أدونيس الشاعر . بقلم رفعت سلام
[ 1 ]
النصف الأول من السبعينيات:
لحظة اكتشاف العالم، بل لحظة الاصطدام بالعالم [قبلها، كنت أتحرش- بصورة عشوائية- بعالم القرية الصغيرة، القريبة من القاهرة (حوالي 35 كيلومترًا)، إلى أن التحقت بكلية الآداب، جامعة القاهرة- 1969]. هي لحظة الخروج من العالم المغلق، المستنفَد، للقرية، إلى عالم بلا ضفاف: ماكبِث، مرتفعات وَذَرنج، المعادل الموضوعي، الوحدة العضوية، أتوبيس رقم 9 (كوبري الليمون/ جامعة القاهرة)، مُدرج 78، مكتبة الجامعة، القاموس، رشاد رشدي، عبدالحميد يونس، فخري قسطندي، من هو هوشيار هستم ،
؟ Shall i compare you to a summer s day
عبد اللطيف احمد علي، شعراء المقاومة الفلسطينية، قصيدة التفعيلة..
يا الله..! أكل هذه الفضاءات بلا أسوار؟ أيمكن القفز من القصيدة العمودية إلى التفعيلية، بلا كارثة؟ وما كل هذا الإحساس بالحرية والراحة في أعقاب القفزة الخرافية، المرعبة؟
وما كل هذا الجوع والشراهة، كأنني لا آكل سندوتشات الفول والطعمية، بل أقضم- آناء الليل وأطراف النهار- الناس في بلادي، زرقاء اليمامة، أغاني مهيار الدمشقي، أنشودة المطر، من دفتر الصمت، مدينة بلا قلب، الأرض الخراب، عيون إلزا، ثورة الشعر الحديث، زمن الشعر.
نعم، هو “زمن الشعر”.
وهو زمن الأسئلة تتكاثر، وتتضاعف، وتتضارب، وتتشابك، ويأخذ بعضها برقاب بعض. ولا إجابة نهائية. هي احتمال إجابة، لا أكثر. وذلك ما كان مطلوبًا. فالجوع والشراهة يتكفلان بالباقي، بتحويل الاحتمال إلى “يقين” عابر [فكل “يقين” سيزول بعد قليل، ليعود إلى ما كان عليه: احتمال].
[ 2 ]
في هيولى الأفكار والأسئلة الجارحة- أوائل السبعينيات- أين يمكن العثور على مرتكزات؟ كيف يمكن الإمساك بأوتاد العالم، ونَصب خيمته؟
فتات أفكار يتناثر في المجلات الأدبية القاهرية المتاحة، وأحكام نقدية مطلقة، وصكوك الشعرية واللاشعرية، والثورية واللاثورية، وعبارات تبدو مبتورة من ماركس ولينين، تثير الأسئلة بلا أجوبة؛ فكيف يمكن التوفيق بين الإبداع والسياسة؟ والخطابةُ المنبرية آفة الشعر “الثوري”، و”التحريض” الخطابي صوتٌ بلا صدًى، أو صدًى بلا صوت [لكن النبرة الغالبة ما تزال هي نبرة الانتصار على التقليديين، حُراس القصيدة العمودية والتراث الغابر. حالة من الزهو الذاتي لدى الشعراء والنقاد، والاستمتاع باللحظة الذهبية لتحقق قصيدة التفعيلة]. ذلك ما يأتي باليقين سيدًا للوعي السائد، وبالمصالحة مع العالم، والرضَا عن الذات والزمن؛ ذلك ما يحقق الاكتفاء، وينفي السؤال والقلق.
والأفكار والتأملات والتأثرات والقصائد الشهيرة تعبر- في الذهن والخيال- خاطفة، مُستهلَكة، لتُخلي مكانها لغيرها. وقصائد أولى لن يتم التمسك بها طويلاً، سرعان ما تزيحها إلى النسيان السريع قصائد أخرى تالية، فتالية.. فالشراهة- شراهة الاكتشاف، واختباره عمليًّا، أي نصيًّا- مقرونة بالتجاوز والنسيان.
ويبقى السؤال هو اليقين الوحيد في الوعي والعالم. يبقى قلق المجهول، العصي على الاستنفاد، هو البؤرة الوجودية التي ترهن النوم واليقظة.
[ 3 ]
هو “زمن الشعر“. علامة طريق باهرة للقادمين، الباحثين عن أفق وسؤال، بالخروج على المعلوم إلى المجهول.
فَـ”القصيدة” السائدة آنذاك هي قصيدة “التفعيلة” الظافرة [كنت قد انتقلت إلى كتابتها من النمط العمودي الرومانتيكي، الساذج. وخلال عامين أو ثلاثة، استهلكت التأثرات الأولية، التي ساهمت في إحكام سيطرتي على بنية القصيدة، وبنية الصورة، بلا خلل تفعيلي. فإحساسي بالانتصار الشخصي- في عملية الانتقال من نمط سابق إلى “التفعيلي”- كان يوازي ذلك الإحساس العام بالانتصار، لدى شعراء “التفعيلة” الذي امتد من الخمسينيات إلى منتصف السبعينيات] رُبع قرن تقريبًا تحولت خلاله قصيدة التفعيلة- لدى الغالبية العظمى من شعرائها- إلى “نمط” سكوني، تكراري، رمادي؛ وفقدت وهجها واشتعالها، إلا لدى مَن رحم ربي. “نمط” سابق التجهيز والصُّنع، له مواصفاته القياسية المعروفة، والمجرَّبة، مرتكزه ما هو “آمن”، وعماده “الطمأنينة” و”اليقين”، وخصمه القلق والشك والسؤال. إنه الإجابة الشافية الكافية التي تلغي الحاجة إلى السؤال، أي سؤال.
فما تلك القصيدة الأخرى التي يبشر بها أدونيس في “زمن الشعر“، استنادًا إلى سوزان برنار في كتابها الشهير؟
قصيدة لا تعرفها الشعرية العربية، ولم تسمع بها حتى ذلك الحين، بلا شروط خارجية: لا بحر، ولا وزن، ولا تفعيلة؛ لكنها مرهونة بالكثافة، والتوهج، والمجانية، والوحدة العضوية. ليست “النثر الشعري”، ولا “الشعر المنثور”، ولا “النثر الفني”؛ ليست ما كتبه أمين الريحاني، ولا جبران، ولا الرافعي. هي شعرية الكشف، والرؤيا، والعرافة، والهدم، والشاعر النبي؛ لا شعرية الخطابة، والمنبرية، والتلاعبات اللفظية والوزنية. هي قصيدة أخرى، تنتمي إلى شعرية أخرى؛ قصيدة قادمة بعد عقود، ولم يكن قد آن أوانها آنذاك في الشعرية العربية، المحتفلة بانتصار “التفعيلي”.
[سيتجاهل القصيدة أهم نقاد ومراجع ذلك الزمن: عزالدين إسماعيل وكتابه “الشعر العربي المعاصر: قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية“، وعبدالغفار مكاوي وكتابه “ثورة الشعر الحديث“، ومحمد النويهي وكتابه “قضية الشعر الجديد“؛ وبالطبع نازك الملائكة وكتابها “قضايا الشعر المعاصر“. وسيكون على القصيدة انتظار جيل السبعينيات، ليفرضها على الواقع الشعري العربي، ويصبح ممكنًا لأدونيس الدخول اللائق إلى القاهرة الثقافية].
لكن قصيدته ستكون اختراقًا لأراضٍ مجهولة بالنسبة للشعرية العربية، وضربًا في آفاقٍ غامضة غير مطروقة، في رؤية العالم، في اللغة، في الصورة الشعرية، في اكتشافات التراث العربي المهمَّش الصوفي (وخاصةً النفَّري). هي قصيدة تشير إلى قارات وبلدان وعوالم خارقة، فانتازية، تحفز الذهن والخيال معًا، لا تخاطب المنطقي بقدر ما تستنفر وتستفز طاقات الحُلم والبصيرة والرؤى الجوانية، الشبيهة بالسحر والإشراقات الصوفية. [كنت معجبًا كثيرًا آنذاك بـديوان “كتاب التحولات والهجرة في أقاليم النهار والليل“، بأكثر من سابقيه].
اختراقات نظرية وإبداعية، تضعه- بالنسبة لي آنذاك- في مصاف رامبو وبودلير ومالارميه، المؤسسين لـ”ثورة الشعر الحديث“- كما قدمها عبدالغفار مكاوي، في كتابه الشهير، الذي أصبح إنجيلاً حداثيًّا لشعراء السبعينيات. كأنه ليس من هذا العالم الذي يحيط بنا، ويتحرش بتصوراتنا ورؤانا التي تتعدل بين يوم وآخر، بين أسبوع وأخر، بين كتاب وآخر.
لا سكونية، لا ركون إلى المنجَز، لا إعادة إنتاج في دائرة مفرغة. ضد التكرار، والطرق الممهدة، والآفاق البالية.
[كان ذلك ما يتوافق مع تطلعاتي الغامضة، المضادة للتكرار والسكونية، الكارهة للرمادية، الباحثة عن مغايرةٍ ما عما هو سائد ويتفشَّى إلى حدٍّ فج. لم أكن أبحث عن أفق محدد، بعينه، بل عن مطلق المغايرة].
[ 4 ]
“الثابت والمتحول” (1974): محطة أساسية أخرى.
لم يكن أدونيس الشاعر “الحداثي” الوحيد الذي اهتم بـ”التراث العربي”، فيما كانت الهجمة “السلفية” الشعرية (العقاد، عزيز أباظة، لجنة الشعر بالمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب)، تتهم الشعراء “الحداثيين” بالجهل بالتراث وتخريبه، وصولاً إلى حد عدائهم للدين، دون أن يتورع السلفيون عن تحريض “السلطات” عليهم. على سبيل المثال، كان ثمة صلاح عبدالصبور (قراءة جديدة لشعرنا القديم).
لكن “الثابت والمتحول” لأدونيس كان محطة أساسية أخرى. إنه غوص في تلافيف التراث ككل (ليس الشعري فحسب)، في قراءة نقدية جارحة، لا إعادة إنتاج له؛ تلك القراءة التي ينطبق عليها مفهوم “المساءلة”، بل “المحاكمة”؛ لا تبرير، ولا تربيت، ولا تواطؤ. بل هو الحد الأقصى من المواجهة الفكرية الممكنة، بلا استخفاف، ولا عشوائية.
ورغم ما سيشوب “المنهج” من ملاحظات سلبية [ستتجلى- بالنسة لي- في قراءة نقدية للكتاب ضمن كتابنا “بحثًا عن التراث العربي” (1993)]، إلا إن “الثابت والمتحول” سيظل أحد المعالم الفكرية البارزة عربيًّا للقرن العشرين.
[ 5 ]
نعم، هو “الشاعر”.
وفي مجتمع يهيمن عليه “التقليد” و”الماضوية” [والمصطلح له]، يصبح “الشاعر” مصدر إزعاج دائم [تلك هي مهمته التاريخية، ودوره الاستثنائي]، فيصبح بالتالي هدفًا ثابتًا للقذف بالطوب والشتائم، بمناسبة وبدون مناسبة، حتى من قِبَل من ينتسبون إلى الثقافة والآداب. يصبح الترصد له منهجًا وقاعدة. فوجوده- في ذاته- تعريةٌ بلا كلام، وفضحٌ بلا هوادة.
وذلك ما لم يتهاون أدونيس للحظة واحدة بشأنه، طوال حياته، حسب ما يرى.
وذلك هو جوهر “الشاعر”.
رفعت ســــلام
عن ” الأدب ” بتاريخ الأحد 28 يونيو 2010
–