رابعة: هيمنة قيمة الثراء، وجمع المال والسلوك الاجتماعى الاستعراضى، على نظام القيم الاجتماعية، وتحولت قيمة التعليم إلى محض الحصول على الشهادة الرسمية، فى التعليم العام والجامعى، ومن ثم تراجعت قيمة الثقافة لصالح الثراء.
من ناحية خامسة: استئثار ثقافة الجموع الرقمية الغفيرة، ومنشوراتها، وتغريداتها وفيديوهاتها للتعبير عن الذوات الفعلية، والرقمية المأزومة، والباحثة عن تحقق ما بعيدًا عن مصادر المعرفة والثقافة الرفيعة!
فى ظل هذه الاعتبارات، نجد أن هناك إدراكًا سياسيًا سلطويًا، واجتماعيًا غالبًا على تهميش الثقافة على نحو أدى إلى تراجع، وصمت المثقفين النقديين إما يأسًا من الأوضاع السائدة، أو لأن بعضهم لا يواكب ما يحدث كونيًا، أو لمشاركة بعضهم فى وسائل التواصل الاجتماعى من أجل الصورة، واللقطة الومضة فى الإنستجرام، أو الفيسبوك، أو التيك توك، أو من أجل إشهار عمل روائى أو قصيدة، أو ديوان.. إلخ، بقطع النظر عن الأهمية السردية، أو الشعرية.. إلخ، لهذا العمل، أو ذاك، كلها عوارض أزمة متفاقمة عن الوعى الاجتماعى والسياسى بالثقافة، وأهميتها. فى ظل هذه «المتغيرات» نحاول التبسيط غير المخل، وسنبدأ بالتركيز على التحولات فى ثقافات العالم على نحو موجز، وربما مختزل، وأثرها على ثقافتنا، وذلك على النحو التالى:
أولًا: تحولات الثقافات الكونية المتعددة: أثرها على الإبداع، وعلى ثقافة ووعى الجماهير الرقمية والفعلية الغفيرة.
لا نزال نعيش فى عصر وأسئلة الحداثة المبتورة والمغدورة وثنائياتها الضدية- المعاصرة والأصالة، والتقدم والتخلف، والحداثة والتقليدية.. إلخ، بينما عالمنا حسم منذ الحداثة أمورها لصالح سلطة العقل النقدى، والتمايز بين الوضعى/ الاجتماعى والسياسى والثقافى وبين الميتاومضى- ما وراء السياسى والدينى والاجتماعى المستمد من المقدس وسردياته التاريخية الوضعية، هذه القطعية المعرفية أحدثها الفكر النقدى والحركات السياسية بعد الثورات كرومويل فى بريطانيا، والثورة الفرنسية، ونشأة الدولة القومية، وحركة القوميات، مع توحيد الأسواق والدول مع تطور الرأسمالية الغربية. هذا العالم تغير فلسفيًا وفكريًا وسوسيولوجيًا، مع التحول إلى ما بعد الحداثة، ثم العولمة، وما بعدها، وصولًا إلى المراحل الأساسية للثورة الصناعية الرابعة. من هنا ثنائياتنا القديمة التى لا يزال فكرنا يعيد إنتاجها دون حلول خلاقة، وفاقم منها سعى الحركات الدينية السياسية والسلفية، وغالب الأزهريين، تدين المجال الثقافى، وكبح العقل الحر، وحرية الضمير وملاحقة بعضهم للعقول الحرة والخلاقة بالتكفير حينًا، والتفسيق حينًا آخر، واتهام بعضهم بالإلحاد مرة ثالثة.. إلخ.
لا شك أن ذلك أثر سلبًا على الإبداع، والفكر الحر الخلاق، وإلى الجمود وسطوة العقل النقلى الوضعى والدينى الاتباعى، ناهيك عن المجال العام المغلق، الأمر الذى أدى إلى عدم تكيف الثقافة، بالمعنى الضيق، عن استيعاب ما يحدث من تطورات، والجديد سينشأ على هامشها تحت تأثير المتغيرات الخارجية كوسائل التواصل الاجتماعى. ثم محاولات الجموع الغفيرة ترويج أنماط تدينها الشعبية، ومروياتها واختلاطها بأساطير الثقافة الشعبية، وقيمها بالتدين- والتدين الشعبى غير الدين فى عليائه وقيمه العليا، وفرضها لأنها تعبر عن حضورها كذوات فعلية، ورقمية، فى مواجهة السلطة السياسية، والسلطة الدينية، والجماعة الثقافية، والروائيين والشعراء والمسرحيين والفنانين التشكيليين، والمعماريين.. إلخ. ضغوط هذه الجموع الغفيرة الرقمية والفعلية شديدة، وفعالة فى محاولة التعبير عن ذواتهم، وآرائهم وأذواقهم فرضًا، كنتاج لموت السياسة، وغياب طبقة سياسية لديها رأسمال خبراتى، وعقل سياسى خلاق وخيال سياسى مبدع وفعال!
هذه الضغوط الفعالة فى الفكر والفنون والقيم الاجتماعية والسياسية والموسيقى- الراب والمهرجانات.. إلخ، هى تعبير عن بعض الثقافة بالمعنى الواسع لأنها تنطوى على معايير دينية وأخلاقية وقيم اجتماعية وسياسية وأنماط من الأذواق فى تفاصيل الحياة اليومية، وفرضت طقوسها، ولغة رقمية محكية وموجزة ومختصرة، وسطحية وتافهة فى غالبها، وإزاحة عامية الشارع لصالح عامية رقمية، وإقصاء العربية الفصيحة المتدهورة.. إلخ.
إذن ثقافة رسمية وأجهزتها تعانى من وهم المركزية والهيمنة الرمزية، والفعلية على الواقع الثقافى وتعانى من عزلة على ثلاثة مستويات، عن ثقافة الجموع الفعلية والرقمية الغفيرة، وتحولاتها. وثانيها: عن تحولات مراكز القوة الثقافية وتحولاتها والجماعات الثقافية العربية «انظر فضائح ترشيحات جائزة النيل للعرب مثالًا» على تعددها الداخلى، والوطنى فى كل بلد! وثالثها: وأخطرها عن تحولات الثقافات والمعرفة كونيًا.
العقل الثقافى البيروقراطى ساكن فيما يعرف، ولا يتحرك سعيًا وراء ما لا يعرف كونيًا، ومصريًا وعربيًا! الأخطر أن بعضهم سعيد بما يعرف، ولا يريد أن يعرف. هذا العقل الساكن والساكت عقبة كأداء إزاء تطورنا الثقافى العام، ويعرقل أى محاولة جادة لتطوير وتجديد هياكل وهيئات وزارة الثقافة، ويساهم بجدية منقطعة النظير فى إهدار الموارد، بحيث تحولت ميزانية الوزارة فى غالبها إلى أجور ومكافآت وضغوط على الدولة. «تحولت من ٨٤٫٦٪ فى عهد جابر عصفور، و٩٠٪ فى عهد الأستاذ حلمى النمنم».
فى ظل أوضاعنا الثقافية الحالية، وتحولات الثقافات العالمية، ومعضلة عدم القدرة على استخلاص خلاق بين النقل والعقل وبين التراث والحداثة، هل هناك إمكانية للخروج من هذه الدائرة شبه المغلقة، والدفع بالعناصر الدينامية فى الإرث الحداثى إلى الأمام؟
أبرز تحولات الثقافات العالمية فى اللحظة المتحولة الراهنة، تبدو فيما يلى:
١- هيمنة ثقافة وقيم الاستهلاك المفرط الذى حول كل ما هو حقيقى إلى تمثيل، وفق جى ديبور وتحول الإنتاج الثقافى، مع تطور السلوك، والذائقة، والتقنيات الثقافية إلى سلع ثقافية تعتمد على الدعاية والترويج والموضات والاستهلاك السريع.
٢- بروز تحولات جلية أثرت على الإنتاج الثقافى فى الموسيقى والتجريب فى المسرح والفنون التشكيلية والغناء والفنون الشعبية.
٣- بروز سلطة التلفاز والصورة إلى عالم الفضائيات، ومنها إلى عالم الثورة الرقمية، وأثرها الثقافى اتسم بتحولات كثيفة عميقة وتشكل حالة من السيولة، وربما القطيعة مع الثقافات الكونية المتعددة التى سادت قبلها وتتمثل فيما يلى:
١- ثورة الجموع الرقمية الغفيرة من العاديين فى حالة من التراخى وفوضى الحياة العارية، حيث حريات بلا حدود أيًا كانت خبرات وتعليم، وجهل وسطحية الغالبية العظمى من العاديين، باتت الثقافة الرقمية غالبة، ومعها حالة من استعراضات الذات الرقمية وتعبيراتها عن ذاتها بالمنشورات والتغريدات، والصور والفيديوهات الطلقة من استعراض الآراء والمواقف وخطابات النبذ والاستعراضات الجسدية والمأكل والشراب والغناء.
لا شك أن الثقافة الرقمية شكلت حالة من الانكشاف المليارى للجموع الرقمية الغفيرة والاتصالات العابرة للدول والمجتمعات والثقافات.
انتهى عالم مكدلة العالم macdonlisition of the warld إلى عالم رقمنة العالم.
الاتجاه الرئيسى فى ثقافة رقمنة العالم هو انفجار الذوات الإنسانية وتحولاتها القيمية، والحواسية، والنفسية ومكبوتاته من الذاتى الفعلى إلى الافتراضى، وحالة من المزاحمات المليارية لتبدو الذات الرقمية حاضرة إنها أزمة وجود وإثبات للذات.
٢- ثقافة الاختزال والإيجاز والسرعة والتبسيط، حيث لا مجال للتأمل والتحليل والاستيعاب والتمثيل الخلاق، كلها تعبيرات مما نستطيع أن نطلق عليه ثقافة الومضات الخاطفة.
٣- لا شك أن ثقافة الومضات الخاطفة ستؤثر على السينما والمسرح، والفنون التشكيلية والغناء، فلا مجال، ولا وقت إلا للأجيال الأكبر سنًا لمتابعة مثل هذا الإنتاج الذى شكل الثقافات الحديثة وما بعدها.
٤- أرهصت التطورات الثقافية منذ نهاية القرن الماضى لهذا التغير، من التحول من الثقافة الرفيعة إلى ثقافة الأجيال الجديدة، فى الموسيقى والغناء والرقص أو ما يمكن أن نطلق عليه ثقافة المتعة السريعة، فى الفنون والطعام والشراب السريع مع شيوع نزعة أمركة، ومكدلة العالم.
٥- التحول الجديد أن ثقافة الجموع المليارية الرقمية الغفيرة باتت موضوعًا لإعادة تشكيلها من خلال عصر البيانات الضخمة pig data من خلال الشركات الرقمية العملاقة التى تصنف الرغبات وأنماطها وأهواءها وتعيد تشكيلها عبر بيعها للشركات العملاقة.
٦- التغير والتحول والقطيعة برزت بشائرها مع الثورة الصناعية الذكية الرابعة، متمثلة فى إنتاج وتطور الروبوتات فائقة التطور، وبروز ما يطلق عليه الأناسة الروبوتية وإرهاصات التحول إلى ما بعد الإنسانية.
هذه التحولات يبدو أثرها الإيجابى والسلبى خارج نطاق السلطة الثقافية المصرية، الاستعراضية، وأداء أجهزتها وفى ذات الوقت باتت مؤثرة على الثقافة اللا رسمية وبالمعنى العام فى القيم، واللغة والأساطير اليومية الجديدة وفى نظام الموضة، وأساليب التعبير، وعلى الأجيال الجديدة من السينمائيين- السينما المستقلة والمسرح المستقل- وعلى لغة وأدوات وأساليب الفنون التشكيلية وأخيلتها وعلى موسيقى الراب، والمهرجانات وعلى قيم الاستعراض والتمثيل فى نظام الزى للأثرياء، واستعراضاتهم فى الساحل الشمالى أو القاهرة والمراكز السكنية الخاصة خارج العاصمة ومطاعمها ومشاربها وملاهيها… إلخ! فى نظام الزى والموضة وفق العلامات غالية الثمن، التى تقلد فى الصين وآسيا، ومع ديمقراطية الزى الكونية باتت جزءًا سائدًا فى مصر، وجنوب العالم، علامة على التأثر بالتحولات الثقافية العالمية.
أثرت التحولات الثقافية العابرة للثقافات المتعددة فى بروز أصوات المكونات الثقافية والعرقية والمناطقية، والدينية والمذهبية، وذلك عبر وسائل التواصل الاجتماعى، ومنها اللا دينيون، والمتحولون دينيا وجنسيًا وتنظيراتهم، ومعهم المعبرون عنهم سياسيًا فى الطبقات السياسية فى الدول الأكثر تطورًا فى عالمنا، وانعكاس ذلك ثقافيًا على المجال العام الكونى الافتراضى والفعلى، وعلى المنصات السينمائية مثل نتفليكس وغيرها، وهو ما يجد صدًا ورفضًا من السلطات السياسية والدينية ويشجع هذه الفئات على التعبير عن نفسها دون خوف!!.
أثرت هذه التحولات على أنماط التدين الرقمى للجموع الرقمية الغفيرة وبروز ظواهر المحتسبين الرقميين على إيمان الآخرين وأشكال التنمر والتكفير والتقريع، وشارك هذه الجموع المحتسبة بعض رجال الدين الرسميون والجماعات السلفية والإسلامية السياسية، وفاقم ذلك من التوترات والاحتقانات الاجتماعية كنتاج لانهيار التعليم العام والجامعى والصراع متعدد الفاعلين والأطراف على المجال الدينى، وسعى كل طرف لتسييد آرائه الوضعية حول الدين والمذهب أيًا كان! على نحو جعل المجال الدينى منفلتًا، وخارج السيطرة.
امتدت تحولات الثقافات الكونية حول كرة القدم والتنس وغيرهما من الألعاب إلى اختطاف عيون وعقول وخيال الملايين الغفيرة إلى المسابقات الأوروبية والعالمية ونجومها اللامعة، والاشتراك فى القنوات الخاصة أو الدخول سرًا إليها بطرق تقنية مختلفة أثر ذلك على وعى الجموع الرقمية الغفيرة من العاديين ، وغيرهم إلى المسابقات الأوروبية الوطنية والقارية وولعهم بكبار اللاعبين النجوم على المستوى القارى والكونى. أدى ذلك إلى الفتور بالمسابقات واللاعبين المحليين، وتحول الرياضات إلى صفقات ضخمة، وأجور غالية ومبالغ فيها، ساهم ذلك فى استخدام الرياضة كثقافة، خاصة كرة القدم فى تشتيت اهتمام الجموع الغفيرة، وبث الانقسام داخلها من بعض أو غالب قادة الأندية، لبناء المكانة والنفوذ، والذيوع وصناعة «التريندات»- الفيسبوك وتويتر وإنستجرام ويوتيوب- صناعة الاتجاه الرائد إلى الموضوعات الساخنة أو الجديدة، أو الواقعية التى يهتم بها الجمهور حديثًا أو مشاركة فى التعليق بالإيجاب ويتفاعلون مع بعضهم بعضًا، تعليقًا على واقعة أو حدث أو رأى أو خطاب سياسى لزعيم سياسى معارض أو فى السلطة، أو على شائعة أو وقائع قتل أو ضرب أو طعن، أو على تغير فى شكل ممثلة، أو مغنية، أو فضيحة جنسية أو طلاق أو خيانة أو زواج أو موت… إلخ، واقعة أو حدث أو صورة تشكل مركزًا للتفاعل الرقمى الواسع حولها تأييدًا أو رفضًا تحبيذًا أو قدحًا، كلها تغيرات ثقافية تحت الأثر الكونى الاتصالى والأدائى لثقافة وسائل الاتصال الرقمية وتطوراتها، توظف بعض السلطات العربية هذه الاتصالات أحيانًا فى كسر حدة التناقضات والاحتقانات الاجتماعية والسياسية، خاصة بعد ما سمى مجازًا بالربيع العربى.
لا شك أن أثر هذه التحولات كان كبيرًا فى ازدياد الفجوة الواسعة بين الثقافة بالمعنى الضيق وثقافة الجموع الغفيرة الفعلية والرقمية والانفصال بين الثقافة الرسمية وسلطاتها وأجهزتها الرسمية عربيًا، وبين الثقافة غير الرسمية من خلال المؤسسات والجمعيات الأهلية العاملة فى النشاط الثقافى الأهلى، واستطاع بعضها التكيف مع التحولات الثقافية الكونية وانتقل من المحلى إلى الإقليمى بدعم من المؤسسات الطوعية فى العالم الأكثر تطورًا وإلى الحياة الرقمية عربيًا وعالميًا، بينما تنكمش أجهزة الدولة الثقافية داخليًا وتتراجع إقليميًا!.
الأخطر أن أثر الذكاء الصناعى على الثقافة والتعليم سيكون زلزاليًا مع ظواهر التحول إلى الأناسة الروبوتية وما بعد الإنسان، وهو ما سيفرض نفسه على الحياة الكونية ولن يكون مؤثرًا فقط على ثقافة المجتمعات الأكثر تطورًا فى الشمال، وآسيا الناهضة، وإنما سيؤدى إلى تهميش مؤسساتنا وتعليمنا وثقافاتنا العربية، لأننا غير مؤهلين للدخول فى هذا العصر الزلزالى العاصف بالأسئلة الجديدة والمعارف المختلفة بسبب تعليم متخلف وحصار واعتقال العقل الحر والإبداع وبيروقراطية تنتهى إلى أوائل القرن الماضى.
الفكر الفلسفى والاجتماعى فى عالمنا المتحول بدأ بعضه فى طرح أسئلة جديدة على الشرط الوجودى الإنسانى والخلل فى العلاقة مع الطبيعة، ووجود كائنات فيروسية غير مكتشفة وبعضها متحور كفيروس كورونا وأثرها الاجتماعى والسياسى والاقتصادى على النظم السياسية والاجتماعية وعلى ثقافة مركزية الإنسان فى الوجود، والكون.
ثم أثر التغيرات المناخية على الحياة الإنسانية وعلى التخطيط العمرانى والكتل والأنسجة المعمارية، ونظام السكن ورقمنة العمل، وأثر ذلك على تطور أوضاع العمل ومكانه فى ظل خروج أكثر من خمسين مليونًا من العمالة-٢٠٢٠ لأن أعمالهم ستنتهى تمامًا من أسواق العمل فى العالم، وربما أكثر من هذا الرقم الأولى بعد دخول الروبوتات الحياة الإنتاجية والاجتماعية والعلمية على نحو ما سوف تحمله من أسئلة مختلفة فى حياة روبوتية وإنسانية مختلفة مثل هذه الأسئلة الجديدة غائبة عربيًا ومصريا، ولا يعرفها ويتابعها إلا قلة القلة من المثقفين والمفكرين البارزين من خارج الرسمية، بل المجموعات والعصب الثقافية فى المركز الثقافى للبلاد حول القاهرة، وبعضهم خارجها فى الأقاليم الريفية الذين يقرأون بعضهم بعضًا، ويهجون من هم خارجهم من المجموعات الأخرى الفعلية والرقمية. يبدو أيضًا الإعلام المرئى والصحفى المكتوب والرقمى بعيدًا عن تحولات العالم معرفة ووعيًا. الأخطر أن السلطة البيروقراطية الثقافية غارقة فى تكوينها ووعيها المحلى الفعلى والرقمى، خاصة فى ظل تراجع تكوين النخب فى كليات الآداب الذين يتم تجنيدهم فى السلطة الثقافية الرسمية، وغياب الفلسفة عن زمن العالم والإقليم إلا قليلًا، وأيضًا عن الحوار العام والاشتباك مع مشكلات الواقع المتغير مصريًا وعربيًا وعالميًا!.
فى ظل هذا الجمود والنزعة النقلية فى العقل الحداثى المبتور، وأيضًا العقل النقلى التقليدى التراثى والدينى المسيطر أزهريًا وسلفيًا وإخوانيًا… إلخ، تبدو النخب الرسمية تعيش وتفكر خارج زماننا المتحول ثقافيًا واجتماعيًا.
تبدو الصور والمشاهد والوقائع المتدفقة فى حياتنا اليومية صادمة، خاصة الصراع بين القيم القديمة الساكنة والمدافعين عن جمودها وضعفها، وبين القيم الجديدة والمتغيرة التى تصدم المثقفين والثقافة السائدة والوعى السلطوى والنخبوى السائد الذى يدافع عن قيم أصابها الضعف، والتآكل بفعل التغير الاجتماعى والسياسى وظواهر الضعف الدينى والاجتماعى والتغير فى القيم، والنظام الأخلاقى الذى كان سائدًا ويتغير فى سرعة وانفلات، وتبدو الفجوة واسعة بين ثقافة بيروقراطية أجهزة الدولة على اختلافها، وبين القيم الجديدة وانفلاتها وخطورة بعضها على الأنسجة الاجتماعية والتعليمية والأخلاقية، كنتاج أيضًا للتغير الناتج عن ثقافة وسائل التواصل والمواقع الإباحية وثورة الحواس غير المألوفة وأثرها على السلوك الجنسى، فى ظل غياب دمج وتفاعل بين الثقافة والتعليم والإعلام، وهو ما أدى إلى انفلات قيمى وسلوك جماهيرى وبين الثقافة السائدة وبين ثقافة مضادة تفرض نفسها فى الواقع الفعلى والحياة الرقمية!
السؤال الثانى: لماذا تراجعت القوة الثقافية المصرية؟ وما تحولات الثقافات العربية ومراكزها المؤثرة إلى إقليم النفط العربى، والمنطقة المغاربية؟ كيف يمكن استعادة هذا الدور فى إطار تعدد المراكز الثقافية العربية؟.
بقلم
نبيل عبد الفتاح
عن جريدة ” الدستور ” بتاريخ الثلاثاء 13 سبتمبر
د.نبيل عبد الفتاح كاتب وباحث ومفكر مصري مقيم في القاهرة.مصر