صلاح هاشم يكتب لجريدة ” القاهرة ” من باريس : أسرار مهرجان ” كان ” في كتاب ( سوف تمضي الحياة مثل حلم ) لجيل جاكوب.إعترافات رجل الظل ( 1 من 3 )
على أبواب مهرجان ” كان ” 77″
“أسرار” مهرجان ” كان “في كتاب ( 1 من 3 )
( سوف تمضي الحياة مثل حلم ) لجيل جاكوب : إعترافات رجل الظل
صلاح هاشم .باريس
ترى ماذا يعرف القارئ العادي عن مهرجان كان السينمائي الدولي العريق والأشهر في العالم الذي يعقد دورته المقبلة في الفترة من 14 الى 25 مايو 2024، ماذا يعرف عن تاريخه وأفلامه، ونجومه وأسراره،مايحدث في دروب وكواليس ذلك المهرجان الذي يعتبر أهم حدث إعلامي في العالم، ويحتل الآن المرتبة الثانية من حيث الأهمية بعد نهائيات كاس العالم في كرة القدم ؟..
في باريس صدر منذ فترة كتاب سينمائي رائع ومهم للغاية بعنوان ” سوف تمضي الحياة مثل حلم ” – LA VIE PASSERA COMME UN REVE – لجيل جاكوب الرئيس السابق للمهرجان، والكاتب والناقد السينمائي ،الذي ظل يتربع على عرش مهرجان ” كان ” لفترة 30 عاما،حتى صار يطلق عليه اسم “المواطن كان” CITIZEN CANNES “،الذي يذكر بفيلم “المواطن كين ” للمخرج الأمريكي العملاق أورسون ويلز، ويعرض فيه جيل جاكوب -GILLE JACOB – “رجل الظل” لرحلته الكبيرة التي قطعها مع المهرجان وذاكرته، كاشفا عن أسراره ،وكواليسه، وتلك القواعد التي التزم بها رئيس المهرجان السابق، لكي يصنع لنا وللعالم، ذلك ” الكوكب ” السينمائي المنير. كوكب مهرجان ” كان ” السينمائي، الذي أعتبره، وأنا أتابع دوراته منذ عام1979 وأكتب عنها،أهم حدث سينمائي في العالم ” بعد اختراع السينما منذ اكثر من 120 عاما في فرنسا..
تعالوا قبل أن نعرض لأفلام وفعاليات الدورة 77 ،في رسائل قادمة من قلب المهرجان نتصفح معا هذا الاصدار السينمائي التاريخي المهم، ونرحل في ذاكرة المهرجان ،وقبل أن يخترع لنفسه ربما في الدورة القادمة 77 ذاكرة جديدة لـ ” لإخوة الإنسانية”،ويمضي مثل حلم..
جيل جاكوب الذي صار يطلق عليه الآن في فرنسا والعالم ” المواطن كان ” CITIZEN CANNES هو من مواليد باريس عام 1930 ، وعمل ناقدا في مجلات ” نوفيل ليتيرير ” و ” الاكسبريس ” قبل أن يعين مندوبا عاما لمهرجان ” كان “السينمائي عام 1977 ثم رئيسا للمهرجان منذ عام 2000 وحتى عام 2014 ، ويحكي جيل جاكوب في كتابه عن طفولته، وحكاياته مع أفراد أسرته، وحياته الشخصية، ليكون بمثابة ” سيرة ذاتية ” من جانب. كما يحكي في ذات الوقت عن علاقته بمهرجان ” كان ” وحياته الأخرى السينمائية ، حيث تشابكت الحياتان، وامتزجتا في بوتقة ” السينيفيلي ” بالفرنسية ،أي عشق السينما الفن، لتصنع كيانا إنسانيا سينمائيا فريدا وفذا من نوعه.كيان يتجسد في شخصية جيل جاكوب الكتومة ” السرية ” الذي أدار ماكينة ” كان ” السينمائية العملاقة لفترة ثلاثين عاما، بعدما أصبح المندوب العام للمهرجان،أي المسئول الأول عن اختيار أفلام المهرجان في مسابقته الرسمية،والتظاهرات السينمائية الموازية،مثل ” نظرة خاصة ” وغيرها، وكذلك اختيار رئيس وأعضاء لجنة التحكيم،وهو يتكتم ويحافظ ويتحفظ علي ألغازها وأسرارها ، ومن دون أن يكشف أو يبوح..
إعترافات “رجل الظل”
فقد عرف عن جيل جاكوب الرئيس الاسبق انه ” رجل الظل ” L HOMME DE L OMBRE في المهرجان عن جدارة، فهو لا يظهر الا خلال ما يقرب من أسبوعين فقط في السنة، ويراه الجمهور فقط ،وهو يقف بقامته المديدة علي قمة سلم قصر المهرجان، ويروح يستقبل أشهر وأعظم نجوم السينما في العالم، من أمثال كلينت ايستوود، وكاترين دينوف ،واليزابيث تايلور،وعتاولة المخرجين من امثال وودي آلان وفيلليني وانجلو بولوس وفرانسيس فورد كوبولا وغيرهم ،وهم يصعدون علي سجادة السلم الحمراء، فيصافح هذا المخرج، ويطبع قبلة علي خد هذه النجمة، ويبدو كما لو انه يعرف كل هؤلاء النجوم معرفة شخصية، وقد وقف ليستقبلهم في ” داره ” ، ويقول لهم ان أهلا ومرحبا.في حين تدور مئات الكاميرات من أنحاء العالم، لتنقل الي ملايين المشاهدين في العالم من خلال البث المباشر، ذلك “الاستعراض” السينمائي العالمي العرمرم، وطقوس الصعود على سجادة “كان” الحمراء، ثم فجأة لاشيء..
فجأة يختفي جيل جاكوب ” الرجل الخفي ” أو المواطن كان ” – نسبة الي فيلم ” المواطن كين ” للأمريكي أورسون ويلز كما ذكرنا – مثل ذلك الجني المارد في قصص ألف ليلة وليلة ، الذي يعود في صورة دخان الي قمقمه ، ويغرق في بحر ” كان ” الأزرق الكبير، ولا نعود نسمع عنه أي شيء البتة..
في هذا الكتاب الممتع والمشوق حق، والذي التهمته في يومين وكأني اقرأ رواية بوليسية لاجاثا كريستي أو ماريو بوزو مؤلف رواية ” العرّاب “- THE GODFATHER– ، ندلف بعد ” الواجهة ” الاستعراضية الي ” كواليس ” المهرجان ، ودروبه وكهوفه السرية،وألغازه وأسراره المحيرة، تلك الأسرار التي حرص جيل علي ان يتكتمها ويحتفظ بها لنفسه منذ زمن طويل ،وهاهو بعد 30 عاما من الصمت يكشف هنا عنها ، قبل أن تمضي الحياة مثل حلم ، ويموت جاكوب ،مخنوقا بأسراره. كما اننا نتعرف في الكتاب علي شخصية جيل جاكوب الفريدة، والظروف الحياتية والسينمائية التي صنعته، وكيف استطاع بحنكة ومعلمة وبهدوء وصمت، ان يحول هذا المهرجان الذي كان قبل ان يتولي إدارته أشبه ما يكون ب ” حفل اجتماعي لعلية القوم “، يحوله الي عيد حقيقي للسينما الفن.
عيد سينمائي يعلي من قيم الإبداع والابتكار والاختراع ويجعل السينما وثيقة الصلة بحياتنا ومجتمعاتنا، لكي تقربنا أكثر من إنسانيتنا، فليس المهم كما يقول المخرج الهولندي الكبير جوريس ايفانز ان نعرف إن كان النهر طويلا وعميقا، لكن المهم أن نعرف ان كانت الأسماك فيه سعيدة، والي المواطن ” كان ” جيل جاكوب يعود الفضل في تحويل دفة هذا المهرجان اعتبارا من عام 1978 أي منذ ان تولي مهمة ” المندوب العام “من مهرجان سينمائي دبلوماسي بالدرجة الأولي إلي مهرجان سينمائي فني حقيقي، لدعم وتشجيع والترويج للمحاولات السينمائية الإبداعية الجديدة ،علي سكة ” سينما المؤلف” التي تحول السينما من حرفة وصنعة فقط، إلي نوع من ” الكتابة والتأليف” ،وانتهاج أسلوب فني حر مستقل للتعبير عن ” رؤية ” وموقف من العالم. رؤية اقرب ما تكون إلي فلسفة حياة ووجود، كما في روايات الايرلندي جيمس جويس ،او الروسي تولستوي، اواليوناني نيكوس كزانتزاكيس، وتعبير عن ” هم ” شخصي، بل وأداة – TOOL – أيضا ووسيلة للتفكير في مشاكل عصرنا..
ومن دون هذه ” الرؤية ” في أعمال “المخرجين المؤلفين” من أمثال الأمريكي فرانسيس فورد كوبالا، أو البريطاني كين لوش، او الدانمركي لارس فون تراير، او الصربي امير كوستوريكا، او الايراني عباس كياروستمي، ومن سار خلفهم من المواهب السينمائية الجديدة علي ذات الدرب ،تصبح السينما أداة للترفيه والتسلية ودغدغة المشاعر فحسب، كما في جل أفلامنا المصرية التجارية الفكاهية المبتذلة التافهة السخيفة.وقد تساهم يقينا،بمتبلات الإبهار الفني والعنف الدموي، وخزعبلات التكنولوجيا الحديثة، وبخاصة في انتاجات السينما الأمريكية التجارية المهيمنة علي أسواق العالم، تساهم في تغييبنا عن واقعنا ومجتمعاتنا..
يقول جيل جاكوب في مقدمة الكتاب : ” ..كلنا نعرف المشهد الشهير في فيلم ” وردة القاهرة القرمزية ” للامريكي وودي آلان ، حيث يهبط بطل الفيلم من علي الشاشة ويمتزج بالمشاهدين، ويروح يخطب ود متفرجة ،ويتحول في التو الي كائن حي من دم ولحم. لقد وقع لي نفس الشييء لكن في الاتجاه المعاكس، فقد عشقت السينما في سن 18 سنة، ودخلت في الشاشة عام 1948 ، فأصبحت بمرور الوقت ناقدا ثم ناشرا ثم مديرا ورئيسا في النهاية لمهرجان ” كان ” السينمائي. والمهرجان لا يعني فقط أفلام ، كلا ، بل يعني أفلام، ودراما،وحكايات إنسانية مأسوية، ويضاف إليها في حالة ” كان “، أجواء ومناخات الحياة ذاتها في منطقة الكوت دازور الساحرة ،ومتعتها بجوار البحر، والنقطة الأخيرة مهمة، لأنه من الصعب ان نتخيل مثلا ان ظاهرة ، مثل ظاهرة ” الإستارلت ” للباحثات عن الشهرة من الحسناوات ، اللواتي ينتهزن فرصة انعقاد المهرجان، لكي يتجولن شبه عاريات علي شاطئ البحر في ” كان ” ويستقطبن إليهن عدسات المصورين ،ويبحثن عن ” دور ” أو مجرد الظهور فقط في السينما، وصرن ” أسطورة، من الصعب ان تتخلق مثل تلك ظاهرة، في مهرجان سينمائي يقام أو ينشأ في منطقة جبلية مثلا.أعني أن المنظر الطبيعي الساحر في مدينة ” كان ” وبحرها، يفرض حضوره في إبتداع مثل تلك ظواهر.أعرف اني كنت في التاسعة من عمري عندما نشبت الحرب العالمية الثانية، وعندما بلغت سن التاسعة عشرة تركت مقاعد الدرس، وتفرغت للعمل في الصناعة، وفي سن الثامنة والأربعين أصبحت مديرا لمهرجان ” كان ” السينمائي ، وقد اردت ان احكي عن ذكرياتي، عن الوقائع التي عشتها ، والأفلام التي شهدتها، والشخصيات التي التقيت بها في حياتي، لأني لا اثق أولا في ” وهم ” أسمه الزمن..
ولأني اعتبر ثانيا، ان المرء منا يحيا عدة حيوات في وقت واحد ، وقد كان لي أنا جيل جاكوب حياتان علي الأقل: حياتي البيولوجية ، وحياتي السينمائية، و قد كانت كل حياة تنهل من الحياة الأخري، وتغذيها في آن، لكن الشيء المؤكد ،هواني عشقت السينما،عشقت السينما ورجالاتها، ولا استطيع ان احدد ايهما افضل الآن ، الافلام، أم المخرجين.
العمل السينمائي المكتمل هو ” النصب التذكاري ” الأبدي
صلاح هاشم يكتب لجريدة ” القاهرة ” العدد 2024 الصادر بتاريخ الثلاثاء 23 إبريل 2024
أعتقد أن الأفلام، هي ما يبقي علي اية حال في النهاية. العمل السينمائي الكامل المكتمل، هومثل الرخام. هو ألنصب التذكاري الأبدي، هو المتعة، اما المخرجين فهم العذاب والألم . وقد عرفت معني تلك المتعة، متعة الابداع والخلق، عندما دخلت التكنولوجيا مكاتب المهرجان،وصرت استطيع مشاهدة الفيلم علي شاشة الكمبيوتر، واتحقق بنفسي من متعة ” حمي الابداع ” السينمائي هذه : ان تصنع فيلما، وتشتغل علي مونتاجه، وتجرب مرة بعد مرة ، من دون تعب أو كلل، ومازلت اتذكر كيف شاهدت في هوليوود، وأنا جد مبهور ومسحور، المخرج الأمريكي فرنسيس فورد كوبولا، وهو يشتغل على مونتاج فيلمه”القيامة الآن” بإستخدام الكمبيوتر لأول مرة، ليجعل من مونتاج فيلمه ، سباقا لعصره بعشرسنين، ويا لها من متعة، اشبه ما تكون حقا بمتعة ” الكتابة “، التي يستشعرها المرء، عندما يعمل بمفرده، فيتعلم ويكتشف ، ويصحح ويحفظ، ويلحن، ثم فجأة، ويا للسعادة ،يروح يردد في نهاية المطاف : ” أوه.. يا إلهي ..أخيرا لقد نجحت “..وللحديث عن الكتاب بقية..
بقلم
صلاح هاشم
صلاح هاشم كاتب وناقد وباحث ومترجم مصري مقيم في باريس.فرنسا، وهو مؤسس ورئيس تحرير موقع سينما إيزيس الجديدة