حفيدة الطهطاوي رائد نهضة مصر الحديثة، تدعو لتدشين منطلق نهضوي جديد.في باب ” مختارات سينما إيزيس )
دعت حفيدة رفاعة رافع الطهطاوي، رائد النهضة العربية والإصلاح الفكري في عهد محمد علي، العرب إلى “تدشين منطلق نهضوي جديد لا يقوم على سؤال النهضة، أي سؤال اللحاق بالغرب، ولكن ينبغي استبداله بسؤال جديد، وهو كيف يمكن تحقيق نهضتنا العربية، انطلاقا من أرضيتنا الثقافية، مستفيدين من منجزات العصر المادية والفكرية”.
وشدّدت الأكاديمية المصرية، ماجدة رفاعة، على ضرورة “التحرر من التبعية للثقافة الغربية، وإعادة قراءة تراثنا العربي برؤية عقلانية نقدية، من أجل امتلاكه وتفجير ما به من أسس ومفاهيم يمكن البناء عليها، وبذلك ندشن معاصرة قائمة على مواكبة العصر، والمساهمة فيه إنتاجا وإبداعا، بدلا من معاصرة قائمة على التبعية والنقل والاستنساخ”.
ورأت حفيدة الطهطاوي، في الحلقة الأولى من مقابلتها الخاصة مع “عربي21″، أن “النهضة العربية أحاطها الكثير من التوتر والارتباك، لأن عملية التحديث بدأت بقرار فوقي من السلطة وليس بفعل عوامل أو تغيرات ذاتية في الواقع الاجتماعي”.
وأضافت الأكاديمية المصرية، التي تقيم حاليا بالعاصمة الفرنسية باريس، أن أفكار فلاسفة الثورة الفرنسية وعصر التنوير تركت أثرا عميقا في فكر رفاعة، منوهة إلى “وجود ثلاث نقاط تحول رئيسية في حياة رفاعة، وهي: لقاؤه وتأثره بالشيخ حسن العطار، والسنوات الخمس التي قضاها في باريس، واحتكاكه بالحضارة الغربية، ثم عودته مرة أخرى إلى مصر”.
ولفتت حفيدة الطهطاوي إلى أن ما وصفته بـ “المنهج التوفيقي الذي اتبعه رفاعة من أجل التوفيق بين المفاهيم الغربية الحديثة والتراث الإسلامي، كان بداية نشأة الازدواجية في فكرنا العربي، حيث أصبح فكرنا حائرا بين الأصالة والمعاصرة”، مؤكدة أن “الفكر العربي لم يحسم أمره حتى الآن؛ فهو في لحظة ينتصر للأصالة، وفي لحظة أخرى ينتصر للمعاصرة، وأحيانا يحاول التوفيق بينهما”.
لقطات من فيلم ” البحث عن رفاعة ” لصلاح هاشم
وتاليا نص الحلقة الأولى من المقابلة الخاصة:
“سؤال النهضة”
قبل سنوات تم إنتاج فيلم بعنوان “البحث عن رفاعة” للناقد السينمائي صلاح هاشم، فأين رفاعة منا اليوم، وأين نحن منه في واقعنا المعاصر؟
لقد كان لي حظ مشاهدة فيلم “البحث عن رفاعة” للمخرج المبدع الأستاذ صلاح هاشم، والفيلم لم يكن سيرة ذاتية لرفاعة الطهطاوي، ولكنه كان يطرح سؤالا مهما: ماذا بقي من تجربة رفاعة التي كانت بمثابة ثورة فكرية تنويرية في القرن التاسع عشر؟
وهذا السؤال يطرح سؤلا آخر: هل كان طرحنا لسؤال النهضة صحيحا؟ ذلك السؤال الذي ما زالت أصداؤه تتردد حتى يومنا هذا: لماذا تأخرت الحضارة العربية الإسلامية وتقدم الغرب؟ وكيف يمكننا اللحاق بركب الحضارة الحديثة؟
مشروع النهضة الذي انطلق من مصر، لم يأتِ نتيجة تغيرات ذاتية في الواقع الاجتماعي – كما حدث في حالة النهضة الأوربية – ولكنه أتى أولا، نتيجة الصدمة التي أحدثتها الحملة الفرنسية على مصر سنة 1798، والبعثة العلمية المصاحبة لها. ثانيا، مع اعتلاء محمد علي حكم مصر 1805 وشروعه في بناء دولة حديثة على النمط الأوروبي.
وقد وُلد مشروع رفاعة للنهضة في هذا السياق، فلم تسبقه حركة إحياء للتراث – كما حدث للنهضة الأوروبية – بمعنى إعادة قراءة التراث من أجل تنقيحه مما علق فيه من شوائب، وإعادة ترتيب أجزائه من أجل الارتكاز عليه والانطلاق نحو المستقبل. وإنما جاء نتاج ثلاثة مؤثرات متداخلة. أولها، تأثير أستاذه الشيخ حسن العطار الذي نقل إليه بالإضافة للعلوم الدينية التي تدرس في الأزهر علوما أخرى كالتاريخ، والجغرافيا، والأدب، بالإضافة لما أطلع عليه من علوم ومعارف أثناء احتكاكه بعلماء الحملة الفرنسية.
أما العامل الثاني فكان ذهابه إلى باريس وتعرفه على الحضارة الغربية. وتمثل العامل الثالث بالتقاء حلم رفاعة بالنهوض بالوطن مع مشروع محمد علي لتحديث الدولة المصرية.
ولعل هذه البدايات تشير إلى حقيقتين، الأولى أن سؤال النهضة جاء كرد فعل للشعور بالتفاوت الحضاري بيننا وبين الغرب. والثانية، أن عملية التحديث بدأت بقرار فوقي من السلطة، وليس بفعل عوامل ذاتية، فجاءت النهضة العربية يحيطها الكثير من التوتر والارتباك.
طُرحت مسألة الأصالة والمعاصرة في إطار سؤال النهضة، ليس من منظور يرفض الحضارة الغربية الحديثة ومظاهر تقدمها المادية والمعنوية، ولكن بوصفها نموذج التقدم الذي يجب اللحاق به في إطار الحفاظ على تراثنا الديني والثقافي.. ما تعليقكم؟
لقد أدرك رفاعة ضرورة أن ينقل العرب من الغرب علومه ومعارفه واختراعاته، وكانت وسيلته إلى ذلك الاجتهاد وتأويل التراث الإسلامي بما يسمح باستيعاب ركائز ومفاهيم الحضارة الغربية داخله. إذن التوفيق كان وسيلته في نقل هذه المعارف والعلوم، ولكنه لم يكن توفيقا تجاوريا، أو نقلا دون تبصر، ولكن كان يخضع كل ما يأخذه من الغرب لمعيارين، الأول، مدى إضافته لمشروعه النهضوي، والثاني، ألا يتعارض مع الدين والشريعة.
وكان رفاعة مثقفا صاحب مشروع في الواقع، أهم معالمه، التوسع في التعليم والانفتاح على العلوم العصرية، وإقامة قاعدة صناعية، والتوجه نحو نظام الحكم الليبرالي الذي يعني تقييد سلطة الحاكم بالدستور، وسيادة القانون، واحترام الحقوق الفردية والمدنية. إلا أن هذا المنهج التوفيقي الذي اتبعه من أجل التوفيق بين المفاهيم الغربية الحديثة والتراث الإسلامي، كان بداية نشأة الازدواجية في فكرنا العربي. وأصبح فكرنا حائرا بين الأصالة والمعاصرة، في لحظة يحاول التوفيق بينهما، وفي لحظة أخرى ينتصر للأصالة أو العكس (ينتصر للمعاصرة)، ولكن الفكر العربي لم يحسم أمره في هذه المسألة لليوم.
لماذا لم تنجح النهضة الحديثة في تحقيق أهدافها؟ ولماذا ظل التراث منذ القرن التاسع عشر إلى يومنا هذا يوضع بصورة أو بأخرى مقابل تحديات العصر؟
يكمن مأزق النهضة العربية الحديثة – في تصوري- في الظروف الموضعية التي أنتجتها، فهي لم تكن تعبيرا عن قوى اجتماعية، ولكن بدأ التحديث في مصر مع محمد علي، ليلبي طموحاته في بناء دولة قوية حديثة -كما أشرنا سابقا- ولكنه لم يرغب أن يتجذر التحديث في المجتمع كله، فاقتصر التحديث على القطاعات ذات الصلة بجهاز الدولة، والجيش. وهو عكس ما هدف إليه رفاعة، الذي كان يسعى لتحديث المجتمع ككل، ولكن ارتباط مشروعه بدولة محمد علي، ومن بعده ذريته، لم يُتح لرفاعة استكمال مشروعه. وظلت أفكاره تحملها النخبة المتعلمة.
ثم جاء التوسع الاستعماري الأوروبي في أواخر القرن التاسع عشر، الذي فرض علينا نموذجه الحضاري. في مرحلة أولى، من خلال عملية تحديث كولونيالي، بمعنى تحديث القطاعات فقط التي تسهل للمستعمر بسط نفوذه واستنزاف موارد البلد المستعمر. وفي مرحلة ثانية، من خلال التبعية والهيمنة، وهي المرحلة الممتدة إلى يومنا هذا، الأمر الذي كرّس ولا زال يكرّس ازدواجية في جميع مجالات حياتنا المادية والفكرية.
إن الحاجة تدعونا، نحن العرب إلى تدشين منطلق نهضوي جديد لا يقوم على سؤال النهضة، أي سؤال اللحاق بالغرب، ولكن يستبدله بسؤال جديد، وهو كيف يمكن تحقيق نهضتنا العربية، انطلاقا من أرضيتنا الثقافية، مستفيدين من منجزات العصر المادية والفكرية؟
وتتطلب الإجابة عن سؤال النهضة الجديد – في تصوري- تحقق شرطين متلازمين، الأول، التحرر من التبعية للثقافة الغربية، وذلك بقراءتها في تاريخيتها، واستيعاب مفاهيمها، ودراسة أسس تقدمها، ومحاولة استنباتها في تربتنا الثقافية. والشرط الثاني، إعادة قراءة تراثنا برؤية عقلانية نقدية، من أجل امتلاكه وتفجير ما به من أسس ومفاهيم يمكن البناء عليها. بذلك ندشن معاصرة قائمة على مواكبة العصر، والمساهمة فيه إنتاجا وإبداعا، بدلا من معاصرة قائمة على التبعية والنقل والاستنساخ. وبذلك أيضا تنتفي الازدواجية في فكرنا وما يصحبها من تساؤل متوتر حول الأصالة والمعاصرة.
“نقاط التحول الرئيسية في حياة رفاعة”
هل هناك نقطة تحول رئيسية في حياة رفاعة الطهطاوي؟ وهل فرنسا كانت السر في ذلك؟ وهل كان الشيخ حسن العطار أكثر شخصية تأثر واقتدى بها؟
هناك ثلاث نقاط تحول رئيسية في حياة رفاعة، الأولى كانت لقاءه بالشيخ حسن العطار في جامع الأزهر الذي التحق به في عمر السادسة عشر، حيث كان الشيخ العطار، الذي تولى مشيخة الأزهر عام 1830، ذا ثقافة موسوعية. لكن أهمية العطار تكمن -في تقديري- في كونه نتاجا لحركة الصحوة الفكرية للنصف الثاني من القرن الثامن عشر، الذي شهد بدايات حركه نهضوية شاملة في الفقه واللغة والعلوم الطبيعية، وكان تلميذا لمرتضى الزبيدي أحد أبرز أعلامها، صاحب أهم موسوعة لغوية “تاج العروس”. وكان الشيخ العطار حلقةَ الوصل التي وصلت رفاعة بهذه الحركة التحديثية.
ما أقصده بهذا أن حسن العطار نقل إلى رفاعة بذور نهضة أصيلة، كان من ممكن أن تتطور ذاتيا، لو لم يقطع مسارها غزو الحملة الفرنسية لمصر. وأشير هنا للدراسة الجادة في هذا الموضوع، للمؤرخ الأمريكي بيتر جران “الجذور الإسلامية للرأسمالية، مصر 1760 – 1840”.
ولقد خص الشيخ حسن العطار تلميذه رفاعة الطهطاوي، باهتمام خاص سواء على صعيد حياته العلمية أو العملية. فبالإضافة لمساهمته في تكوينه الفكري، فهو الذي رشحه لمحمد علي، ليكون إماما لأكبر بعثة أرسلها إلى باريس. ولقد تمثل رفاعة ما كان أستاذه الشيخ العطار يردده “إن بلادنا لابد أن تتغير أحوالها، ويتجدد بها من العلوم والمعارف ما ليس فيها”.
أما نقطة التحول الثانية فكانت السنوات الخمس التي قضاها في باريس 1826 – 1831، واحتكاكه بالحضارة الغربية، التي كان لها أثر كبير في تكوينه الفكري، ومن خلال تفاعل الإرث الثقافي للتراث العربي/ الإسلامي، والإنجازات الفكرية للحضارة الغربية تبلور مشروع رفاعة للنهضة.
ومثلت عودته من باريس 1831، نقطة التحول الأهم، حيث انتقل مشروعه لنهضة مصر من مجرد فكرة إلى مجال التنفيذ، وتم ذلك برعاية محمد علي الذي أولى رفاعة اهتماما كبيرا، ورأى في مشروعه تدعيما لدولته.
وعلى مدار أربعين عاما لم يتوقف رفاعة عن العمل، فأنشأ مدرسة الألسن، كما أنشأ قلم الترجمة، وأشرف على الوقائع المصرية، وكذلك أشرف على ديوان المدارس، والكتب خانة الإفرنجية، ورأس تحرير “روضة المدارس”، وهي أول جريدة فكرية ثقافية أدبية تصدر في مصر.
كما أسس لحركة ترجمة واسعة، في جميع التخصصات العلمية والقانونية والأدبية، كذلك ألف العديد من الكتب التي ضمنها أفكاره وتصوراته الخاصة بنهضة مصر من أهمها “تخليص الإبريز في تلخيص باريز” عام 1835، و”مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية” عام 1869 الذي خصصه في وضع منهج لتمدن مصر، وكتاب “المرشد الأمين في تربية البنات والبنين”، وتضمن هذا الكتاب فكر رفاعة في التربية والوطنية.
كيف تعامل رفاعة الطهطاوي مع المفاهيم والقيم الغربية التي كانت غائبة عن مصر والمجتمعات العربية، مثل الحرية، والديمقراطية، والمساواة؟
عندما سافر رفاعة الطهطاوي إلى باريس سنة 1826، كان حاملا معه ميراث الفكر العربي الإسلامي، بالإضافة إلى سؤال ملح يضطرم داخله: كيف يمكن أن نستفيد من الحضارة الغربية من أجل النهوض بأمتنا؟
تركت أفكار فلاسفة الثورة الفرنسية وعصر التنوير أثرا عميقا في فكر رفاعة، فقد قرأ كتاب “العقد الاجتماعي” لروسو، و”وروح الشرائع” لمونتسكيو، وقرأ في الحقوق الطبيعية كتاب برلماكي. بالإضافة إلى ذلك قرأ في التاريخ والفلسفة الإغريقية، والمنطق، والجغرافيا، والميثولوجيا، والرياضيات، مما أكسبه معرفة موسوعية. لكنه لم يحاول الاستفادة من هده المعارف عن طريق محاكاة هذا النموذج الحضاري، بل طرح على نفسه سؤالا أساسيا: ماذا نأخذ من الغرب؟ وكيف نوفق بين ما نأخذه وبين أصول العقيدة الإسلامية؟
وما هي المعايير التي استند عليها في إجابته عن هذا السؤال الذي طرحه على نفسه؟
شكلت الإجابة عن هذا السؤال منهج رفاعة الذي تمثل في محددات ثلاثة، أولها وضع هذا النموذج الحضاري موضع الدراسة والفحص والنقد لإبراز الجوانب الإيجابية والسلبية بالنسبة لنا. وثانيها، نقل ما يرى أنه يضيف ويساعد على إقامة مشروع تمدن مصر. وثالثها، ألا يتعارض ما يأخذ مع أصول العقيدة الإسلامية.
ونستطيع أن نتبين هذا المنهج من مجمل أعمال رفاعة الطهطاوي. وكانت وسيلته لتحقيق ذلك، أن يطابق بين روح الشريعة، التي تتوخى المصلحة العامة، وبين هذه النظم الزمنية فاتحا بذلك باب الاجتهاد الذي أوصدته قرون الانحطاط، الطويلة، فيقول “بأن جميع الاستنباطات العقلية التي وصلت عقول أهالي باقي الأمم المتمدنة إليها، وجعلوها أساسا لوضع قوانين تمدنهم وأحكامهم، قَل أن تخرج عن تلك الأصول التي بنيت عليها الفروع الفقهية التي عليها مدار المعاملات”.
وانطلاقا من هذ المنظور العقلاني، الذي يرتكز على روح الشريعة الإسلامية تعامل الطهطاوي مع أفكار ومفاهيم الثقافة الغربية، فنجده يتكلم عن مفهوم الوطن وحقوق المواطنة بالمعنى الحديث، وعلى ضرورة تحقيق المساواة والعدالة بين أفراد هذا الوطن، ويتكلم عن الحرية كحق، وهي القيم نفسها التي أرستها الثورة الفرنسية في إعلان حقوق الإنسان.
ومن أهم الأشياء التي لفتت نظر رفاعة في باريس هي الديمقراطية الليبرالية، ومؤسستها، ودستورها، وقوانينها، بل لقد ترجم الدستور الفرنسي، هادفا من ذلك أن يدخل هذا الفكر السياسي إلى مصر والمشرق العربي، الذي كانت تسوده أنظمة استبدادية.
وبذلك هيأ رفاعة المناخ الفكري لإقامة مشروع نهضوي في مصر، لافتا النظر لضرورة تجديد التراث العربي الإسلامي وتخليصه من الاعتماد على النقل والنصوص والمتون التي سيطرت عليه في ذلك الوقت، إلا أنه في نفس الوقت – كما أوضحنا- رسّخ للازدواجية في الفكر العربي.
“سؤال العلمانية”
هل هناك فرق بين العلمانية في الغرب ونظيرتها في عالمنا العربي، في تقديركم؟
يستدعي سؤالك أولا تعريف العلمانية وكيفية نشأتها. والعلمانية كمفهوم تبلورت في ظل صيرورة تاريخية، ووضع حضاري ظهر في أوروبا الغربية في القرن السادس عشر فيما اصطلح على تسميته بعصر النهضة. إذن العلمانية تعبر عن واقع تاريخي موضوعي، تمثل في الانتقال من نمط الإنتاج الإقطاعي إلى نمط الإنتاج الرأسمالي. محدثا قطيعة مع هذا الماضي على مستوى الواقع والمعرفة، وتبلورت القوميات الحديثة التي أسست لظهور الدولة القومية البرجوازية الحديثة، بصورها المختلفة والمستمرة حتى يومنا هذا.
وتتجلى أهم مقومات العلمانية في الفصل بين الدين والدولة، هذا الفصل الذي يشكل مضمونها وشرطا لبلورة الديمقراطية بالمعنى الحديث، وارتكزت الدولة الحديثة على مبدأ المواطنة، وأن الشعب هو مصدر السلطات، والعقد الاجتماعي، والتوازن بين السلطات التنفيذية، والتشريعية، والقضائية.
وما هي السمات الأساسية التي تميز العلمانية من وجهة نظركم؟
يمكن رصد ثلاث سمات أساسية للعلمانية أولها فصل الدين عن الدولة بمعنى استبعاد الدين من تنظيم الحياة الاجتماعية والسياسية. ثانيها، انفصال واستقلال كل من المؤسسات الدينية والمدنية وعدم تدخل إحداها في عمل الأخرى. ثالثها، تأويل النصوص الدينية، تأويلا يواكب متطلبات التحديث.
ولا يعني ذلك أن العلمانية تلغي الدين، ولكن العلمانية تميز بين الدين كعقيدة، والدين كظاهرة اجتماعية؛ فالدين كعقيدة يتجاوز مراحل تطور النظام الاجتماعي المعاش، ولكن الدين كظاهرة اجتماعية تاريخية، بمعنى التفسيرات والممارسات المختلفة للدين في المجال السياسي والاجتماعي والثقافي، يخضع لقوانين التطور الاجتماعي التي يمكن دراستها، والكشف عن آلياتها بمناهج البحث العلمي؛ فالعلمانية لا تمس ولا تتعرض للثوابت العقائدية للدين، ولكن تهتم بالمتغيرات التي تخص الناس الذين يعتنقونه في مكان معين، وفي عصر زمني محدد.
أما العلمانية في العالم العربي فجاءت عبر صيرورة تاريخية مغايرة، لما حدث في الغرب الأوروبي. فلقد تعرف العقل العربي على إنجازات عصر التنوير الأوروبي عن طريق الحملة الفرنسية على مصر 1898، فإن البعثة العلمية التي صاحبتها كان لها أثر كبير في إيقاظ الوعي المصري، ومع اعتلاء محمد علي للحكم في مصر، بدأ سلسلة من الإصلاحات لبناء دولة حديثة على الطراز الأوروبي، مستعينا في ذلك بالخبرات الأجنبية. وصاحب ذلك إدخال الأفكار والقيم الأوروبية الحديثة، إلى مصر عن طريق إرسال البعثات العلمية إلى أوروبا وفرنسا بالذات، وإنشاء المدارس المدنية والعسكرية، وأيضا عبر حركة ترجمة واسعة.
ولكن كل هذه الإصلاحات تمت بقرارات فوقية من السلطة، دون أن يكون لها ركائز الاجتماعية، إذن لم تأتِ هذه الإصلاحات نتيجة تحولات في الواقع الاجتماعي المصري، ولكنها فُرضت عليه من أعلى.
وجاءت العلمانية في هذا السياق التاريخي مترددة، براغماتية، توفيقية، مليئة بالخطوات المتعثرة، وبالحلول الوسط.
هناك من يقول إن رفاعة هو من بذر البذور الأولى للتغريب، وهو المؤسس الأول للعلمانية في منطقتنا العربية.. ما تعقيبكم؟
في ظل السياق التاريخي لنشأة العلمانية في العالم العربي، برزت نخبة جديدة من المثقفين متمايزة عن المثقفين التقليديين، احتكت بالحضارة الغربية، وكان من هؤلاء في مصر رفاعة رافع الطهطاوي الذي كان ينظر إلى الحضارة الغربية وما وصلت إليه من “البراعة في العلوم الحكمية”، بأعجاب كبير. ورأى أننا يجب أن نتعلم منها، وننقل عنها علومها ونظمها السياسية والاجتماعية. وأدرك أن ما وصلت إليه فرنسا من تمدن يرجع لنظامها السياسي، رغم أن مصادر التشريع والتقنين لدى الفرنسيين، قائمة على “الحقوق الطبيعية” التي تعتمد على العقل في التحسين والتقبيح، وأنها ليست مستوحاة من كتب سماوية، ومع ذلك فهي عادلة، وأنها متغيرة بتغير الظروف، والأحوال.
ولجأ رفاعة إلى الاجتهاد والتأويل من أجل نقل هذه المفاهيم الجديدة إلى الثقافة العربية الإسلامية، وبالأخص المفاهيم السياسية، كمفهوم السياسة الشرعية، والحريّة والمساواة، وعلاقة الحاكم بالمحكوم.
وحاول التوفيق بين قوانين السياسة المدنية، والشريعة الإسلامية، بطرح الإشكالية بشكل مختلف، في كتابه “نهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز” عندما فرق بين نوعين من السياسة: ظالمة وعادلة – متكئا على ابن القيم في “معين الحكام”- فكل سياسة ظالمة تحرمها الشريعة، وكل سياسة عادلة تقرها الشريعة.
ومُجمل رأي رفاعة – في تصوري – أن السياسة الشرعية هي السياسة التي يتحقق بها صلاح الأمة، لأن صلاح الأمة هو الهدف من السياسة الشرعية. ولكنه يتراجع عن هذا الموقف الذي يؤمن بالعقل بشكل مطلق فيقول: “ليس لنا أن نعتمد على ما يحسنه العقل أو يقبحه إلا إذا ورد في الشرع تحسينه أو تقبيحه”. ويفسر الدكتور محمد عمارة تلك الازدواجية في فكر رفاعة بأنه “يرتكن إلى العقل عندما يكون حديثه عن أمور التمدن، وشؤون الدنيا بوجه عام، أما عندما يقترب من أمر من أمور الفكر الديني فإنه يتجلى مسلما سنيا محافظا”.
في ضوء هذا التحديد لمفهوم العلمانية، ورصد صيرورتها التاريخية في أوروبا وفي عالمنا العربي، كيف تنظرين إلى واقع العلمانية ومستقبلها في العالم العربي بشكل عام ومصر بشكل خاص؟
من الضروري بداية، إيضاح أن العلمانية ليست فقط فصل الدين عن الدولة، لكنها رؤية، وسلوك ومنهج؛ فهي رؤية تتسع لكل الاختلافات التي تطرحها الحياة البشرية، وهي سلوك يقبل الآخر المختلف، ويحترم حقة في التعبير، وهي منهج في الحياة لا يسعى إلى محو الاختلاف، بل يرى فيه إثراءً للفرد والمجتمع، ولكن وفق آليات وضوابط لإدارة هذا الاختلاف.
العلمانية بهذا المعنى تصبح – في رأيي- ضرورة في ظل الأوضاع التي يمر بها العالم العربي ومصر، من نظم حكم استبدادية، وانقسامات طائفية ومذهبية، وهيمنة قوى خارجية تغذي هذه الانقسامات وتعمقها. فالعلمانية هي الركيزة التي تقوم عليها الدولة المدنية الديمقراطية التي تتسع للجميع تحت مظلة مبدأ المواطنة الكاملة التي يتساوى في ظلها كل مواطنيها في الحقوق والواجبات بغض النظر عن معتقداتهم الدينية أو انتماءاتهم المذهبية أو الطائفية أو العرقية، أو اختلاف النوع رجل/ امرأة، ويصون هذه الحقوق والحريات الدستور والقانون.
ولكن يجب الإشارة إلى أن التيار العلماني ليس اتجاها واحدا، ولكنه يضم بداخله عددا من الاتجاهات- الليبرالي، واليساري، والقومي- التي تختلف في أيديولوجيتها، ولكنها تتفق على ضرورة فصل الدين عن الدولة، في حين يختلف التيار الإسلامي بمختلف أطيافه معها في أنه يرفض الفصل بين الدين والدولة.
ويأتي السؤال الأهم: هل هناك إمكانية لحل هذه الإشكالية في وقت تحتاج فيه أمتنا العربية لكل قواها الوطنية لمواجهة الاستبداد الداخلي، والصراعات المذهبية والطائفية المفتعلة، وعملية بلقنة المنطقة العربية، وسرقة ثروتها وقرارها السياسي، وظهور إسرائيل كلاعب رئيسي في منطقتنا العربية.
يبدأ الحل – في تصوري- من الاعتراف بأن هناك اختلافات أساسية في الرؤية يصعب حلها، ولكن أيضا توجد مشتركات أساسية في القضايا الوطنية، وبناءً على ذلك، يمكن إدارة هذا الاختلاف بالتوافق على أن يكون من حق كل تيار أن يكون له مرجعيته- إسلامية، ليبرالية، يسارية أو غير ذلك -، على أن تترجم هذه المرجعيات في برامج قابلة للنقد والمراجعة، أي أن تُدار المنافسة السياسية على أرضية بشرية، وبما يقدم كل فريق من حلول للمشكلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وليس بالقول أن هذا البرنامج هو الإسلام، ومن خلال الآليات الديمقراطية، يصبح هذا الاختلاف منبعا للثراء الفكري والسياسي والمجتمعي.
عن موقع ( موقع عربي ) بتاريخ السبت 5 سبتمبر 2020
**
ماجدة رفاعة حفيدة الطهطاوي رائد نهضة مصر الحديثة