شفيع شلبي الذي عرفته بقلم مجدي الطيب
.. ورحل المثقف الرفيع، متعدد المواهب، شفيع شلبي، الذي أفنى عمره في الدعوة الى “تحرير العقل”، وتبنى بمفرده إنتاج موسوعة “أعلام مصر في القرن العشرين”، عبر المركز العربي للافلام الوثائفية، الذي يملكه، وحاور من خلالها : المعماري الكبير حسن فتحي، والأدباء المفكرين والفلاسفة : د. لويس عوض، نجيب محفوظ، د.يوسف إدريس، ود.زكي نجيب محمود .. وغيرهم، كما عاش حياته يدعو إلي مجابهة مختلف التحديات، بالمشاركة في تأسيس “الدولة”، وهو الأمر الذي يتأتى، في رأيه، ببناء مؤسساتنا الشعبية، من نقابات دستورية عصرية مستقبلية، و جمعيات شعبية فاعلة، و اتحادات قوية مؤثرة، باعتبارها لبنات تأسيس دولة الشعب المصري العظيم.
شفيع شلبي دفع ثمن حبه لوطنه
شفيع شلبي “حكاية” شاءت الظروف أن أتعرف عليها، بعد ما وضعتني في طريقه، وعملت معه، كما شهدت لحظة تأسيس المركز العربي للأفلام الوثائقية، ومن ثم تعرفت عليه عن قرب . وربما تتيح لي الأيام المقبلة الحديث عنه باستفاضة ..تغمده الله بواسع رحمته وأسكنه فسيح جناته وألهم زوجته السيدة الفاضلة سمية الشناوى ونجله الوحيد شادي وشقيقه الإذاعي عُمر وعائلته الصبر والسلوان
شفيع شلبي هو تاريخ من الدأب؛ سواء على صعيد عمله في الإذاعة ( شفيع شلبي في كل مكان / صور بالراديو وبرنامج قدمه عبر إذاعة وادي النيل اختار لمقدمته موسيقى محمد فوزي في أغنيته “بلدي أحببتك يا بلدي”..وغيرها) والتليفزيون (سينما في علب /الشارع المصري/ البيت العريشي (ضمن حلقات جاب فيها سيناء من شمالها إلي جنوبها بعد التحريرمباشرة) ..وغيرها ، فمن خلال برنامج “سينما في علب”، الذي استوعبته الخريطة طوال الفترة من عام 1976، وحتي بداية سبتمبر عام 1981، قدم مايقرب من ألف فيلم، ما بين “سينما المؤلف”، والسينما بشكلها التقليدي، والسينما التجريبية، والكثير من تجارب المخرجين الشبان وقتها، مثل خيري بشارة، و محمد خان، و غيرهما. ومن خلال برنامجه “الشارع المصري”، قدم مجموعة من الحلقات كانت بمثابة حجر أساس العمل الوثائقي، بمعناه المحبب للمشاهد بعيداً عن أفلام المساجد، التي كانت شائعة وقتها، كأنموذج للفيلم التسجيلي، اذ تناول من خلالها تاريخ القاهرة القديمة، والاسلامية، مثل شارع محمد علي والقلعة، والمعز لدين الله الفاطمي، وشكل الموالد في تلك الفترة، وطرز وعمارة الشارع المصري . وللأسف تعرض لظلم شديد. ولم يلتفت أحد لمشروعه الثقافي التنويري الكبير، مثلما لم يستفد الإعلام المصري من قدراته، كمبدع شامل، واعلامي موهوب، ومثقف موسوعي، وحتي عندما أغلقت الابواب في وجهه واتجه للعمل الخاص، قام بتدشين المركز العربي للأفلام الوثائقية، الذي امتلك من خلاله تراثاً من الحوارات، نجح عبرها في أن يصون ذاكرة الثقافة المصرية، وأمسك بما لم يعد ممكناً الإمساك به، بأكثر مما فعلت “الدولة” نفسها .
فهل تتحرك وزارة الدولة للاعلام للحصول على هذا “الكنز الوثائقي”، بعد الرجوع الي عائلته، من أجل دعم مكتبة التليفزيون، خصوصاً أنه كان مذيعاً باتحاد الاذاعة والتليفزيون، وابناً للاعلام المصري، قبل احالته للتقاعد، وهو في ريعان شبابه .. وأجمل سنوات نضجه وعطائه ! .
“شفيع” الذي عرفته
الزمان : مطلع الثمانينيّات من القرن الماضي .. المكان : إشارة مرور بشارع رمسيس .. الحدث : سيارة 128تقف بجوار السيارة اللادا، التي استقلها بجوار مالكها صديقي ورفيق صباي، وفجأة يطل من ال 128بوجهه الطفولي الجميل :”انت فين ؟” فأرد عليه :”عايش في الدنيا”. وبحدسه استشعر أن لدي ما يكفيني، ورغم هذا سألني :”بتعمل ايه يعني ؟” فأجبته :”خلصت الجيش، واشتغلت في السياحة بأسوان، لكنني تركت الشغل، وعدت للقاهرة”. ومع تحول إشارة المرور إلى اللون الأخضر أملى عليّ رقم هاتفه (الأرضي طبعاً)، وودعني قائلاً :”كلمني ضروري” !
هكذا كان اللقاء والإذاعي، كما كان يحب أن يُطلق عليه، شفيع شلبي، الذي ترجع علاقتي به إلى منتصف السبعينيات، من القرن الماضي، عندما كنت أدرس بكلية الألسن، وكان يزوروني في الشقة، التي استأجرناها أنا وشقيقي، الذي كان يدرس بكلية الهندسة بجامعة القاهرة، وكثيراً ما تناقشنا في برامجه، ثم كان له الفضل في انضمامي إلى جمعية الفيلم، التي كانت تشترط لقبول العضوية، أن يزكيك أحد أعضائها القدامى، وتولى هو المهمة، وبانتهاء الدراسة، وحصولي على ليسانس الألسن، التحقت بالخدمة العسكرية، وجاء توزيعي في مسقط رأسي أسوان، وبانتهاء الخدمة عملت بالسياحة، لكنني لم أجد نفسي فيها، وقررت النزوح إلى القاهرة، لأجد نفسي وجهاً لوجه مع “شفيع شلبي” في إشارة المرور!
بعدها بأيام قليلة، أجريت المكالمة الهاتفية المتفق عليها بيننا، وكانت المفاجأة أن عرض عليّ العمل معه في المشروع الذي موله، ووضع حجر أساسه عام 1981، وأطلق عليه اسم “المركز العربي للإنتاج الوثائقي”، وكانت مهمتي تفريغ الشرائط التي صورها مع كبار الأدباء والمفكرين؛ مثل : د. لويس عوض، نجيب محفوظ، د. زكي نجيب محمود، شيخ المعمارين حسن فتحي ود. يوسف إدريس، وشاءت الأقدار أن أتواجد أثناء تصوير حلقة مهندس الفقراء حسن فتحي، في منزله بدرب اللبانة بحي القلعة، وحلقة د. يوسف إدريس، بمكتبه بجريدة الأهرام . كما كنت مُكلفاً بتوزيع المخاطبات، والإخطارات، على السفارات، والمؤسسات الثقافية الخاصة، التي تُعلمهم بتدشين “المركز العربي للإنتاج الوثائقي”، وطبيعة عمله.
لا أنكر أنني كنت مستمتعاً بالعمل، بدرجة كبيرة؛ إذ كنت أطمح، طوال عمري، بالتواجد في الحقل الصحفي والإعلامي، وكنت أدرك، يقيناً، أنني “دخلت كلية الألسن غلط”، وأن مكاني في كلية الإعلام، التي ضاعت مني بفارق 2, %، لكن شيء ما كان يوسوس في نفسي بأن “شفيع شلبي يحاول أن يشغل نفسه”، وأنه يُدرك أن “مكانه الصحيح على شاشة التليفزيون المصري”، وأنه “لا يصح إلا الصحيح”، غير أنه بسبب طبعه الكتوم، وقدرته على إخفاء مشاعره، وعدم الإفصاح عن قراراته؛ لاعتياده العيش في عالم خاص قوامه الحذر، واستقلالية مبكرة (جاب العالم، وهو طالب، قبل نصف قرن، ب 20 جنيهاً فقط، مُستخدماً طريقة Auto Stop ، وانفصل بحياته عن عائلته، التي تقيم في حلوان، بسن مُبكرة)، كان يُدير دولاب العمل في المركز العربي للإنتاج الوثائقي، على قدم وساق، بينما عقله مشغول بأمر ما
كانت لديه طاقة كبيرة، مصحوبة بإرادة قوية، وقدرة غير عادية على المثابرة، وبلوغ هدفه، مهما كلفه الأمر، وفِي زمن لم تكن “التكنولوجيا”، قد بلغت فيه ما بلغت من تقدم، وطفرة هائلة، كان موصولاً بأحدث التقنيات العالمية، من أجهزة تسجيل وآلات تصوير، وهواتف، يختارها صغيرة الحجم، لتسهل مهمته، في الحركة، ومواكبة أي حدث، ولم يكن يفرط بسهولة في مايملك، خصوصاً الشرائط المصورة، حتى أنه خصص غرفة بأكملها، بالمركز العربي للإنتاج الوثائقي، كمكتبة للشرائط، والوثائق المرئية، التي لم أكن أعرف، بدقة، ما جدواها ؟ وكيف يتسنى له أن يستثمرها في زمن متغير، ولاهث الإيقاع، بدرجة مذهلة، وبالطبع لم أكن أجرؤ على مفاتحته في تساؤلاتي، لعلمي أنه، سابق عصره، بحق، وأن لديه “مشروعاً” لا يوجد مخلوق يعرف تفاصيله، وأبعاده، سواه !
في تلك الفترة كنت أقيم بفندق شعبي، في شارع نجيب الريحاني، وأقطع المشوار اليومي لمقر المركز العربي للإنتاج الوثائقي، بحدائق القبة، بدراجة هوائية ملك للمركز، كنت استغلها، في غير أوقات العمل الرسمية، في الذهاب إلى دور العرض السينمائي النائية؛ مثل فندق السلام بجوار نادي الشمس، لمشاهدة أفلام مهرجان القاهرة السينمائي وقت انعقاده، فضلاً عن الندوات، والمؤتمرات، التي ينبغي التواجد فيها، لأن “الأستاذ” يقوم بتصويرها لحساب المركز، حيث كان يعمل بطريقة ال One Man Unit، ورغم أن الظروف لم تكن مواتية، في السوق الإعلامي، لكي يعمل المركز بكامل طاقته، ولأن غالبية المواد المصورة، مع رموز ثقافية، وشخصيات عامة، تدخل في سياق “مشروع مؤجل”، مختمر في ذهن “شفيع” وحده، ولا ينطبق عليها المقولة الاقتصادية “دورة رأس المال”، إلا أنه لم يحدث، مُطلقاً، أن واجه المركز أزمة، أو ارتباكاً، من أي نوع، في تسديد استحقاقاته . وربما لهذا السبب كافأت الأقدار شفيع شلبي بأن عاد للشاشة الصغيرة، بمبادرة من السيدة مديحة كمال، رئيس القناة الثانية، وكانت “هانم” بمعنى الكلمة، تتمتع بحس راق، وذوق رفيع، وربما لهذا السبب اختارت تقديم برنامج باسم “جولة الفنون”، يُلقي الضوء على حركة الفن التشكيلي، وكانت بالمناسبة زوجة للكاتب الصحفي المعروف علي حمدي الجمال . ما يعنيني هنا أن شفيع شلبي عاد لتقديم البرامج، بعد أزمة قرارات سبتمبر الشهيرة، وبعد أن جرى تجميده، والأهم أن مديحة كمال أطلقت يده، في اختيار فكرة البرنامج، الذي يقدمه على شاشة القناة الثانية، وهو ما علمته عندما جاءني ذات ليلة، ومن دون أن يبدو عليه أنه سعيد أو “طاير من الفرح”، وكان كذلك بالفعل في قرارة نفسه، وقال لي : “جهز نفسك علشان عندنا شغل في التليفزيون” .. هكذا ؟ وببساطة ! .. يالها من رصانة لم أرها في حياتي .. إنه الحلم الذي طال انتظاره يا رجل، واللحظة التي عشت من أجلها.
وربما لا يعرف الكثيرون أن “شفيع شلبي”، كان واحداً من ضحايا القرارات التي أصدرها السادات، في الثالث من سبتمبر 1981، وأوحى للرأي العام خلالها أنها استهدفت “حظر” استغلال الدين لتحقيق أهداف سياسية أو حزبية، و”التحفظ” على بعض الاشخاص المشاركين في «تهديد سلامة الوطن باستغلال الأحداث الجارية، وعلى أموال بعض الهيئات والمنظمات والجمعيات، وإلغاء التراخيص الممنوحة بإصدار بعض الصحف والمطبوعات مع التحفظ على أموالها ومقارها»، ولم يجرؤ على القول إن ما جرى “اعتقالات” سافرة لمعارضي اتفاقية كامب دافيد؛ فبمقتضى القرارات تم اعتقال 1536، من رموز المعارضة السياسية في مصر، كما تضمنت نقل بعض أعضاء هيئة التدريس والجامعات والمعاهد العليا، وعدد من الصحفيين والإذاعيين، الذين قامت «دلائل جدية علي أنهم مارسوا نشاطاً له تأثير ضار في تكوين الرأي العام، أو تربية الشباب أو هدد الوحدة الوطنية أو السلام الاجتماعي أو سلامة الوطن»، إلي الوظائف التي يحددها الوزير المختص، وكانت النتيجة أن تقرر نقل عدد من هيئات التدريس لوزارات مختلفة؛ مثل : د.أمينة رشيد أستاذ الأدب الفرنسى بكلية الآداب جامعة القاهرة، د.عواطف عبد الرحمن الأستاذ بكلية الإعلام، د. رشدى سعيد فرج، د. لطيفة الزيات، د. عبد المحسن طه بدر، د.عبد المنعم تليمة، د.جابر عصفور، د.سيد البحراوى، د.صبرى المتولى ود.حسن حنفى، بينما تقرر نقل 67 صحفياً وإذاعياً إلى هيئة الاستعلامات، كان من بينهم شفيع عبد الرحمن شلبي، الذي احتل رقم 47 في القائمة، التي ضمت الإذاعيين الكبيرين طاهر أبو زيد وصلاح زكي، بالإضافة إلى : مقدمة البرامج الدينية كاريمان حمزة، والمخرج التليفزيوني يوسف مرزوق،
الناقد سامي السلاموني
وضمت قائمة الصحفيين : الناقد سمير فريد، الناقد سامي السلاموني، والكتاب : فهمي هويدي، مصطفى بهجت بدوي، محمد سلماوي، رفعت السعيد، امينة شفيق، لطفي الخولي، صلاح حافظ، جلال عارف، محمود عوض، محمد عودة، أحمد حمروش، صافى ناز كاظم، حسين فهمي مصطفى، شوقي عبد الحكيم، حامد زيدان، فتحى رضوان، كامل زهيري، محمد عبد القدوس، عبد الله إمام، عادل الغضبان، حسين عبد الرازق، صلاح عيسى، فريدة وأمينة النقاش، حازم هاشم، حسنين كروم، رشدي أبو الحسن وجلال العشري .ومن الشخصيات العامة ضمت القائمة : الكاتب الصحفى محمد حسنين هيكل، فتحي رضوان، وزير الإرشاد القومي في عهد عبد الناصر، عمر التلمسانى مرشد جماعة الإخوان المسلمين، الزعيم الوفدى فؤاد سراج الدين، عبد المنعم أبو الفتوح رئيس حزب مصر القوية، وشاهندة مقلد، أبوالعلا ماضي، محمد السيد حبيب، محمد سيف الإسلام، ناجح إبراهيم، محمد حلمى مراد، حامد زيدان، أبوالعز الحريرى، عبدالغفار شكر، مصطفى بكرى، كرم زهدى، سامح عاشور، كمال أحمد، طه السماوى، الفنان على محمد أحمد الشريف، حلمى شعراوى، إسماعيل صبرى عبد الله، ، د. محمد أحمد خلف الله، جمال أسعد عبدالملك، الدكتور محمد كمال عطية الإبراشى، كما ضمت قائمة المعتقلين بعض القساوسة منهم الأنباء بنيامين والأنبا بيشوى والأنبا ويصا والأنبا بيمن، الشيخ عبد الحميد كشك، امام مسجد الملك بشارع مصر والسودان، الشيخ عبد الرشيد صقر، إمام مسجد صلاح الدين بالمنيل، الشيخ يوسف البدري، إمام مسجد في حلوان، ورئيس جماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الشيخ أحمد المحلاوي إمام مسجد القائد ابراهيم بالاسكندرية، الشيخ حافظ سلامة، إمام مسجد النور بالعباسية، والشهداء بالسويس، وحلمي الجزار، طبيب وأمير أمراء الجماعات الإسلامية، المفكر القبطى د. ميلاد حنا، مع تحديد إقامة البابا شنودة الثالث بابا الإسكندرية، وبطريرك الكرازة المرقسية بوادى النطرون، وتعيينلجنة من 5 من الأساقفة لإدارة الكنيسة، بينما هرب خيرت الشاطر والكثير من قياديي الأخوان.
الطريف أن “السادات” صنَّف المعتقلين فى خطابه، الذي ألقاه يوم 5 سبتمبر 1981، بأنهم : 469 جماعة تكفير وهجرة، 235 جماعة إسلامية، 100 تطرف دينى من الإخوان المسلمين وأعضاء جمعيات دينية إسلامية وأئمة مساجد متطرفين، 259 مثيراً للتعصب وتبادل عنف بين مسلمين ومسيحيين، 107 قيادات مسيحية متعصبة ومتطرفة، 240 مثيرا للشغب ومجرماً من أصحاب السوابق الجنائية، 57 متهما فى حوادث الزاوية الحمراء، 36 من الأحزاب (التى سماها المناهضة)، منهم 16 حزب التجمع، 7 من حزب العمل، 3 «الوفد»، إضافة إلى 12 بتهمة التخابر مع السوفييت. مؤكداً أنه اتخذ قراراته بمقتضى المادة 74 في الدستور، التي استخدمها من قبل في مواجهة انتفاضة 18 و19 يناير 1977، وتنص على : «لرئيس الجمهورية إذا قام خطر يهدد الوحدة الوطنية أو سلامة الوطن أو يعوق مؤسسات الدولة عن أداء دورها الدستورى أن يتخذ الإجراءات السريعة لمواجهة هذا الخطر، ويوجه بيانا إلى الشعب ويجرى الاستفتاء على ما اتخذه من إجراءات خلال ستين يوما من اتخاذها».
أما الأكثر إثارة فكانت رواية الكاتب الصحفي مكرم محمد أحمد، التي جاء فيها : «كنت قد انتقلت إلى دار الهلال من فترة بسيطة، وأتذكر أننى كنت قد ذهبت مع السادات فى أول رحلة لى للخارج كرئيس تحرير لمجلة (المصور)، وكانت هذه الرحلة للولايات المتحدة، وفى قصر “بلير هاوس”، حيث يُقيم السادات ضيفا على إدارة الرئيس الأمريكي رونالد ريجان، أفصح لنا للمرة الأولى عن الاجراءات الاستثنائية، التي يريد اتخاذها، وعندما راجعته غضب بشدة، وبعد أن خطب فى ميت أبو الكوم.. دعانا لكى نجلس إلى جواره فى بيته، (وهناك طلب من كل واحد فينا أن يكتب أسماء من يريد اعتقالهم) كما طلب منى بالتحديد أن أشن حملة صحفية ضد محمد حسنين هيكل، فقلت له يا (ريس) موسى صبرى لديه تاريخ وصراع مع هيكل، ولكنى إذا فعلت أنا ذلك فلن يصدقنى أحد. وقال لنا : اجلسوا مع النبوى إسماعيل (نائب رئس الوزراء ووزير الداخلية) لكى يتحدث كل واحد عن خصومه ليكونوا ضمن المتحفظ عليهم. وكان منصور حسن وزير الإعلام موجودا إلى جوارنا، وكان ضد التصعيد وضد عدد من الإجراءات الاستثنائية، وبعدها بأيام قليلة جرى تشكيل وزاري محدود خرج به من الوزارة ! بينما طلبوا مني في تلك الليلة أن أكتب قائمة بخصومي فى الصحافة، ولما قلت لهم : لا يوجد لى أعداء.. قال “النبوى” : لديك صحفى اسمه ماجد عطية.. اكتب اسمه، فقلت له هو محرر اقتصادى (يسارى على خفيف) ولا توجد ضغائن تجاهه. وعرفت فى هذه الليلة أن العديد من القيادات الصحفية كتبوا أسماء خصومهم الشخصيين، وكان بعضهم لا يعادى السادات أو يقصده الرئيس فى هذه الاعتقالات أو الوقف عن العمل. وقالوا فى مكتب النبوى أن عبد الله عبد البارى (رئيس مجلس إدارة الأهرام فى ذلك التوقيت) أبلغ عن العديد من الصحفيين منهم محمد سلماوى لوجود خصومة شخصية بين الاثنين وتم نقله فعليا مع غيره إلى وظيفة إدارية. أما النبوي إسماعيل فقال :«كان اجتماعا عاجلا ضم 4 أشخاص أسهموا فى اتخاذ القرارات : أنا والنائب مبارك والمشير أبو غزالة وطبعا الرئيس السادات، وجاءت مرحلة اختيار الأسماء التى اشتركت فيها جميع الأجهزة الأمنية، داخل وخارج وزارة الداخلية، وتضمنت القائمة 1536 شخصا، وكان ممكنا أن تكون أكثر من ذلك، أما المثقفون والسياسيون فلم يتعد عددهم نحو 40 أو 50 شخصا. وفي إجابته على سؤال حول ما إذا تم التأكد، وتحرى الدقة، أثناء إعداد قوائم الأسماء، قال “النبوي” : المفروض أنه فيه دقة وتحرٍّ، ولكن لا يسلم الأمر من أسماء “كده ولا كده”، ليست لها علاقة بالأمر؛ فقد تم الاعتراض على بعض الأسماء، وأنا عن نفسى اعترضت على اعتقال عمر التلمسانى والشيخ كشك وبعض السياسيين !
والحقيقة أن شفيع شلبي عاد للظهور على شاشة التليفزيون المصري، بعد سقوط قرارات سبتمبر الساداتية، وما تضمنته من اعتقالات ونقل إلى هيئة الإستعلامات، وبعض الوزارات، بناء على مبادرة من مديحة كمال، رئيس القناة الثانية أنذاك؛ حيث قدم برنامجاً جاب فيه سيناء، بشمالها وجنوبها، بعد تحريرها بالكامل، بالإضافة إلى بعض المدن المصرية مثل : دمياط وبورسعيد، التي كانت محطته الأخيرة، حيث مُنع بعدها من تقديم البرنامج، والظهور على الشاشة، بتحريض من محافظ بورسعيد، وتعليمات من سامية صادق رئيس التليفزيون آنذاك
وسبحان الله .. بعد أن كان “شفيع” أقرب إلى “طريد الشاشة”، الذي يخشى “الإعلاميون” مجرد الاقتراب من ظله، حتى لا تثور ثائرة صفوت الشريف، فيغضب، وينكل بهم؛ خصوصاً بعد ما تزعم الدعوة إلى تأسيس اتحاد الإذاعيين، حيث لم يكن يعترف بوصف “الإعلاميين”، وتوعد “الشريف” من يفكر فيه، أو يتعاطف معه، أو يدعمه، بالويل والثبور، وقال قولته الشهيرة :”على جثتي” !
عاد شفيع شلبي إلى الشاشة، بعد ما تبدلت مقولة “طريد الشاشة”، ليطارده لقب “المسنود”، الذي تحميه مديحة كمال، التي آمنت بموهبته، وأطلقت يده، وفكره، وهيأت له كافة الظروف، التي تكفل له حرية الحركة، والقرار، وامتلاك نفس الامكانات، الممنوحة للعاملين في القناة الثانية، وقطاع التليفزيون، من حجز كاميرات، وساعات مونتاج، ووقت محدد على خريطة البث، رغم أنه ليس على قوتهما، بل كان محسوباً بالمفهوم الإداري، على قوة الإذاعة، و”صوت العرب”، على وجه التحديد، وبينما انتظر الجميع أن يختار الجلوس على مقعد وثير، في استديو مُكيف الهواء، آثر “الصعب”، كعادته، وانطلق إلى محافظات مصر، يرصد هموم مواطنيها، ويشتبك مع محافظيها، بادئاً رحلة العودة إلى الشاشة بسيناء، التي كانت وقتها قد تحررت بالكامل، وجاب شمالها وجنوبها، يرصد نواقصها، وخيراتها، ويثمن الدور الوطني، والواعي، لأهلها، وينفي عنهم الشائعات المُغرضة، التي طالتهم، وبحسه التسجيلي الرصين، وميله الفطري للتوثيق، جعل حلقات البرنامج أقرب إلى الأفلام التسجيلية، التي أطلق على إحداها اسم “البيت العريشي”، وكشف النقاب من خلالها، عن أصالة وثراء وتكامل “البيت العريشي”، والبيئة السيناوية بأكملها، وفِي نهاية الرحلة، التي استعرض فيها “بانوراما” أرض الفيروز، وأطلال “ياميت”، التي كانت في الأصل قرية سيناوية، بين مدينتي رفح والعريش، احتلتها إسرائيل، بعد أن أجلت سكانها من بدو سيناء، وحولتها إلى واحدة من أكبر المستوطنات الإسرائيلية (أنشئت على شاطيء مساحته تصل إلى 200 متر)، ولم ترحل عنها، إلا بعد تدميرها بالكامل، قبل أيام من تسلم مصر سيناء رسمياً في 25 أبريل 1982. وبإنتهاء الجولة، التي ناهزت الثمانية أيام، كانت المواجهة، أو كما يسمونها في البرامج التليفزيونية، التي تزور المحافظات لتُجمل صورة المحافظ فقط، حوار السيد المحافظ، بينما هي في “العُرف الشفيع شلبي”، لحظة الصدام الوشيك، التي يحمل فيها الأمانة، التي حمله إياها البسطاء من المواطنين والأهالي، في شكل شكاوى، وأوجاع، وهموم، ويضعها في صورة أسئلة أمام محافظ الإقليم، وهو ما فعله في مواجهته مع اللواء منير شاش، وكان محافظاً لشمال سيناء (1982 -1996) ثم اللواء مجدي سليمان، وكان محافظاً لجنوب سيناء (1983- 1986). وبانتهاء الرحلة الشاقة، التي لم يترك فيها ركناً في شمال وجنوب سيناء، من دون أن يُنقب فيه
، عاد فريق البرنامج إلى القاهرة، وأذيعت الحلقات، وكان لها مردود كبير؛ كونها قدمت جانباً مجهولاً من الحياة في سيناء، كما ألقت الضوء على “السيناوية”، الذين لم نكن نعرفهم. ولعل من المناسب أن أنوه هنا، إلى أنه رغم التعب والإرهاق وساعات التصوير المضنية، في أماكن مجهولة، وصحراء مقفرة، غير المعتادة بالنسبة لأطقم البرامج التليفزيونية، التي كانت تختار التصوير في المحافظات وقتها، فإن أحداً من فريق العمل في البرنامج لم يتذمر، أو يتنمر، أو يجأر بالشكوى، بل كانت روح المرح، والدعابة، وخفة الظل، تسود الجميع، ولن أنسى ما حييت اللحظات التي وقع فيها اختيار فريق العمل، من فني الكهرباء والإضاءة، ومسجل الصوت، ومساعد الكاميرا، على أغنية “حبيت بلدي” للعمدة سيد إسماعيل، ليغنوها، والسيارة تسير بين جبال سيناء، ومنحنياتها الخطرة، بعد أن أدخلوا تعديلاً على كلماتها، وبدلاً من أن يقولوا :”حبيت بلدي .. وعشان بلدي.. أنا عاوزك تكبر يا ولدي” كان الغناء بصوت واحد، وكأنهم مٌدربين على يد سليم سحاب :”حبيت سينا .. وتراب سينا.. أنا عاوزك تكبر يا مينا”، كما استغنوا عن المقطع الذي يقول فيه عمنا سيد إسماعيل :”وأشوفك بتعمر “فيها”، وتزرع ورد في صحاريها” ليُصبح :” وأشوفك بتعمر “سينا”، وتزرع ورد في صحاريها”، وسرعان ما انضمينا إليهم، أنا ومدير التصوير ثم شاركنا بحماسة منقطعة النظير الأستاذ شفيع، الذي كان بشوشاً، ودوداً، ومتواضعاً، مع كل فريق العمل، لكنه في العمل “مايعرفش أبوه”، بعكس صورته الذهنية لدى من لم يتعامل معه، وإن كنت لا أعلم، حتى هذه اللحظة، كيف ولماذا وقع اختيار فريق العمل وقتها على هذه الأغنية لتُصبح رفيق الرحلة / المغامرة !
المهم أن الجميع، من قيادات ومسئولين وموظفين، أيقن، بعد العودة، وإذاعة حلقات البرنامج، التي كان له صداها ومردودها الكبيرين، أن مديحة كمال عرفت كيف تضع ثقتها في شخصية تتمتع بكفاءة هائلة، وقدرة كبيرة على تحمل المسئولية، ومن ثم تحرك فريق عمل البرنامج، بقيادة شفيع شلبي، الذي كان يحلو له، بالمناسبة أن يجلس في المقعد الأمامي، بجوار سائق عربة التليفزيون “دودج ڤان”، التي كان يستخدمها التليفزيون وقتها، ولم يكن يفعل هذا من باب الوجاهة، أو “البرستيج”، بل ليُكمل مهمته، كقائد للفريق، يحل المشاكل المرورية الطارئة، ويعطي للسائق الإذن بالتوقف للراحة في كافيتريا على الطريق أو التبضع من “كشك” على قارعة الطريق، ويشهد الله أنه كان سخياً، وكريماً بدرجة لا يمكن تخيلها؛ فعلى عكس المتبع في “الأوردرات”، التي تزور فيها برامج التليفزيون المحافظات، وتتحمل تلك المحافظات عبء إقامتها وإعاشتها، رفض “شفيع” أن تتحمل محافظتا شمال سيناء وجنوبها، مليماً واحداً نظير إعاشة الفريق، ولعلها المرة الأولى التي يتحمل فيها إنتاج التليفزيون النفقات كاملة، بعد ما تبين أن “شفيع” اصطحب مندوب إنتاج، ليتولى هذه المهمة، لتُصبح عادة في كل سفريات البرنامج، ليس من أجل زيادة الأعباء، كما اتهمه البعض، بل من أجل صون كرامته، وكرامة فريق البرنامج، ومن أجل الاستقلالية، التي تجعله نداً لمحافظ الإقليم الذي يزوره، وليس اليد السفلى، كما كان حال بعض المخرجين، الذين يتعامل معهم بعض المحافظين بمبدأ :”أطعم الفم تستحي العين” !
بإيجاز حط “شفيع”، وبرنامجه، الرحال في مدينة دمياط، وفور وصوله نزل إلى شوارعها، والتقى حرفييها، وناقش معهم مشاكل صناعة الأثاث، وثمن ظاهرة أن “لا أحد عاطل في دمياط”، سواء أطفالها وشبابها ورجالها أو كهولها، وتبعاً للاستراتيجية، التي وضعها للبرنامج، قام بتجميع نتائج الجولة الميدانية، ووضعها، بشفافية، أمام د. أحمد جويلي، وكان محافظ دمياط في ذلك الوقت (تولى منصبه في المدة من 1984 حتى 1991 ثم أصبح محافظاً للإسماعيلية ووزيراً للتموين والتجارة الداخلية). ومرة أخرى أذيعت حلقات البرنامج، فأسهمت بتصحيح صورة دمياط، التي تعمل ولا يعرف أهلها البطالة، وكعادته لم يركن شفيع شلبي إلى الراحة، والاستمتاع بالنجاح، لكنه شد الرحال إلى المدينة الحرة : بورسعيد، التي صور فيها، جرياً على عادته، أكثر من حلقة متنوعة، من بينها حلقة عن مخاطر صحية، وبيئية، تعرض لها سكان أحد الأحياء في بورسعيد، لكن اللواء عبد الرحمن الفرماوي، الذي كان محافظ الإقليم وقتها، استشاط غضباً بمجرد علمه بالأمر، من مندوب العلاقات العامة الذي كان يرافق فريق البرنامج، وطالب شفيع شلبي بتسليمه الشرائط المصورة، وبالطبع رفض “شفيع”، وجرت مفاوضات مكثفة، في مكتب المحافظ، الذي هدد بالتصعيد، وتشبث “شفيع” بموقفه، وقرر مغادرة بورسعيد، ربما قبل أن يُطرد منها، وتكررت المحاولات، التي استهدفت تسليم الشرائط المصورة، عند الدائرة الجمركية، وتعرض فريق البرنامج لتحرشات عدة، واجهها “شفيع” بشجاعة منقطعة النظير،
الاذاعية سامية صادق
وواصلت بعثة البرنامج طريق العودة إلى القاهرة، ولحظة وصول سيارة التليفزيون، ودخولي مع شفيع شلبي من الباب الرئيسي طلب أحد قيادات الأمن منه تسليم الشرائط المصورة في بورسعيد، ومرة أخرى تكرر الرفض القاطع، وأصر “شفيع” على أنها عهدة، وسيقوم بتسليمها إلى مكتبة التليفزيون، وأودعها خزانته في الطابق السادس إلى حين بدء عمل المكتبة، في الصباح، لكن مع إشراقة صباح اليوم التالي كانت سامية صادق، رئيس التليفزيون، قد أصدرت قرارها بإيقافه عن العمل، لتنتهي “حدوتة الشاطر شفيع” !
مجدي الطيب
مجدي الطيب كاتب وناقد سينمائي مصري مقيم في القاهرة.مصر
—