عن الطاقة الروحانية، بقوة الضوء، التي تمنحنا لنا السينما .القاهرة 42 والناس ( 1 ) بقلم صلاح هاشم
ان الطاقة الروحانية الكبرى التي تمنحا لنا السينما ،حين تستحوذ علينا بأجوائها وأنوارها وبقوة الضوء وسحره، هكذا فكرت ،تشجع على الاقبال على الحياة، والنهل من بهجتها..
يوم الأربعاء 2 ديسمبر وكان حفل افتتاح الدورة 42 لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي قد بدأ، وبالطبع لم أحضره، حطت بي طائرة مصر للطيران القادمة من باريس في مطار القاهرة الدولي في الثامنة والنصف مساء. وبصراحة كان الاستقبال لي في المطار استقبالا ملوكيا، فقد تفاجئت بحضور د.أشرف سلامة – المشرف على الاقامة لضيوف المهرجان القادمين اليه من أنحاء العالم – أكثر من 100 ضيف، وهو رقم قياسي بكل المقاييس في ظل انتشار الوباء واستقبالهم والسهر على راحتهم طوال فترة استضافتهم في فندق ماريوت – ghsjrfhgd وحملوني في سيارة مرسيدس فخمة فارهةكما لوكنت نجما عزيزا يتشرف المهرجان بحضوره، وقد خصصوا لي سكرتيرة خاصة جميلة في الفندق المذكور، وجدتها تجلب لي من المكتب الصحفي حقيبة المهرجان وبها كتب الدورة 42 و بطاقات الطعام في الفندق” ، ونزلوني في سرايا الزمالك، وطلبت لدهشة د.أشرف سلامة من موظف الاستقبال ان اقيم في الدور السابع، غرفة رقم 750 !
لكن لماذا الدور السابع والغرفة رقم 750 ؟ لا أعرف.
لكن اتضح لي في مابعد، حين وصلت الى الغرفة المذكورة، وقام عامل من الفندق بحمل حقائبي ومعه مفتاح الغرفة بفتحها، واذا بها كما تخيلت أن تكون تماما.
غرفة تطل من الدور السابع على حديقة الفندق الكبيرة ،ومن شرفة الغرفة يمكنك ان تطل على حمام السباحة القريب، وأنصت الى صوت مياه حمام السباحة، وهي تدعوني.
ودارت عجلة الزمن بي في المهرجان الكبير وبدأت تلك المصادفات السعيدة تقع لي وأنا أدلف داخل المياه ، مثل سباحة فيلليني في الجو ، من دون خوف أو وجل.
فيلليني سباحة في الجو.لقطة من فيلم ” فيلليني والأرواح “.ضربة معلم تحسب للمهرجان
يوم السبت 5 ديسمبر، توجهت لمشاهدة فيلم ” فيلليني والأرواح ” الذي جلبه المهرجان من أفلام مهرجان ” كان ” الدورة 72 التي تأجلت، لعرضه خلال احتفال الدورة 42 لمهرجان القاهرة السينمائي بمئوية فيلليني، والتقيت بمجموعة من الأصدقاء قبل عرض الفيلم، وقدمتني.
صديقة للفنانة عزة بلبع
– تعرفي الأستاذ صلاح
قالت عزة
– لأ
قالت صديقتي
– الأستاذ صلاح عايش في باريس وناقد كبير
قالت عزة
– ياسلام على باريس، وأيام باريس، كم كانت أياما رائعة حقا . تصور يا استاذ صلاح ، انا لما كنت في باريس نشرت لى مجلة لبنانية اسبوعية من المجلات الهربية المهاجرة الى باريس في فترة الثمانينيات حديثا لي على 3 صفحات
قلت لها
– آه أتذكر، ماهي دي مجلة “الوطن العربي” اللبنانية الاسبوعية التي كنت اعمل بها، والتي نشرت لي هذا الحوار معك، لما كنتي في باريس
فكاد يغمي على عزة من فرط فرحتها ، وعانقتني ، وهي لا تكاد تصدق، لما ذكرت لها ، اني مازلت احتفظ بهذا العدد من المجلة، ووعدتها بأن أعمل لها فوتوكوبي للحوار ، وكنت أجريت الحوار معها في مكتب المجلة في باريس الواقع في شارع ماربوف على بعد خطوات من الشانزليزيه ومكتب شركة الطيران السوفيتية ومكتب شركة انتاج الأفلام لصاحبها المخرج الفرنسي الكبير فرانسوا تروفو وكنت التقيت به أيضا وهو يتردد على المقهي المواجه لمكاتب الوطن العربي لشراء الدخان
واذكر أن جلبير مصور المجلة الفرنسي في ذلك الوقت التقط لعزة بلبع مجموعة من الصور ، نشرت مع الحوار المذكور الذي أدرته معها عندما كانت في باريس..
يا الهي. هكذا فكرت. ما اشبه تلك “مصادفات” قدرية، بالاحلام والحكايات الخرافية التي تمتليء بها أفلام فيلليني ، ولاشك – وكنت اعرف ذلك عن يقين – لاشك ان عزة بلبع، هكذا فكرت، لن تنام اليوم، قبل ان تكون ،وبكل الفرح العميق، حكت هذه المصادفة السعيدة أو القصة الخرافية التي وقعت لها في قلب المهرجان لكل من التقت به بعد وقوعها
زستروي، قبل ان تأوى الى فراشها ، انها التقت مساء اليوم بمتعهد افراح، ودرويش مسافر، على درب كل الواصلين، وبكل روحانية الايمان العميقة
وغرقت في تأملاتي
ماهو الواحد منا عموما ، عندما تحدث له تلك أشياء في حياته -بالمصادفة- فلابد أن يسأل عن تلك القوة المدبرة الغامضة ،التي تجعلها تقع هكذا ، ودلالتها ومعانيها
أيمكن أن تكون هذه القوة المدبرة، تكمن أيضا فينا، وتسكن داخلنا ؟
ثم وقعت لي حادثة ثانية ، في نفس اليوم ، قبل دقائق من وقوع الحادثة الأولى ، وبالمصادفة أيضا، فقد كنت، ومنذ أن هبطت الى المهرجان، قررت أن أكرس كل كتاباتي خلال هذه الدورة 42 للاحتفالية المخصصة للمخرج الايطالي العظيم فيلليني وبس ، ولذلك حرصت قبل حضوري الى المهرجان، وأنا في باريس، على مشاهدة أفلام فيلليني من جديد، وقراءة بعض الكتب الفرنسية التي تحكي عنه وعن افلامه ، ومسيرته الفنية السينمائية الحافلة، مثل كتاب الناقد الايطالي الكبير جان جيلي بعنوان ” فيلليني ساحر الواقع ” FELLINI LE MAGICIEN DU REEL الذي التهمته في ليلة
اذ اني عندما توجهت الى الأوبرا لمشاهدة فيلم ” فيلليني والأرواح ” وقبل أن التقي بعزة بلبع التي قدمتني اليها صديقتي كوكب حسين،تفاجئت عند الدخول الى خيمة المهرجان بطابور طويل من الجمهور، ينتظر السماح له بالدخول..
قلت يا الهي، كل هؤلاء الناس في زحمة الطابور من أين أتوا ! لأ أنا مش حاقف بقى في طوابير.
وانتهزت فرصة انشغال سيدةمقنعة، اي ترتدي قناعا ماسك ضد الكورونا ، فرصة انشغالها بالحديث مع زميلتها التي تقف خلفها ، والطابور يتقدم الى الامام، وهووب بسرعة، كما كنا نفعل نحن الأولاد الأشقياء في قلعة الكبش، تسللت مثل لص الى الطابور ، في غير دوري، وغافلتها وأخذت محلها ، وقلت لنفسي، لو غضبت السيدة صاحبة الدور، سأتعلل بحجة اني رجل كبير في السن، وقد أتأسف لها ، وأعتذر عن أخذ – أو بالاحرى السطو – على محلها
فلما تنبهت السيدة للأمر ، وجدتها نصرخ في :
– إيه يا أستاذ ده ؟ يعني تستولي هكذا على مكاني في الطابور. يصح ده ؟
أنبت نفسي بشدة – في سري – على هذا التصرف الكبشاوي الصبياني الأخرق
ولما التفت اليها لأعتذر، اذا بها تصيح في
– إيه ده ياصلاح ؟
فتعجبت للأمر ، انها تناديني بإسمي ، عجبا ، كيف تعرفت علي ، وأنا أرتدي القناع الواقي ضد الكورونا ، ولايظهر منه إلا عيناي فقط
كيف تعرفت علي، وكمان بتناديني بإسمي، ترى من تكون ؟
ولكي تجعلني أعرف من تكون، اذا بها تزيح القناع عن وجهها وهي تضحك، لأعرف من تكون. واذا بي أتطلع الى وجهها المصري الجميل الأصيل ،الأسمر الخمري الذي يذكرني وفي كل مرة التقي بها، في القاهرة أو في روتردام حيث التقيت بها للمرة الأولى، تذكرني بحبيبتي” آفا جاردنر” المصرية، التي سافرت معي لعمل رحلة اوتوستوب في أوروبا في اغسطس 1970
تعرف كانت من ؟
طلعت المخرجة المصرية هالة خليل، مخرجة فيلم “نوارة “، التي احبها واحب كل افلامها الجميلة وروحها الحلوة
واخذنا نضحك بعد ان تركت لي مكانها في الطابور
” القاهرة 42 والناس” هو توثيق لرحلة شخصية – مثل كل تلك الأفلام التي صنعها فيلليني – داخل مهرجان القاهرة السينمائي 42 ، الذي وجدته هذه المرة بسيطا وانيقا وجميلا في نظامه، وكتبه وأفلامه وشبابه، وعن هؤلاء الناس، الجمهور، ” بطل” المهرجان، عن استحقاق وجدارة
وتلك المصادفات الجميلة السعيدة، وبكل مافيها من تماس روحاني جميل، داخل الحشد الانساني، في المهرجان السينمائي الكبير
( يتبع )
صلاح هاشم
كاتب وناقد سينمائي مصري مقيم في باريس فرنسا ،ومكرم من ” جمعية الفيلم” في مصر، في مهرجان الجمعية 46.صدر له ” الحصان الأبيض ” مجموعة قصص قصيرة، وعدة كتب في السينما مثل كتاب ” السينما العربية خارج الحدود “، كما أخرج عدة أفلام وثائقية من ضمنها فيلم ” البحث عن رفاعة ” و فيلم ” وكأنهم سينمائيين . شهادات على سينما وعصر ” عن سحر السينما المصرية الخفي والتأثيرات التي أحدثتها في الوعي الجمعي المصري