” طفولة إيزيس ” بقلم صلاح هاشم
طفولة إيزيس
الفصل الأول في كتاب ( 35 سنة سينما.شخصيات ومذاهب سينمائية ) لصلاح هاشم
تصور السينما المدن، فتخرجها فى الحال من واقعها، وتطلقها فى الخيال مدائن – ان لم نقل جنائن – معلقة ، نسافر إليها على شاشات الحلم، فتعدو هى المدن الحقيقية، وتضؤل أمامها مدننا الواقعية، ولكن سرعان ما نعود من مدائن الخيال، إلى مدن الواقع، فنصحو على ضجيجها، ومرارة العيش فيها، ونتمنى أن نبحر فى مدن الأحلام مرة ثانية..
” لا خلاص إلا بالسينما الفن ” … هكذا سوف تقول، بعد أن تكون قد تعبت من تجوالك وترحالك فى مدن هذا العالم الواقع، وقد التهمت كل شئ، وتكون الهموم قد تكاثرت عليك فجأة، وبدت لك سحب باريس قاتمة، ومنذرة بالرعد والمطر – أنت لا شك تعرف عن يقين، بأن أياما سوداء كهذه، تبدو أحيانا ثقيلة الوطأة إلى حد لا يحتمل، بحيث يصعب التصديق بأنها ستذهب إلى غير رجعة..
لكن فجأة يتكشف لك خلاصك المؤقت، إلى حد ما : عليك أن ترحل من هذا العالم الضجر، بكآبته وزيفه واصطناعيته، إلى عالم آخر، حتى ولو كان هذا ” الآخر ” من صنع الخيال وفبركته .خلاصنا يكون بالفرجة أحيانا ومن خلال العروض السينمائية، هذه التى تحملك من دون جواز سفر، وتأشيرات دخول يصعب الحصول عليها، إلى عالم الحقيقة، وهو من صنع الفانتازيا والخيال الجامح، لكنه يكون أحيانا أكثر مصداقية، من هذا الايقاع الذى يسحبنا فى دوامته، ويسوقنا أحيانا إلى حتفنا..
أحيانا تطرد عنك شبح الغربة . هذه السينما التى تجعلنا نحب الحياة أكثر، هى أيضا بمدنها المصنوعة من الورق المقوى (الكرتون) والأخشاب والحديد والصفيح، موضوع هذا المعرض( مدن السينما ) ،المقام فى “صالة عرض لافييت” أو بالأحرى صالاتها الكبرى.يشغل المعرض قطعة كبيرة من الأرض مساحتها ثمانية آلاف متر مربع، وقد افتتح فى ديسمبر، وهو يمثل حصيلة جهود فرانسوا كونغيتو المهندس المعمارى، وجيل نادر من أبرز ” السينفيل ” ( عشاق الأفلام ) فى فرنسا، وفرانسوا باريه مدير قاعة عرض لافييت الكبرى،التى اجتمعت لتسليط الضوء على فن المعمار، كعنصر أساسى من عناصر بناء الفيلم، وأبراز قيمته من خلال الصور المتعددة، أو بالأحرى الديكورات المتنوعة، لمدن طوكيو ونيويورك وبرلين وباريس وغيرها ،كما قدمتها السينما العالمية من خلاله – أى الديكور، وهو- المعرض- أقرب فى طبيعته إلى روح ” العرض ” السينمائى، منه إلى معرض كلاسيكى، بماكينات عرض كما تعودنا، وملصقات وأزياء من الأفلام القديمة ..
المتفرج الذى يتجول بين أركانه، سيدور مثلي بين الديكورات، ويشاهد فى الوقت ذاته مشاهد من أفلام أميركية وأوروبية، تقع احداثها فى ديكور مشابه للديكور المتواجد فيه .حين تقف مثلا داخل ديكور نفق المترو الباريسى فى المعرض، ستشاهد فى الظلام على شاشة كبيرة، عرضا لجملة مشاهد ( مجموعة لقطات ) من فيلم ( المترو ) للمخرج الفرنسى لوك بيسون، الذى لعبت بطولته النجمة الفرنسية ايزابيل ادجانى، وأغلب أحداثه تدور فى انفاق باريس تحت الأرض ..
قبل أن تدلف إلى داخل المعرض المسقوف، حتى يتحقق جو الإظلام التام المطلوب، لضمان أفضل عرض، لمشاهد الأفلام، على الشاشات المتعددة المتناثرة،بكل حى من أحيائه على حدة، وبالشكل الذى يجعله، مجرد غرفة مظلمة واسعة، مساحتها 8 آلاف متر مربع، أو خيمة سيرك كبيرة، بعرض داخلها فيلم، هو عبارة عن مونتاج واحد، لاشهر الأفلام فى تاريخ السينما..
قبل أن تدلف إلى هذه الخيمة، لتلتقى بالظلام الدامس، وتستغرقك لقطات الفيلم الذى يعرض على الشاشة ،ستكون المضيفة قد منحتك سمّاعة تعمل بالأشعة تحت الحمراء، تتيح لك فقط ،الاستماع إلى شريط صوت مشاهد الفيلم المعروض على الشاشة أمامك، حين تنتقل للوقوف أمامها، وفى اطار الديكور الخاص بالفيلم..
بمجرد أن تخطو داخل ديكور محطة بنزين مثلا، أو زنزانة فى قسم البوليس، أو محطة مترو، يصلك على الفور شريط صوت الفيلم المعروض، فإذا نزعتها عنك، ترى مجرد لقطات صامتة من الصور بدون صوت، وأنت بهذه السماعة، وخلال المسافة الفاصلة بين ديكور وآخر، لن تسمع شيئا على الاطلاق، وهى فى الواقع تحل معضلة عرض كل هذه الأفلام، من دون أن تختلط أصواتها أو تتشابك، لتثير عدم الانتباه والبلبلة، وتحول دون الاستغراق فى جو الفيلم بديكوراته وجوه الخاص، ومن خلال شريط الصوت، الذى يعطى للمكان اصواته المتميزة، ويتضمن أيضا الحوار بين الممثلين. هذه السمّاعة أذن ضرورية ولابد منها، وقد تم اختراعها خصيصا بمناسبة اقامة هذا المعرض، حتى يتحقق التشبع التام بالجو السينمائى العام فيه : جو استوديوهات السينما، حيث تصنع هنا من الخشب والكرتون، هذه المدن الرائعة، القادرة بحكاياتها المتشبعة، أن تجعل الدموع تنهمر من مآقينا، تأخذنا ربما من الحياة لوقت وجيز، لتعيدنا مرة أخرى إليها، ونحن أكثر نضارة.مدن الخيال هذه التى تعلمنا أحيانا الحكمة، تجعلنا أكثر تعقلا، بعد أن تكون قد امتصت منا جنوننا وتهورنا، لنفكر فى حياتنا بشكل أفضل..
عبر شاشات المعرض المتناثرة فى كل ركن فيه، ستشاهد 16 فيلما ( يستغرق عرض الفيلم الواحد منها ما بين 5 و 30 دقيقة ) من أفلام المونتاج، التى تضم مشاهد من أفلام عمالقة الاخراج فى العالم : رينيه كلير ومارسيل كارنيه واريك رومير وفريتز لانج وفاسبندر وفيم فندرز وفراشيسكو روسى وفيللينى وانطونيونى ومارتين سكورسيس وستشاهد غيرها نخبة من المع الممثلين النجوم الذين ظهروا على الشاشة الفضية : مارلين مونرو وغريتا جاربو وآرليتى وكارى غرانت وايزابيل ادجانى ومارشيلو ماسترويانى وآل باتشينو وروبير دونيرو ويلموندو ..
كل فيلم من هذه الأفلام يعرض موضوعا معينا، له علاقة بالديكور الذى تقف فيه والمدينة أو المدن بجوانبها المتعددة التى هى موضوع المعرض . أغلب الديكورات هنا غير مستوردة، أو مستعارة من الاستوديوهات التى صورت بها ،بل هى جميعها مصنوعة ومقامة، بشكل يجعل هذا المعرض هو ذاته استوديو صالحا لتصوير أى فيلم، مع استخدامها، بحيث تصبح ” خلفية ” أو “أرضية” لاحداثه .ديكور محطة البنزين ليس هو مثلا، نفس الديكور الذى صورت فيه مشاهد الفيلم الفرنسى ( وداعا أيها الدمية ) للمخرج الفرنسى كلود بيرى، بل هو ديكور يطمح صانعوه إلى أن يكون أكثر شبها بديكور محطة البنزين، كما تواجدت فى ذلك الفيلم. ستنتقل هنا بين الديكورات، وسيكون جسدك قد ارتاح، وأنت تجوس خفيفا كالطيور السابحة ،فى جو هذا المعرض من الحلم الكبير – السينما – الذى امتزج بأجمل أيام حياتنا، وعهد ذلك الصبا وزمن الفتوة الذى ذهب إلى الأبد..
. هناستحس بمجموعة من المشاعر الغريبة المتباينة، وستحدق بعينيك وأنت تتأمل كل هذه المعروضات، وكأنك تتأمل فى بلورة ساحر عجيب، وترى فيها كل أيام حياتك التى اضعتها فى المدن هباء .فاذا بذكريات هذه الأفلام التى شاهدتها فى( سينما ايزس) وقبل أن تجرؤ على أن تخطو خارج حدود حى قلعة الكبش – كنت صغيرا يافعا متوثبا ولم يكن من الممكن لك وحدك ان تجابه فرق الاولاد الأشقياء، أبناء فتوات الأحياء المجاورة فى الحلمية والسيدة نفيسة الا بصحبة رفاقك – إذا بذكرياتها تمر كشريط طويل من الصور، هو قطعة من حياتك، تظهر بلقطات متحركة بطيئة، داخل هذه ” البنورة ” كما كنا نسميها نحن الأولاد الأشقياء ..
سينما ” ايزيس ” فى شارع مراسينا ،بجوار حديقة حوض المرصود، وبالقرب من مستشفى الرمد فى حى السيدة زينب، كانت مطارنا وقاعدتنا الجوية للانطلاق فى رحلات سينمائية عظيمة، إلى عواصم هذا العالم ومدنه على جناح الصو،ر ولم تكن تعرض فى فترة الخمسينات والستينات ومنذ تأسيسها، الا الأفلام الأجنبية فقط ..
كانت الأفلام تنتزعنا بصورها وأحداثها المتخيلة،وبديكوراتها وأجوائها الموسيقية من قلب الحارات والأزقة الضيقة فى حينا قلعة الكبش، لتزرعنا زرعا فى قلب الميادين الواسعة، داخل المدن الكبيرة ..
تضعنا على محطات القطارات، أو تتحرك بنا أمام واجهات المحال الضخمة. تحملنا إلى بواخر المسافرين العظيمة، وتدخل بنا إلى ميناء نيويورك، بعد أن نكون قد شاهدنا لقطات مقربة – لابد أنها صورت من داخل طائرة عمودية لتمثال الحرية فى مدخل الميناء ..
صارت قاعة (سينما ايزيس ) هى ” صندوق الدنيا ” الجديد الذى لا تتطلع من خلاله هذه المرة، إلى صورة عنترة وأبو زيد الهلالى والسفيرة عزيزة وشجرة الدر الثابتة ،وهى تمر أمام الثقب الذى نتطلع إليها من خلاله، ومركب عليه عدسة مكبرة، بل صندوق مختلف عن ذلك..
صندوق بأجنحة ،يطير بنا محلقا إلى باريس ولندن ونيويورك وفيينا وروما، وغيرها من عواصم العالم ومدنه، ليفتح لنا ولأول مرة سكة السفر ، ويمهد لنا الطريق لغزو هذه المدن.
السينما فتحت لنا أبواب التشرد والصعلكة. جعلت العالم فى متناول ايدينا ،ورتبتت لنا فى نسق بديع ، على أطراف حينا الصغير، كل مدن العالم الكبيرة ونحن الصغار الأشقياء، لم نكن نجرو بعد على تخطى عتبته وحدوده، خوفا من الهراوات والعصى التى تنتظرنا، وصغار الأحياء الأخرى المجاورة يقفون لنا بالمرصاد ..
الأفلام التى شاهدناها فى سينما ايزيس ( العصور الحديثة ) لشارلى شابلن و ( المواطن كين ) لاورسون ويلز و ( نفوس معقدة ) و ( الرجل الخطأ ) لهيتشكوك و ( قصة الحى الغربى ) لروبت وايز ( ايرما اللعوب ) لبيلى وايلدر وغيرها، وكل هذه الأفلام تدور احداثها داخل المدن الكبيرة، جعلتنا نكتشف ملامح مدينتنا القاهرة وأحيائها الكبرى العباسية ، شبرا ، وبولاق الدكرور ، وقبل أن نعرف أين يقع ميدان العتبة وسور الأزبكية وشارع سليمان باشا وقصر النيل ، كنا قد صعدنا إلى سقف باريس، فى فيلم لرينوار، وتجولنا فى أسواق طوكيو، فى فيلم لصامويل فولر، ورقصنا مع جورج شاكيريز وناتالى وود، فى حى الزنوج هارلم فى قلب نيويورك فى فيلم ( قصة الحى الغربى ) لروبرت وايز ..
السينما جعلتنا نعبر المحيطات ،فى اتجاه مدن الغرب، قبل أن نقدم على المخاطرة فى تجاوز حدود الحى، الا فى صحبة الأهل أو برفقة عياله مفتولى العضلات، من أبناء الجزارين، الذين يحتفظون دائما فى جيوبهم بالمديات الصغيرة ،بعد أن تأكد لنا أن مفعولها – هذه المطاوى، كما كنا نطلق عليها – أعظم تأثيرا من العصى والهراوات وقنابل التراب فى قراطيس الورق..
شاهدنا قصة الحى الغربى، وخرجنا جميعا ونحن نطرقع بأصابعنا كبطل الفيلم جورج شاكيريز، فاذا ما هبط الليل إلى حينا، اجتمعنا إلى جوار مسجد أحمد ابن طولون فى الساحة أمام دكان عم حسن الحلاق، ورحنا نتقمص شخصيات ابطال الأفلام البوليسية ،تحت عامود النور : أنت يا فتى تلعب دور ريتشارد ويد مارك، وأنت كلا.. ليس هكذا ينتزع همفرى بوغارات غدارته .. هكذا يفعل.. حسنا .. هذا أفضل بكثير ..
كنا نضنع المسدسات من الورق المقوى، وكانت اصوات طلقات الرصاص تنطلق من أفواهنا طاخ طاخ طاخ، فاذا ما نهرنا عابر سبيل لاننا نسد عليه الطري،ق كنا نعلن عن تذمرنا ، بأن نخاطبه بانكليزية، لم نكن قد تعلمناها فى المدارس بعد ، من اختراعنا ،فنصرخ فيه ، ونركض لنختفى في لمح البصر ..
هذه التمثيليات التى كنا نتقمص فيها ادوار الممثلين، الاشرار والاخيار منهم على حد سواء ، كلفتنا غاليا – مازلنا نذكر ذلك العازف فى فرقة أم كلثوم، الذى كان يسكن حينا ، ويصعد إليه فى أخر الليل، وذات مرة اصطدم بنا أثناء تمثيلية من التمثيليمات اياها، فشتمناه، وركضنا كالعادة ، وكان الواد رمضان اضعفنا عدوا ، فأمسك به ،وراح يضربه ويركله كالمسعو،ر فاستيقظ أهل الحى على صراخ المسكين، وراحوا يعنفون هذا المارد، الذى يتطاول بالضرب على طفل ضعيف برئ قزم ، كالفيل الذى يتحرش ببعوضة ،ويستطيع بسهولة أن يدهسها كوابور الزلط .
طبعا كل هذا التعنيف والشهامة التى اظهرها أهل الحى، ومن بينهم أهلينا، لم ترحمنا نحن الصغار ، من أحزمة الجلد التى كانت تنتظر عودتنا إلى البيوت، لينهالوا بها على أجسادنا ، وهات ياضرب ..
ضرب لم يمنعنا ،من التردد على قاعة( سينما ايزيس) ، والانتقال بتمثيلياتنا الى ساحة أخرى فى الحى، وحين التقينا نحن الصغار فى صباح اليوم التالى ونحن نهبط “الدحديرة” فى طريقنا المعتاد إلى مدرسة حسن باشا طاهر الابتدائية، كان أول ما فعلناه ، ان رحنا نطرقع بأصابعنا، كجورج شاكيريز..
وبقيت سينما ايزيس، فى اذن كل واحد منا، جرسا رنانا متصل الرنين، يدعونا إلى مدن هذا العالم ، فنتسلل الى القاعة، كأننا ندلف إلى كهف اصطناعى مظلم ، وسقط غبار مضئ متراقص، على الستارة، وترتوى عيوننا .تصبح حزمة الضوء الساقطة المتراقصة على الشاشة جسدا وحياة، و تقودنا حزمة الضوء إلى مغامرة متجولة، ونظل هكذا حتى تذيب موسيقى ختامية الظلال على الستارة ، ونخرج لنتحدث عن أحد الأفلام ..
فى الظلام كنا نحن الأولاد الأشقياء في حينا العريق ( قلعة الكبش ) في السيدة زينب،نتساءل عن طبيعة هذه العلاقة، التى تنشأ بين الانسان والسينما.ثم كبرنا وعرفنا، ان السمة الجوهرية للسينما، هى انها تمارس تأثيرها على الانسان ،فى نفس الوضع والمكان، الذى يوجد فيه المتفرج ،وهى تستبدل بتحرياتنا تحرياتها ..
ادركنا أنها السينما، تتخيل من أجلنا، ونتخيل بدلا منا ،وفى الوقت نفسه تتخيل بعيدا عنا، تخيلا أكثر كثافة وأكثر دقة، وعرفنا أنها أكثر قدرة من الانسان الواقعى، حين تتجاهل فوراق المكان والزمان ، عندما تقدم لنا فى مكان واحد، وفى زمان واحد، احداثا متتالية ، فى أزمنة متباعدة، أو منفصلة عن بعضها بعضا جغرافيا، فى مكان واحد .أنها تجعلنا نرى عملية اختراق الانسان للعالم، وهى تجعلنا ايضا نرى اختراق العالم للانسان ،وهذه العملية ،هى فى البداية عملية استكشاف لما هو خارجنا ،وهى فى النهاية كما يقول المفكر الفرنسي الكبير إدجار موران، عملية كشف عما هو فى داخلنا..
السينما تضع العالم فى متناول اليد، أو على وجه أدق تضعه فى متناول العين . أنها تضع العالم المجهول، لا بمدنه فحسب، بل بقاراته وأنهاره وبحاره وأناسه، فى متناول عيوننا . أنها العين الأقوى والأعمق من العين الانسانية، وأن كانت هى عين الانسان..
السينما تعكس التبادل العقلى ،بين الانسان والعالم ،وهذا التبادل هو استيعاب نفسى تطبيقى للمعرفة أو الوعى، ودراسة أصل السينما كما يؤكد موران، تكشف لنا عن أن السحر والمشاركات الخيالية بصفة أعم ،يجرى تبادلها بنشاط مع العالم بقدر هام من الخيال.ومن الممكن فى رأيه أن نقول عن قاعة السينما، أنها قاعة واسعة للعلاج النفسى، لأنها اداة نفسية بالدرجة الأولى..
ولعل هذا هو السبب ،فى أن الكثير من المصطلحات السينمائية الصناعية والفنية، يماثل الكثير من مصطلحات علم التحليل النفسى، وإذا أراد أحدنا أن يعرف حقيقة ما بداخل نفسه، فليسأل نفسه أثناء مشاهدته الفيلم، عن معنى رد فعله ،وإذا أراد أن يعرف حقيقة ما بداخل شخص آخر، فليناقشه فى الأفلام التى يراها..
الأفلام التى سوف تشاهدها هنا في المعرض،وأنت تنتقل من ديكورات حى سكني ما، الى حى أخر ، تقدم لك كل الصور التى طرحتها السينما عن المدن، وعلاقة الانسان بها ، وهي تعكس مجموعة كبيرة من أفكار وتصورات المخرجين عن المدينة الحديثة، وتوضح كيف ارتبطت المدينة بالسينما ، منذ افتتاح أول صالة عرض للأفلام فى العالم، فى 28 ديسمبر عام 1895 ، فى بدروم مقهى ” الجراند كافيه ” فى شارع كابوسين بباريس، وأصبحت من موضوعاتها المفضلة ..
هذا المعرض بأفلامه وديكوراته وأحيائه وجوه ،حين تكون قد انتهيت من مشاهدته، وسلمت سماعتك إلى المضيفة، وأنت فى طريقك الى الخارج، لتلتقى مرة أخرى بفضاء باريس، سيثير فى نفسك سؤالا : أو ليس من الغريب، وبفعل سحر هذا الفن، أن نعيش فى مدن ترزخ بثقلها على كاهلنا، فلا نشعر بها ،فى الوقت الذى يتعاظم فيه احساسنا، بتلك المدن الأخرى التى صورتها لنا السينما وقدمتها لنا على شاشتها وعبر أفضل افلامها ؟..
غريب ان تعيش فى مانهاتن فى قلب نيويورك، لكننا نكون مشغولين عنها بمانهاتن أخرى من ديكور وورق مقوى وخشب وقش، من ابداع مخرج اسمه وودى آلن..
يا له من أمر عجيب حقا، ان تسكننا مدن السينما الأخرى، من صنع الخيال والوهم وخداع البصر ، أكثر من هذه المدن التى نعيش فيها..
المجد اذن لروح الخيال الانسانى، كما يقول الشاعر الفرنسي العظيم ابولينير . المجد لروح المخاطرة والمغامرة، فى هذه المدن الأخرى من الخيالات والأحلام والأوهام والأفكار المكبوتة، التى تجعلنا نحن البشر، ننطلق من عقالنا لنتجاوز الزمان والمكان، ونخترق الحدود والابعاد، لنحلق فى الفضاء مع الطيور السابحات، وندور، وندور، ثم نهبط إلى أرضية هذا الواقع الصلدة..
” أحب أن أصنع فيلما بعنوان ” 24 ساعة فى حياة مدينة أصور فيه حياتها . الفيلم يبدأ فى الصباح الباكر بذبابة تحط على أنف صعلوك، يكون قد أمضى ليلته نائما على عتبة باب، ثم تبدأ حركة الصباح فى المدينة، وأريد أن أًصور فيه دورة الغذاء كاملة : وصول الطعام فى الصباح، وكيف يتم توزيعه على البيوت، وحركة البيع والشراء، التى يثيرها، ثم ادخل إلى المطبخ، وأصور عملية مضغ الطعام ،وتوزيعه على فنادق المدينة، وما يحدث بشأن استهلاكه، واستيعاب عناصره الغذائية، وبحيث ينتهى الفيلم بلقطات مقربة فى نهاية اليوم ،لأكوام القمامة والنفايات التى يقذف بها إلى المحيط. مهلا تسألنى أحدهم ماذا أريد أن أقول بهذا الفيلم . حسنا أريد أن أكشف عن معنى هذه ” الدورة” ،التى يمر بها الانسان . وفيلم كهذا، لابد أن يكون حتما مسليا..”..
الفريد هيتشكوك .مخرج بريطاني.ملك أفلام الرعب
***
” بعد عودتى من رحلة إلى أميركا ،طفت فيها أنحاء البلاد ،حاولت أن اتبين بالتحديد، ما خلفته فى نفسى من مشاعر ورؤى فصدمت . فى هذه الأميركا، ستجد فى كل مكان طرقا عالية للسيارات،وفنادق صغيرة ،وافيشات بأضواء النيون، ومحطات بنزين وأسواق، وكنت أحسب أنى ملاق أشياء أخرى غير ذلك ..
لا شيء . لم أعثر على أى شئ آخر . كل المدن هنا ستجدها متشابهة . ولا وجود البتة، لتلك المدن التى كنت أبحث عنها . عدت إلى نيويورك مرعوبا . أين هو هذا الحلم الأميركى، الذى جسدته لنا مئات الأفلام ؟. هذا بلد باع نفسه لحلم من الوهم “..
فيم فندرز.مخرج ألماني.” فيلم ” باريس.تكساس”
***
صلاح هاشم
صلاح هاشم مؤلف كتاب ” 35 سنة سينما.شخصيات ومذاهب سينمائية” .يصدر قريبا في مصر