الثورة الرقمية وثقافة الفوضى المتغيرة بقلم د. نبيل عبد الفتاح
الثورة الرقمية، وتطوراتها السريعة، تسهم فى إشاعة حالة من الفوضى فى الحياة الثقافية، والسياسية، والاجتماعية فى عالمنا العربى، لأنها فتحت المجال واسعا أمام تفجر المكونات السوسيو-نفسية، الفردية، والجماعية للجموع الرقمية والفعلية الغفيرة التى خرجت من المجال العام الفعلى المغلق، أو المحاصر إلى الحياة الكونية
كل تفاصيل الحياة المعلن منها، والمستور، والمكبوتات، والشرور، والكراهية، والعنف -والرغبات، والحواس الملتاعة، والأخيلة الحواسية المضطربة – والتابوهات باتت مطروحة على وسائل التواصل الاجتماعى، تحت الأسماء الحقيقية، أو الأسماء المستعارة. بات الفرد الرقمى قادرا على التعبير عن مكبوتاته، ورغباته، دونما سيطرة، لكنه تحت رقابة الشركات الرقمية الكبرى التى توظف المعلومات والمواد والرغبات، والـBig data للشركات الكبرى، توظفها فى إعادة إنتاج السلع، والخدمات بناء على هذه المواد المباعة لها. من أبرز الآثار السوسيو- ثقافية للثورة الرقمية فائقة التطور، تمثلت فى تقويض بعض المكونات الثقافية فى عديد من ثقافات العالم العربى، وغالب عالمنا كله، وذلك من خلال ما يتم تداوله فى الحياة الرقمية، من قيم ورغبات وجماعات، وسخرية، ونقد الطبقات السياسية، وذلك على الرغم من خضوع الحياة الرقمية للرقابة السياسية.
سياسة الاتجاه/ التريند Trend Politics، يستخدمها أيضا بعض الأفراد الرقميين، والفعليين، وفق آرائهم وتوجهاتهم السياسية . الأهم أن بعض القوى والجماعات الإسلامية تستخدم سياسة التريند المضاد، فى الهجوم على السلطة الحاكمة وأجهزتها، ورموزها البارزة، وفى التشكيك فى سياساتها، الاقتصادية، والاجتماعية، والدينية، وإظهار بعض المعلومات الصحيحة، أو الكاذبة، مع القدح فى الذمم والنوايا، وعلاقات الحكومات ببعض الدول الغربية الكبرى، أو إظهار بعض المعلومات عن مفاوضات سرية لها، بالحق أو الباطل! الهدف واضح هو إيجاد حالة من عدم الثقة بين المواطنين، والحكم، وتوسيع فجوات عدم المصداقية .
هذه الظواهر الرقمية، وتراكماتها باتت مؤثرة على الحياة الفعلية، ولها بعض الإيجابيات التى تتمثل فى كشف الفساد الفردى، أو السلطوى، والكشف عن بعض التواطؤات السلطوية فى عدم تطبيق القانون، أو الالتواء به لمصلحة بعض رموزها، وأيضا فى الكشف عن انتهاكاتها للحريات العامة، والفردية..الخ. من ناحية أخرى تكشف عن سياسة صنع الأكاذيب من بعض المعارضات العربية، وجماعاتها بما فيها الإسلامية السياسية، والسلفيون. الأهم أنها تكشف عن مستويات العقل السياسى السائد سلطوياً، ومعارضا، وأزمات الفكر السياسى، وجموده وطابعه النقلى سواء الدينى، أو شبه العلمانى، أو السلطوى. كشفت الثورة الرقمية عن لاتاريخية غالب هذا الفكر.
أسهمت وسائل التواصل الاجتماعى، وطوفان المنشورات، والتغريدات، والصور، والفيديوهات القصيرة المتلاحقة فى تسليع بعض الحالة الرقمية من خلال استخدام الأفراد، لوسائل التواصل فى تقديم فيديوهات الغرابة، وتحدى الذوق العام وفى الانكشاف الشخصى، أو فى إظهار بعض الخلاعة او الغرابة فى الفيديوهات، والصور، والأغانى، والموسيقى المصاحبة للفيديوهات فى تجميع من يحبون هذه الفيديوهات، وذلك بهدف الحصول على المال من الشركات الرقمية الكونية.
ما أثر هذه الظواهر على الأفراد والجماعات الفعلية أيا كانت؟ لا شك أنها أسهمت فى انكشافها، ونهاية الخصوصية، وأيضاً فى فرض قيم مضادة، أو مغايرة للقيم الاجتماعية السائدة فى المجتمع الفعلى، وكسر مفاهيم البطريركية، والتماسك الأسرى، وبعض المفاهيم والسرديات الدينية الوضعية التى يروج لها بعض رجال الدين والسلفيين، ونقدها، وأحيانا السخرية منها لفقدانها المنطق، ولأنها محضُ حكايات شعبية، ومرويات يرمى بها رجل الدين التأثير على الجماهير الغفيرة من البسطاء، لكى يسيطر، ويؤسس لمكانته! لا شك أن القيم الجديدة، تتصادم مع السائدة فى الواقع الفعلى، ويدافع عنها كبار السن، وسلطات الدولة تحت مفاهيم المصلحة العامة، والآداب العامة فى نظامها القانونى.
الواقع الافتراضى، وبعض فوضاه تؤثر على الواقع الفعلى، لاسيما مع الأجيال الجديدة الشابة، التى يتغير سلوكها الفعلى وبعضه مع التغير القيمى، والثقافى الرقمى، و من ثم يؤدى ذلك إلى إشاعة بعض من الفوضى، وكسر لبعض قواعد النظام الاجتماعى السائدة، والموروثة، والصراع الحاد بين القيم السائدة والجديدة المضادة لها، وهو ما يؤدى إلى توترات حادة، وبعض الظواهر الاجتماعية الجديدة. من بينها زيادة معدلات العنف الأسرى، وعدم الرضا داخل مؤسسة الزواج، بالنظر إلى متابعة بعض المواقع الإباحية، وارتفاع معدلات الطلاق على نحو يبدو استثنائياً! الأخطر توظيف مواقع التواصل فى توثيق عمليات قتل، وعنف، وانتحار! من ناحية ثانية: ارتفاع معدلات الجريمة، وطابعها الاستعراضى فى قتل بعض الصديقات اللائى رفضن الارتباط بالشاب القاتل- أو جرائم قتل الأمهات والآباء من أبنائهم! بالنظر إلى تفاهة الأسباب المؤدية لذلك، وقتل بعض الآباء للأبناء الصغار، وازدياد الخيانات الزوجية، وتسجيل بعض اللقاءات الحميمية مع بعض السيدات، والفتيات، من خلال كاميرا الهاتف المحمول، وتهديدهن بها..الخ.
لا شك أن هذه الظواهر الرقمية، وآثارها تحتاج إلى البحث السوسيو- نفسى، لأنها مهمة للمشرع، والسلطة التنفيذية، والنظام التعليمى، والأسرة، والإعلام حتى يمكن وضع سياسات لاحتوائها وضبطها او التكيف معها فى الواقع المتغير.
بقلم
د.نبيل عبد الفتاح
نبيل عبد الفتاح كاتب ومفكر وباحث إستراتيجي مصري مقيم في القاهرة
عن جريدة ” الأهرام ” بتاريخ الخميس 19 يناير 2023 لـ”مختارات سينما إيزيس”