السينما رؤية وموقف من الحياة بقلم نبيل عبد الفتاح
شكل الانتقال من عصر الصورة الفوتوغرافية إلى الصورة السينمائية نقلة مهمة فى مجال التوثيق للوقائع التاريخية، والسياسية، والاجتماعية، والثقافية. لم تقتصر الصورة الفوتوغرافية على التوثيق للأحداث، والمشاهد، وإنما إلى فن متميز من خلال كبار المصورين الفوتوغرافيين وبعضهم مصورون صحفيون، كانت نظرة المصور الفوتوغرافى وتشكيلاته البصرية، وقدرته على اتخاذ زوايا التصوير، وأماكنه، ولحظاته، وبين النور والإضاءة والظلال، والتقاط التعبيرات على الوجوه، وحركة الجسد، والأحداث الطارئة فى الأزمات السياسية والحروب وتقلبات الطبيعة ، وتحولت معهم الصورة إلى سردية فوتوغرافية وحركية. انتقلت الحرفية، والإبداع من الصورة الفوتوغرافية من الأبيض والأسود، وما بينهما من ظلال وألوان بعد ذلك إلى مجال الصورة السينمائية التى شكلت نقلة فى السرديات البصرية، والحركية، وصاغت الخيال الإنسانى – ضمن مصادر وسرديات وذكريات وأحداث أخرى-، وجزءا اساسيًا من جماليات السينما، التى ركزت فى تطورها على أدوار الممثلين والممثلات، والمخرجين، ثم كتاب السيناريو، والمصورين. لم يأخذ المصورون حقهم، ودورهم البارز فى تطور الفن السابع إلا مع المهرجانات السينمائية الكبرى، فى كان وفينيسيا، وبرلين، وكارلو فيفارى …إلخ. إلا أن المشاهدين كانوا ولا يزالون مأخوذين بالسردية السينمائية، والممثلين والممثلات، وكبار المخرجين، خاصة فى السينما الإيطالية بعد الحرب العالمية الثانية ومعها الجديدة، والموجة الجديدة فى فرنسا مع فرانسوا تروفو، وجان لوك جوادار، وآخرين.
كانت السينما المختلفة، وسينما المؤلف، جزءًا من عالم تصطرع خلاله السرديات الفلسفية، والسياسية الكبرى، والحوارات بين الفلاسفة، وخروجهم للتظاهر مع الطلاب ١٩٦٨مثل جان بول سارتر وسيمون دى بوفوار، وميشيل فوكو،، والتغيير الذى حدث فى النظم الجامعية الصارمة، وتقاليد الدرس فى جامعة السوربون، ونشأت جامعات تدرس الفلسفة، والعلوم الاجتماعية من منظورات مختلفة خرجت من أعطافها منظورات فلسفية جديدة، ونظريات اجتماعية، ركزت على الخطاب النقدى المختلف للرأسمالية الفرنسية، والغربية، ومجتمع الأشياء، والاستهلاك المفرط، ومن خلالها ظهرت التفكيكية، وما بعدها، ونظريات ما بعد الحداثة، وتطور النظريات اللسانية، بل وثورة الألسنيات التى تمددت إلى كل العلوم الاجتماعية، وأحدثت تحولا فى النظريات الأدبية.
ما علاقة ذلك بعالم الصورة الفوتوغرافية، والسينمائية، والسرديات السينمائية، والبصرية، وعالم التلفزات؟ لا شك أن كبار مخرجى السينما، كانوا جزءًا من هذه التحولات الكبرى التى زلزلت عالم الثنائية القطبية، والحرب الباردة، نعم زلزلت، من خلال زلزال ناعم، لأنه بصرى فى سردياته، ومؤثر على الثقافة البصرية الكونية فى أوروبا، وخارجها، لأنها ساهمت عبر الصورة الحركية، وسردياتها فى إعادة تشكيل مخيلات المشاهدين، وتمثلاتهم وذائقتهم البصرية، من خلال سردية المخرج المؤلف البصرية، وأسئلته، وحواراته الفيلمية، وإدارته للعمليات السينمائية. هنا تحول بعض كبار المخرجين إلى فلاسفة سينمائيين من خلال لغة الصورة، ومعهم كبار المصورين فى فرنسا، وإيطاليا، وألمانيا. من هنا كانت الواقعية الإيطالية منذ الأربعينيات نقلة فى الفن السابع مع روبرتو روسيلينى، ولتشينو فيسكونتى، وفيتوريو دى سيكا، وتأثر بعضهم بالسينما الفرنسية السوداء وفى ألمانيا فيريز هيرتزوج، ورانير فاسبيندر، وفيم فيندرز، وميشائيل هاينكه، وميشائيل هيربينغ، وفى فرنسا جان لوك جودار، وفرانسوا ترفو، وإريك رومير، وكلود شابرول، وجاك ريفيت، وكان هؤلاء يمارسون النقد فى مجلة دفاتر السينما الشهيرة Cahiers du cinema، والناقد أندريه بازين أحد أبرز مؤسسى المجلة الذى احدث تأثيرا على حركة السينما الجديدة، وعلى ما أطلق عليه la politique des auteurs أى سياسة السينما . كانت ثقافة المخرج المؤلف التكوينية رفيعة، وكذلك المصورون، وأيضا بعض الممثلين والممثلات، لأن الجميع فى العملية السينمائية يتأثرون ببعضهم بعضا فى مناخ حر، يتداول خلاله الأفكار، والرؤى، والفلسفات والفنون المختلفة.
كانت ثقافة المخرج المؤلف، والممثل والممثلة، والمصور تتسم لدى بعضهم/هن بالعمق، وأيضا بالتمثل الذاتى، أى أن خطاب المخرج، والممثلة، والمصور هو تعبير عن رأيه، وموقفه من الأفكار، والحياة، وليس مجرد ترداد لما قرأ، أو شاهد، أو سمع! هذا تعبير عن العقل الحر، والفردية، والخبرات الذاتية، والموقف الشخصى من الحياة والأفكار والأشخاص، والمشكلات الاجتماعية، والسياسية.. إلخ!
بقلم
نبيل عبد الفتاح
نبيل عبد الفتاح مفكر وناقد وباحث إستراتيجي مصري مقيم في القاهرة.مصر
عن جريدة ” الأهرام ” بتاريخ الخميس 24 نوفمبر 2022