الفرد الرقمي والتغير في القيم الاجتماعية بقلم نبيل عبد الفتاح
عندما تم اكتشاف وتصنيع جهاز الراديو الترانزيستور عام 1955 وتصغيره ليحمل فى الجيب عام 1957، ثم تطويراته المتعددة مع شركة سونى اليابانية، حدث تغير كبير فى الاتصالات على المستوى العالمى، وصفه رئيس الوزراء الكندى ليستر بولز بيرسون 22 أبريل 1963- 20 أبريل 1968- أنه جعل العالم قرية صغيرة، وتطورت التقنيات الاتصالية إلى التلفاز الترانزيستور، وكلها كانت مداخل لتطور وصل إلى ما أطلق عليه بعضهم القرية الإلكترونية العالمية، ثم إلى ظهور عالم الإنترنت والشبكات، والهاتف المحمول حتى تحول العالم إلى ماسبق ان اطلقت عليه الغرفة الكونية، ثم إلى تحوله إلى جهاز نقال، هذا التغير التقنى أثر فى الوعى والقيم والثقافات، وكسر بعض السياجات المفروضة فى دول الجنوب التسلطية على العقل والمعلومات والأخبار نسبيا. من الهاتف المحمول، والألواح الرقمية، اصبح العالم عند أطراف الأصابع. أسهمت الثورة الرقمية، ومواقع التواصل الاجتماعى، فى تشبيك العالم كله، وأصبحت فى تطوراتها فائقة السرعة، تعيد تشكيل الجموع الفعلية والرقمية الغفيرة،وفى ذات الوقت تساعد على إنتاج الفرد فى المجتمعات المتخلفة فى تطورها التقنى فى جنوب العالم. كان الإعلام والصحافة والتلفاز فى القرن الماضى، أحد محركات المجتمعات الصناعية الكبرى، وأثر فى تطور علاقات الإنتاج، وشروطه والأهم فى القيم، والمعايير السلوكية، وفى تطور الثقافة، وتسليعها كجزء من أنماط الاستهلاك فى السلع والخدمات، كما حدث فى السينما الأمريكية والأوروبية، وفى صناعة الأكاذيب، والشهرة الزائفة، وأيضا فى تسليع نجوم السينما والمسرح، ورجال السياسة.
الثورة الرقمية، وفضاءاتها الحرة والمراقبة أيضا أثرت فى تطوير الصحافة، والإعلام، ثم حلت محلها على نحو تدريجى، باستثناء إدخال المواقع الرقمية للصحف الكبرى فى أمريكا، وأوروبا، وباتت حياة الأجيال الجديدة رهينة الرقمنة، وأدواتها وخطاباتها، ومواقعها على الشبكة العنكبوتية. لا شك فى أن هذا التطور التقنى فائق التطور والسرعة يمثل أحد محركات التغير الاجتماعى، وهو ليس عاملًا وحيدًا، وإنما هناك أيضا التطورات التقنية فى العلوم، والثقافة، والاقتصاد والسياسة وطبيعة النظام السياسى، لكن الجديد يتمثل فى أثر التطور الرقمى، السريع جدا فى إحداث التغير الاجتماعى فى عالمنا، بما فيها البلدان الواقعة فى دائرة التخلف الاقتصادى، والاجتماعى فى جنوب العالم، ومنها المنطقة العربية، بحيث تجاوز أثرها التربية والتعليم، والعسر الاقتصادى والاجتماعى، فى إحداث تغييرات فى منظومات القيم الاجتماعية والمعابر السلوكية، بل وفى الوعى الاجتماعى والسياسى إلى حد ما لدى الأجيال الجديدة .
من أبرز هذه التغيرات الاجتماعية، والثقافية، والمعلوماتية، هو تزايد زمن الحياة الرقمية على الحياة الفعلية التى يمارسها الفرد يوميا، خاصة مع تشكل الفرد الرقمى واللغة الرقمية، والقراءة الومضة، والتعبيرات الشذرية الوجيزة والسريعة، والأهم أثر الحياة الرقمية على المشاعر، والأحاسيس والحواس، وأشكال التعبير الرقمية، بل ونمط العلاقات الاجتماعية الفعلية داخل الأسرة، والصداقة، والمجالات الاجتماعية، التى أدت إلى تغيرات فى هذه الحياة الفعلية اليومية، وذلك على النحو التالى:
– تفكيك العلاقات الاجتماعية داخل نظام الأسرة، والعائلة الممتدة، وتحولها من التفاعل المباشر إلى التفاعل الرقمى، من خلال مواقع التواصل الاجتماعى، أو عبر الهاتف المحمول، وهو امتداد العمليات تذرى الأسرة النووية داخل المدن المريفة، بل أثر أيضا على نمط العلاقات التقليدية فى الأرياف، وإلى المزيد من استقلالية الفرد النسبية داخل الأسرة، وخارجها، مع تفاقم الضغوط الاقتصادية، وارتفاع معدلات التضخم وأثرها على الحياة الاجتماعية اليومية.
– تحول المجاملات الاجتماعية من الواقع الفعلى إلى الواقع الرقمى، فى إقامة سرادقات العزاء الرقمية، وفى التهنئة فى الأفراح، أو النجاح فى الامتحانات العامة، أو الأعياد الدينية، أو الترقى فى الوظائف، أو العمل بعد التخرج أو البطالة، أو السفر فى إجازة، أو السفر للخارج أيا كانت أسبابه ودوافعه.
لا شك فى أن هذه التغيرات وتحولها من الإنسانى التفاعلى المباشر إلى الرقمى، تشير إلى نمو الاستقلالية الفردية عبر التفاعل والاتصال الرقمى، وهو ما أثر فى الحياة المصرية، والعربية – والكونية، بديلا عن التطورات الصناعية، وعلاقات الإنتاج الرأسمالية، والتمايز بين الوضعى والميتاوضعى فى المجال الدينى، وإنتاج الفرد فى المجتمعات الصناعية. مثل هذا لم يحدث فى مصر، والعالم العربى من قبل إلا قليلا فى مجتمعات ما قبل وما بعد الكونيالية الغربية الوقحة، فى ظل أنظمة توتاليتارية، وتسلطية من هنا تعثر ميلاد الفرد المستقل الإرادة والمشيئة، نظرا لسيطرة العلاقات التقليدية، ومورثاتها، وقيمها! جاءت تكنولوجيا الاتصال المتطورة، وأدت إلى تسريع عمليات ميلاد الفرد الرقمى، مع استمرارية القيود على حركته الفعلية!
العلاقات الرقمية أدت إلى تغيير كبير ومتنام فى قيم ومشاعر وسلوك الفرد الرقمى ومعاييره، بل فى لغته الرقمية، وتحول هذه المشاعر إلى مشاعر خشبية -إذا ساغ التعبير والوصف- أى لغة بلا مشاعر فى الحزن، والفرح، والسخرية. لغة نمطية متكررة، ومتداولة على الواقع الرقمى فى العزاء، والمشاركة فى الفرح..إلخ.
تسيطر على المشاعر الرقمية منشورات نمطية مكررة من غالب الأفراد الرقميين، وحلت بديلا عن المشاركات الاجتماعية فى العزاء، والأفراح، والمرض، دونما روابط اجتماعية تفاعلية ومباشرة. بات البديل الرقمى التواصلى هو المسيطر على مشاعر وتفكير الفرد الرقمى.
لا شك فى أن هذا التغير فى العلاقات الاجتماعية يحملُ فى أعطافه عديدا من المثالب، لكنه بات مسيطراً، والمرجح عدم تغيره، فى اللغة الساكتة، المنزوعة المشاعر والأحاسيس التى يتم تداولها على مواقع التغير الاجتماعى، واستبدال الكلمات منزوعة الأحاسيس، وبعض الصور الومضات، لتحل بديلا عن المشاركة الفعلية، بل وأثرت أيضا عليها.
أدت الثورة الرقمية إلى نمط من الاستعراضات الرقمية فى مجال الصداقة الرقمية، من خلال تحولها بديلا عن أفعال الصداقة الفعلية من اللقاءات المباشرة، والمشاركات والدعم من الصديق لأصدقائه فى الأحزان، والأفراح، والمشكلات الاجتماعية، إلى نمط من الصداقات منزوعة الروح والأحاسيس، فى ظل مسافات بين الأصدقاء فى الواقع الفعلى، وإلى محض تعبيرات خشبية على الواقع الافتراضى، أو عبر الهاتف المحمول.
ثمة تحولات، وتغيرات اجتماعية واسعة تتم عبر الحياة الرقمية، وتطوراتها فائقة السرعة على حياة الفرد الرقمى والفعلى، ولن تتغير إلا من خلال التطورات الكبرى مع الذكاء الاصطناعى التوليدى، خاصة مع الأجيال الشابة والأصغر سنا، وذلك على الرغم من تحفظات الأجيال الأكبر سنا، ونصائحها، والحكم الأخلاقية التى تبديها على الواقعين الفعلى والرقمى، ولا السياسات التعليمية والتربوية القديمة، ولا منشورات النوستالجيا لما يطلق عليه الزمن الجميل، وغيرها الأوصاف التى غادرتها معانيها وسياقاتها التاريخية. عالمنا يتحول نحو قطيعة مع علاقات الماضى ومحمولاته وقيمه وسلوكياته.
بقلم
نبيل عبد الفتاح
تبيل عبد الفتاح كاتب وباحث ومفكر مصري تنويري ومستشار مركز الأهرام للدراسات الإستراتيجية
**
عن جريدة ” الأهرام ” بتاريخ الخميس 24 أغسطس 2023