بعد ” الموقعة ” السينما المصرية أين تقف الآن ؟ بقلم صلاح هاشم
شخصية مصر في السينما
سوف يكون الحضور السينمائي العربي- هكذا كتبت ذات سنة في مفكرتي السينمائية – في مهرجان ” كان ” 65 متميزا جدا، خلال الدورة القادمة التي تعقد في الفترة من 16 الى 27 مايو، والتي يحتفل فيها المهرجان أيضا بعيد ميلاده الخامس والستين..
ولايقاس هذا الحضورالعربي يقينا بالكم والعدد، بل يقاس بالـ “كيف” الفني، وخصبه وتنوعه، في أقسام المهرجان الرسمي من جهة، والتظاهرات الجانبية- من جهة أخرى – المصاحبة مثل مسابقة الفيلم القصير، أو الموازية مثل تظاهرة ” إسبوع النقاد ” أو ” نصف شهر المخرجين” ..
ويبرز ذلك الحضور العربي من خلال مشاركات لأفلام من المغرب ولبنان وسوريا، ومشاركة المنتجة المصرية ماريان خوري في لجنة تحكيم مسابقة تظاهرة ” إسبوع النقاد “، لكنه يشمخ بصفة خاصة في المهرجان من خلال الحضور السينمائي المصري أولا، ومن خلال اختيار فيلم ” بعد الموقعة ” للمخرج المصري المتميز يسري نصر الله ،للمشاركة في مسابقة المهرجان الرسمية..
ويبرز ذلك “الحضور السينمائي المصري” بصفة خاصة في الدورة 65 لعدة أسباب. أولها أومن ضمنها ، كونه يشارك بفيلم يسري في المسابقة الرسمية التي تعتبر ” بؤرة ” المهرجان، و في مركز القلب تماما،إذ تستقطب اليها كل الأضواء، وتسحب الاهتمام الأكبر لافلامها وصناع افلامها..
ونجومها من قبل وفود”الاعلام العالمي” INTERNATIONAL MEDIA المتواجد في المهرجان وارسالياته..
انها ” بوابة ” كان الكبرى،وقاعدة انطلاق الى النجومية والشهرة والمجد، وتستطيع أن تحول – بقدرة قادر – اي ممثل في اي من الافلام المشاركة في المسابقة حتى لو كان يمثل لأول مرة في حياته و غير محترف، تحوله الى نجم سينمائي في غمضة عين..
ولدوا في ” كان “
ولذلك مازال بعض نجوم السينما مثل الامريكي جاك نيكلسون يعتبرون ان مشاركتهم بافلام في بعض تظاهرات المهرجان كان سببا لاطلاق شهرتهم، ويحب نيكلسون بالذات في هذا الصدد أن يذكّر دوما أنه ” ولد في ” كان “BORN IN CANNES وانه أيقن من أنه قد صار ممثلا عالميا فقط في المهرجان، حين عرض له فيلم – EASY RIDER –في إحدى التظاهرات الجانبية، فهو نيكلسون لم يضطلع بالبطولة المطلقة في الفيلم، لكنه مثل في مشهدين أو ثلاثة، لكنها كانت كفيلة بجذب الانظار اليه والاعتراف بحضوره كممثل وإكتشاف موهبته، إضافة الى أن المسابقة تحقق دعاية للفيلم المشارك الذي وقع عليه الاختيار، والبلد الذي ينتمي اليه الفيلم، والمخرج صانع الفيلم، وهي دعاية لايمكن أن تقدر بثروة، ولا أظن أن جيل جاكوب رئيس المهرجان كان مغاليا في كلامه عندما قال مرة بأن الدعاية التي يحققها المهرجان لأي فيلم مشارك في المسابقة على وجه الخصوص خلال فترة الـ 12 يوم( فترة انعقاد المهرجان السينمائي العرمرم )..
توفر على منتج الفيلم العمل -للدعاية للفيلم – لمدة 3 سنوات على الأقل، ورحلات سفر مكوكية مع الفيلم والدوران به في المهرجانات السينمائية العالمية ومحاولة بيعه في سوق الافلام التي تقام هنا وهناك على هامشها والمصروفات والنفقات التي يتحملها، ولذلك عندما تبلغ إدارة المهرجان منتجا ما بأن فيلمه قد وقع عليه الإختيار للمشاركة في المسابقة، من بين أكثر من 1500 فيلما تقدمت للمهرجان ، فإنه يشعر في ذات اللحظة وكأن ثروة ضخمة قد هبطت عليه من السماء فجأة..أوكأنه ربح ورقة يانصيب بمليون يورو في غمضة عين ..
وسوف يكون هذا الحضور السينمائي المصري الأكثر تميزا في ساحة المهرجان ليس بالمشاركة ” المصرية ” في المسابقة الرسمية للمهرجان وحدها، بل بسبب آخر في رأينا الا وهو “الموضوع” المثير للفضول الذي يناقشه الفيلم المشارك ذاته، والاشكاليات التي يطرحها: أي ” ثورة 25 يناير” المصرية التي استقطبت اليها أنظار واهتمام العالم ، وعرض لها فيلم في دورة ” كان ” الفائتة، وسوف يستمر الاهتمام بها دوليا في رأينا لفترة عقود ..
مصر، كيف حالك والألم ؟
فالفيلم ” بعد الموقعة ” الذي لم نشاهده بعد، هو يقينا مثير للفضول بطبيعته، ويجعلنا نتساءل ” بعد الموقعة “إن ماذا بعد ؟ ..
و نستطيع أن نستقرأ من خلال عنوانه فقط ، أنه ربما سيسأل عن مصر،وكيف حالها مع الألم وخيبة الأمل في سينماهه،و مشاعرالاحباط وأمراض الكآبة التي انتابت واصابت كل المصريين، بعد ان انتهت “معركةوموقعة الثورة” ثورة 25 يناير 2011 بالاستيلاء عليها من قبل الإخوان المسلمين، ثم تأميمها من قبل العسكر،واعادة تدوير وإنتاج نظام مبارك من جديد، وكأن الثورة، لم تكن، وكأنك يابو زيد ، ماغزيت..
بل أن تميز الحضور السينمائي المصري ، سيكشف عن نفسه ايضا من خلال طبيعة فيلم ” بعد الموقعة ” ذاته، وحضور “التفكير” المعاصر في السينما في الفيلم، و ظهوره في شموليته أوكليته الفنية TOTALITE و” نسيج ” الفيلم العام ،انطلاقا من قناعاتنا بأن للفيلم عقل مفكر ،وليس مجرد ” طبخة ” أو ” بضاعة ” استهلاكية ، بل ” أداة تفكير ” وتأمل في واقع مشاكلنا الحياتية- كما يقول المفكر السينمائي والمخرج الفرنسي الكبير جان لوك جودار، بل وأداة تفكير أيضا في “فن السينما” ذاته، من أجل تحديثه وتطويره، بابتكارات ” الخلق الفني ” المدهشة، واختراع النظرة..
ولأن القيمة الاساسية في السينما، هي الحث على التفكير، في وقت ترفع فيه يافطة ” ممنوع التفكير ” على سوبر ماركت السينما ، وفي كل مكان في مصر، مع تجريم الحب. وقد يكون المخرج يسري نصر الله في الوقت الحاضر، ومن واقع رؤيتنا لكل أعماله هو المخرج المصري الأكثر تميزا في المشهد السينمائي المصري،لأنه كما يظهر جليا لايكتفي في جل أعماله، بـ ” تصوير سيناريو” فقط، لكي يصنع فيلما..
كما في معظم أعمال السينما التجارية المصرية التافهة الرثة التي هلكتنا، وعجلة انتاج الافلام والمسلسلات الهابطة، المعادة المكررة،التي لاتتوقف عن الدوران ( هل هي مؤامرة أم ماذا، ومن المستفيد منها بالفعل ؟ ) التي أجهزت على البقية المتبقية، من العقل المصري المفكر، ودفنته في التراب، حتي صرنا مسخا في بلادنا، وتغربنا داخل مجتمعاتنا..
” بعد الموقعة ” و سينما يسري نصر الله
بل يفكر نصر الله في كل لقطة، ومجموع اللقطات التي تشكل مشاهد الفيلم، و “يفكر” في الفيلم وهو يصنعه،ويشتغل عليه..
ولأنه صاحب ثقافة سينمائية كبيرة، وعجن السينما وخبزها- بالبلدي- ويجيد عدة لغات، ومطلع على انتاجات السينما العالمية، من خلال حضوره ومشاركاته في المهرجانات السينمائية العالمية،لذلك تبدو أفلامه المصرية أقرب الى “الاستاندار” او المستوى السينمائي العالمي..–
بدأ يسري نصر الله مسيرته الفنية عام 1985 ضمن فريق “تلاميذ المخرج الراحل يوسف شاهين”، بالمشاركة كمساعد مخرج في فيلم ” الوداع يا بونابرت” من بطولة ميشيل بيكولي، وشارك يسري في كتابة سيناريو الفيلم، وهي واحدة من مواهبة التي لازمته طوال مسيرته الفنية، حيث قام – في وقت ما – بتأليف 11 فيلما من أصل 13 عملا فنيا قدمهم للسينما، وكانت خطوته الأولى كمخرج فيلم ” سرقات صيفية “عام 1988 من بطولة زكي فطين عبد الوهاب وعبلة كامل ، وتدور أحداث الفيلم حول أسرة الطفل (ياسر) الإقطاعية التي تأثرت كثيرًا بسبب قرارات يوليو الاشتراكية وأدت إلى تأميم جزء كبير من أملاكهم، في الوقت الذي تربط فيه الصداقة بين ياسر والطفل ليل الفلاح الفقير، وللمفارقة عرض الفيلم أولا في إفتتاح تظاهرة نصف شهر المخرجين في مهرجان كان الدولي 1988، ومن ثم إنطلق الى بقية المهرجانات الدولية وطاف دول العالم من خلالها، وحصل على الكثير من الجوائز، وعرض داخل مصر بشكل محدود في سينما أوديون عام 2014 ضمن مبادرة سينما ” زاوية” التي تشرف عليها المنتجة والمخرجة مدام ماريان خوري..
وعاد يسري نصر الله للعمل ضمن فريق يوسف شاهين وشارك كمخرج منفذ وسيناريست في فيلم “اسكندرية كمان وكمان” عام 1990، وهو الجزء الثالث من السيرة الذاتية لشاهين بعد فيلمي (إسكندرية ليه؟)، و(حدوتة مصرية ) ..
وكان فيلمه ” مرسيدس ” أول محاولة لطرح فيلم جماهيري جاءت عام 1993،عندما قام يسري نصري الله بتأليف وإخراج فيلمه الثاني ذاك “مرسيدس” من بطولة النجمة يسرا وزكي فطين عبد الوهاب وعبلة كامل وباسم سمرة، وحصل الفيلم على الجائزة الفضية عام ١٩٩٤ من مهرجان خريبكة للسينما الإفريقية بالمغرب، وجائزة أحسن فيلم عام ١٩٩٤ من مهرجان جمعية الفيلم العشرين، كما حصلت الفنانة يسرا عام ١٩٩٥ على جائزة أحسن ممثلة فى مهرجان واجا دوجو ببوركينا فاسو، عن دورها فى الفيلم..
وكان العمل الجماهيري الأشهر ليسري نصري ثنائية “باب الشمس” المقتبسة عن رواية بنفس الاسم، وتم اختيار الفيلم من قبل مجلة Time في قائمة أفضل عشرة أفلام عرضت في عام 2004، كما حصل الفيلم على المرتبة 42 ضمن قائمة أفضل 100 فيلم في السينما العربية حسب استفتاء لنقاد سينمائيين قام به مهرجان دبي السينمائي الدولي في 2013 في الدورة العاشرة للمهرجان..
إذ يهرب نصر الله – وفي أغلب أفلامه – من الانماط السردية التقليدية التجارية، ونماذجها الهابطة المنحطة في السينما المصرية ” العقيمة ،ويدلف بفيلمه ” بعد الموقعة ” الى سكة الحداثة، عبر ” سينما المؤلف “، التي يصنعها والتر ساليس في البرازيل، وبيلغ سيلان في تركيا، وعبد اللطيف كشيش في فرنسا، و فاتح أكين في ألمانيا، وجيم جامروش في امريكا وغيرهم كثر، مع الأخذا طبعا في الإعتبار، اختلاف درجات التكوين ،وطبيعة المجتمعات التي شبوا فيها ونضجوا، ثم راحوا من بعدها، يعكسونها ويصورونها في أفلامهم ،لصنع ” صورة ” تشبهها .
ولولا أن تلك ” الصورة ” الأصيلة حتما في فيلم ” بعد الموقعة ” ليسري نصر الله قد ظهرت بشكل بارزوناضج، ولافت للنظر في مرآة الفن، وحازت اعجاب المشرفين على اختيار أفلام المسابقة، لأكبروأشهر مهرجان سينمائي في العالم، وهم حفنة من عتاة النقاد السينمائيين، ونحن نثق تماما في أذواقهم وكفاءاته، .لما كانوا اختاروا هذا الفيلم المصري الجميل الواعد،مشاركة في مسابقة تدخلها وياللهول ،حفنة من جبابرة المخرجين وأشهرهم في العالم،من أمثال الفرنسي آلان رينيه، والإيراني عباس كياروستامي والبريطاني كين لوش، وغيرهم..
وللحديث بقية
بقلم
صلاح هاشم.باريس
صلاح هاشم أديب وناقد ومخرج مصري مقيم في باريس.فرنسا
***
عن جريدة ” القاهرة ” العدد الصادر بتاريخ 27 أغسطس 2024