بعض من أزمة الفكر العربي الراهن : الإنفصال عن صدمة الحاضر وصدمة الأناسة الروبوتية بقلم نبيل عبد الفتاح
مقدمة
منذ صدمة الحداثة، وبدايات طرح بعض الأسئلة المركزية التي شاغلت العقل العربي وكبار مفكريه، كانت هناك عديد الاستجابات التي اتسم بعضها بالحيوية التي سعت إلى تقديم بعض الإجابات حول سؤال التقدم والتخلف وأسبابهم. قام المفكر المغربي الكبير، عبد الله العروي، برصد وتحليل نقدي لهذه المشروعات في كتابه الهام “الأيديولوجية العربية المعاصرة”. بعض هذه المشروعات قدمها الشيخ خليفة المنياوي في إعداده تقنين مدني على النسق الفرنسي وفق المذهب الحنفي وتعاليمه الفقهية في عهد إسماعيل باشا، ورفضه لاستعارته للقوانين الوضعية الإيطالية والفرنسية والبلجيكية لدمج تجارة القطن في النظام الرأسمالي الدولي، وهو مشروع شبه غائب في التأريخ للفكر العربي الحديث. المشروعات المسيطرة جاءت من الإمام محمد عبده، وطه حسين، وعلى عبد الرازق، وسلامة موسى، وأحمد أمين، وعبد المتعال الصعيدي، والمدرسة القانونية المصرية والتي لم تدرس حتى الآن!
كانت المشاريع الرئيسة معبرة عن حالة الانفتاح الفكري النسبي منذ نهاية القرن التاسع عشر، حتى عام 1919 والمرحلة شبه الليبرالية (1923-1952)، وجاءت نتاجا لحركة البعثات إلى الجامعات الأوروبية، وخاصة فرنسا وجامعة السوربون، وإجادة اللغات الأجنبية، والإطلاع على بعض المراجع والمنجزات الفكرية الأوروبية في القانون والفلسفة والآداب وعلم الاجتماع. امتدت هذه المعارف والخبرات إلى الفنون التشكيلية. صدمة الحداثة لم تقتصر على نظم الأفكار الكبرى، وإنما امتدت إلى الفنون والسينما والمسرح، وأيضا سؤال التقدم التقني، والعلوم الطبيعية، وضرورة إدخال التصنيع من أجل تسريع وتغيير علاقات الإنتاج. كانت الحيوية الفكرية سمت هذه المرحلة التاريخية التي انكسرت قوادمها نسبيا في مرحلة الدولة ما بعد الكولونيالية في العالم العربي.
لقد تغيرت نظم الأفكار نحو الماركسية والتجربة السوفياتية والاشتراكية العربية، والقومية العربية والتحرر الوطني، وظهرت التوترات والنزاعات والمنافسات بين الخطاب الناصري العروبي، والخطاب البعثي ونزاعاته البينية بين حزبي البعث السوري والعراقي. وتفاقمت المزايدات السياسية والأيديولوجية بين هذه القوى في المشرق العربي ومصر والسودان حول هذه المشاريع السياسية والتنموية ورأسمالية الدولة الوطنية على نحو سياسي وأيديولوجي أكثر من التأصيل التاريخي والاجتماعي والثقافي، والعمق المعرفي. بعد هزيمة 5 يونيو 1967 طُرح سؤال الهزيمة، وكانت بعض الإجابات سياسية وعسكرية، وبعضها فكري كما تمثل في إجابة صادق جلال العظم النقد الذاتي بعد الهزيمة، ونقد الفكر الديني بعد ذلك. بعد حرب 1973 حدث تغير وتحول في طبيعة النظام الاجتماعي ومشروع التنمية والانتقال من سياسة العدالة الاجتماعية والاستقلال الوطني إلى سياسات الانفتاح الاقتصادي، ومعها خطاب اقتصادي ومالي رأسمالي، وحرية السوق دونما انفتاح سياسي. وفي ظل ثلاثة عقود من الركود السياسي في عهد مبارك تمددت الاختلالات الهيكلية في النظامين الاجتماعي والاقتصادي، وتراجعت نسبيا المشروعات الفكرية، وخاصة مع صعود حركة المد الإسلامي السياسي والراديكالي والسلفي والاخواني، وهجومهم واستخدامهم خطاب التكفير تجاه بعض المفكرين والمثقفين والمبدعين. وعلى الصعيد السياسي طُرح مشروع الجامعة الإسلامية في مواجهة الفكرة العربية الجامعة، والصراع بين “الدولة المدنية”، وفق التعبير الشائع وغير الدقيق علميا، وبين الدولة الدينية، وبين القانون الوضعي الحديث والنظام القانوني للشريعة الإسلامية.
صراعات سياسية وايديولوجية تمت على صعيد الشعارات، وليست مشروعات فلسفية وفكرية ومعرفية. تجددت الثنائيات الضدية حول التراث والحداثة والمعاصرة مجددا، وحاول بعض المفكرين العرب تأسيس مشروعات فكرية على نحو ما قام به عابد الجابري حول العقل العربي، ورد جورج طرابيشي النقدي له، ثم حول العقل المستقيل. في عقدي الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي تحولت الصراعات إلى المطالبة بالحريات العامة، وضرورة تحرير المجال العام السياسي. وبرزت المدرسة التونسية حول التاريخ الإسلامي وسردياته ومتنه الرئيس بقيادة عبد المجيد الشرفي وصحبه وتلامذته، وعلى أهمية ما قاموا به من دراسات إلا أنها ظلت في إطار الدرس الأكاديمي.
أدت تراكمات الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وتفاقمها إلى انفجار الانتفاضات الشعبية واسعة النطاق في تونس ومصر. في ظل هذه السياقات والضغوط، تراجعت أدوار المفكرين والمثقفين لصالح أدوار الدعاة الدينيين والدعاة من أشباه العلمانيين من مقدمي البرامج التلفازية ونشطاء الحركة الحقوقية والسياسية.
تراجعت المشاريع الفكرية الكبرى لصالح الرؤي الجزئية والشعاراتية، وبات بعض التسطيح سمت الثورة الرقمية، وطوفان خطابات الجموع الرقمية الغفيرة من المنشورات والتغريدات والفيديوهات الطلقة في مجتمع الومضات الرقمي، على نحو أثر على الحياة الفكرية والأكاديمية، والقراءة الورقية لصالح القراءة الومضة كما سبق أن أطلقنا عليها، وغلبة الرقمي على الورقي.
نحاول في هذه الدراسة الوجيزة تقديم بعض الملاحظات النقدية حول أزمات العقل العربي في عالم فائق السرعة والتحول إلى الأناسة الروبوتية كمدخل لمرحلة ما بعد الإنسان.
أولا: حالتنا الراهنة… صدمات واضطراب، وأوهام وتوهان تاريخي
الوصف “صدمة” مستعار من الفين توفلر، فى كتابه “صدمة المستقبل”، ويحيلنا إلى صدمة الحملة الفرنسية التى وُصفت بصدمة الحداثة، فى مواجهة الفكر النقلى التقليدى الدينى الطابع، وصدمات لبعض الهزائم التاريخية مثل هزيمة يونيو 1967 وغيرها من هزائم التخلف التاريخي المركب. والسؤال هل الوصف “صدمة” لا يزال صالحا فى وصف الحياة العقلية لبعض المفكرين وبقايا الجماعات الثقافية العربية؟
الحالة الراهنة تبدو أكثر خطورة وتفاقما للمشكلات المعقدة أكبر من الوصف “صدمة”! إمعان النظر فى بعض الإنتاج المعرفى والسياسى والسوسيولوجى والفلسفى الشائع تشير إلى حالة من الغياب عن زمن العالم المتحول فائق السرعة، ولازال الدوران فى عالم الدوائر المغلقة، والثنائيات الضدية (من مثيل الأصالة والمعاصرة، والتراث والحداثة، والتراث والتجديد… إلخ) يعيق تطور الفكر العربي والتحرر، من دوائره المغلقة نسبيا في ظل ميراث نقلي تاريخي ممتد، وهيمنة العقل الديني الاستبدادي والتسلطي، ويسوغ شرعا سياساتها، ويبرر أخطائها وكوارثها السياسية والاجتماعية والاقتصادية… إلخ.
كان سؤال شكيب أرسلان: لماذا تقدموا ولماذا تخلفنا؟ كامن فيما وراء بعض هذه المقاربات، بعضها ذهب إلى التقليد التراثي النقدي في مواجهة محاولات التجديد الديني، وبعضها ذهب بعيدًا نحو الحداثة والعلمانية، وتم حصاره (سلامة موسى)، وبعضها لا يزال يطرح مثل كتابات الأستاذ العميد طه حسين في الشعر الجاهلي وغيره، رغم بعض تراجعه، وبعضها لا يزال به بعض الثنائيات، والابتسار (محمد عابد الجابرى)، وبعضها لا يزال به بعض الألق، عبد الله العروى، وعلى أحمد سعيد (أدونيس)، رغم نهاية الأيديولوجيات، وبعضها ذهب إلى بعض المتابعات الفلسفية، والتراجمية (محمد سبيلا وصحبه) وبعضهم ذهب إلى الدرس التاريخى والفلسفى الإسلامى (محمد الشرفى، ومحمد الطالبى، وعبد المجيد الشرفى وتلامذته المجيدين).
وتناسلت من خلال هؤلاء البارزين إتباعيين جُدد، لكن لازالت غالب المقاربات تدور فى ظل سياجات من الخوف من مواجهة الجموع الغفيرة من أتباع التدين الوضعى الشعبى الفعلى، والرقمى الذين يفرضون حالة من الوصاية وبث الخوف والزعر على أية محاولات للتجديد الدينى، أو المقاربات التاريخية للدين، ومقارنات الأديان.
حالة الغياب عن تحولات عالمنا المتحول والواقع الموضوعي في كل دولة ومجتمع عربى مرجعها عديد الأسباب التى يمكن إيراد بعضها فيما يلى:
1- هيمنة المقاربات والمنهجيات التى سادت مرحلة التحديث المعاق، والحداثة المبتسرة والعلوم الاجتماعية الغربية التي تم إنتاجها في الجامعات والفكر الأوروبي، وتم استعارتها وتعريب مختصر لبعضها ومحاولة تطبيق بعضها على حالتنا المصرية التى انطلقت منذ نهاية القرن التاسع عشر، إلى منتصف القرن العشرين، حتى هزيمة يونيو 1967، فى درس الواقع نظريًا، مع تحولات وتطور واختلاف حالة المعرفة والمناهج عالميًا، والواقع الموضوعى. لأن بعض هذه الترجمات والاستعارات النظرية والمفاهيمية كان يتم استمداد بعضها بعد غروبها التاريخي النسبى في المركز الأوروبي، ثم الأمريكي فيما بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى العقدين الماضيين من الألفية الثالثة إلا قليلا جدا.
2- الضوابط المفروضة على الحريات الأكاديمية، وخاصة البحث الميدانى لمعرفة تضاريس الواقع الاجتماعى وتحولاته، والأهم انفصال بعض البحوث الميدانية عن دوائر صنع السياسات والقرارات عند القمة الحاكمة فى العالم العربى إلا قليلًا.
3- تراجع البعثات العلمية للجامعات الغربية -مع استثناء بعض الدول- فى منطقة الخليج العربى- مع عدم مواكبة حركة الترجمة، فى مجال العلوم الاجتماعية، وخاصة فى التحول إلى ما بعد الحداثة، وما بعد بعدها، ثم إلى بدايات الثورة الصناعية الرابعة وما تُرجم ولايزال محدود جدا ولا يتجاوز عشرات الكتب عن الذكاء الاصطناعى، والأناسة الروبوتية وما بعد الإنسان.
4- هيمنة نظرة الخبراء فى تخصصات شتى، وعدم متابعة غالبهم للتحولات التقنية والعلمية الطبيعية وفي عالم الأفكار والفلسفة والنظريات الاجتماعية التي تحاول مواكبة هذه التحولات الفارقة لما يجرى فى العالم فيما وراء الأحداث السياسية والعسكرية، وما يجرى فى الواقع الموضوعى داخل كل بلد عربى.
5- تنميط مشكلات الواقع الموضوعى، وإعادة إنتاجها فى غالب الخطاب المدرسى الجامعي، والإعلامى والرسمى على الرغم من التغيرات التى لحقت بها.
6- الانفصال بين العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية، وهيمنة العقل الدينى فى تكوين بعض كوادر الكليات العملية وغيرها من الكليات المتخصصة في العلوم الاجتماعية منذ عقد السبعينيات من القرن الماضي.
7- سطوة وسيطرة خطاب الهوية المغلق ذو البعد الأحادى الدينى التاريخى واستبعاداته للمكونات المتغيرة للهويات المتخيلة، وأيضا للمكونات العرقية، والدينية، والمذهبية، والقبلية والعشائرية، والقومية، واللغوية الأخرى داخل تركيبة المجتمعات العربية المركبة والانقسامية. تحول خطاب الهوية إلى انفجار هوياتي متعدد داخل كل بلد فى ظل ضعف وتآكل سياسات الاندماج الوطنى الداخلى، وفشل موجة الانتفاضات الجماهيرية واسعة النطاق بعد يناير 2011، وما بعد.
8- أدت أزمات بناء الدولة ما بعد الكولونيالية إلى تركيز الطبقات السياسية الحاكمة على محاولة بناء وتشكيل الشخصية القومية لكل دولة، إلى إضعاف الفكرة القومية العربية، وانهيارها سياسيًا، وأيضا إلى إضعاف العروبة الثقافية، وبروز النزاعات البينية بين دولها على الحدود، والمكانة، والدور الإقليمى، وبناء تحالفات ضدية بين بعضها بعضًا!
9- بروز بعض المقاربات الفلسفية فى المنطقة المغاربية حول اختلاف العقل المغربى/ المغاربى عن العقل المشرقى تاريخيًا، وأيضا على نحو معاصر كما بدى فى مشروع محمد عابد الجابرى، ونقد جورج طرابيشي لهذا المشروع. ومشكلة هذا الاتجاه الفلسفى/ السياسى/ الثقافى فى جوهره هو مقاربته الفلسفية بين ثنائية العرفان/ البرهان، دون نظر فى السياسى، والتاريخى، والسوسيولوجى. وهو ما يعكس أحد سمات الانفصال بين النقلى، والتاريخى الاجتماعى الموضوعى.
10- تفاقم أزمات السياسات التعليمية -التعليم العام والجامعى- ومناهجها، واعتمادها على إنماء الذاكرة الحافظة، والدرس الأحادى التوجه من المدرس والأستاذ إلى الطالب، دون الدرس العقلى النقدى، والتفاعلى بين خطاب الأستاذ/ الطالب، على نحو أدى إلى سيطرة عقل الامتثال والخضوع والتلقى، ونزعة تقديس الوضعى حول السرديات التاريخية الدينية، وتديين العقل السائد من خلال المدرسين والمدرسات ذوى التوجهات الدينية النقلية في بعض الكليات باستثناءات محدودة في تونس والمغرب ولبنان وسوريا.
11- هيمنة رهاب التكفير الدينى الذى رفعته الجماعات الإسلامية السياسية الراديكالية والإخوانية، والسلفية فى أعقاب حرب أكتوبر 1973 ضد أى اتجاهات تجديدية فى الفكر الإسلامى، أو إزاء آراء بعض المفكرين العلمانيين أو أشباههم ممن يطالبون بمدنية الدولة والفصل بين الدين والسياسة، وشيوع خطاب التكفير على نحو شعبوى بين دعاة هذه الجماعات، ودعاة بعض الطرق، وفق تعبير الأستاذ العميد طه حسين، وهو ما أدى إلى عديد من جرائم الاغتيال على رأسهم السادات، وفرج فوده، ومحاولات اغتيال الأستاذين نجيب محفوظ، ومكرم محمد أحمد، وحسن أبو باشا وزير الداخلية الأسبق.
إشاعة خطاب التكفير الدينى، أدى إلى حالة من الانكفاء الذاتي، خاصة بعد تمدده إلى عالم السرديات الروائية والقصصية، والشعر/ ومثالها حلمى سالم فى ديوانه شرفة ليلى مراد والروايات الثلاث، والتظاهرات منجانب الطلاب الإخوان ضد الروايات الثلاث
12- أدت الثورة الرقمية إلى انفجار كاشف عن جيولوجيا التفاهة والسطحية فى التعليم، والثقافة، والمعرفة السائدة وسط الجموع الرقمية الغفيرة، وأريكولوجيا العقل السطحى، وتنويعاته. انفجار كشف عن عزلة الثقافة العالمة / العليا، والثقافة السطحية الشائعة، والانتقال من العمق المعرفى إلى سطوح التفاهة، ومن الميدوكراتية إلى المنيوقراطية -ما دون الحد الأدنى من المعرفة، والتعليم والوعى- وهو ما يتجلى فى خطاب المنشورات، والأخبار الكاذبة، والتغريدات، والفيديوهات الطلقة، والصور الومضة ذاتية الكشف عن أزمات الذات المأزومة، والرغبة العارمة فى إثبات الذات، والقراءات الومضة..الخ.
13- التجاور بين الأخبار الكاذبة، والمقولات الذاتية المنسوبة للفلاسفة والمفكرين وكبار الفنانين، وغير الصحيحة، ولا تعدو أن تكون سعى من كتابها لتمرير آراءهم السطحية.
14- انفصال البحث الأكاديمى عن سوسيولوجيا الرقمنة والاستثناءات محدودة ونادرة عربيًا، وهو ما يعنى الانفصال عن الحياة الرقمية، وانعكاساتها على الحياة الفعلية، ناهيك عن عدم متابعات الفكر العالمى حول ثورة الرقمنة، وتحليلها، ومألات تطورها فائق السرعة.hi
15- أدت الثورة الرقمية إلى انكشاف للذوات الرقمية الغفيرة، ونهاية الخصوصية، وتنامى “مجتمع الاستعراض الرقمي” Societe de Spectacle، إذا شئنا استعارة جى ديبور وكتابه الشهير فى فضاءات 68 فى فرنسا. عالم الاستعراضات الرقمية لا يزال بعيدا عن الدرس السوسيولوجى العربى سوى قلة محدودة جدا من الباحثين.
16- أدى “مجتمع الاستعراض الرقمي” إلى جذب بعض الأكاديميين، وبعض المثقفين، فى عرض صورهم، وبعض آراءهم الوجيزة على مواقع التواصل الاجتماعى، سعيا وراء الشهرة والذيوع.
17- فى عصر الصورة الومضة، والفيديو الومضة لا توجد إلا نادرا تحليل لهذه التوجهات الرقمية الجديدة للجموع الغفيرة، والمثقفين، والأدباء وميلهم العارم إلى حضورهم من خلال الصور الومضة بديلا عن الأفكار.
يبدو مما سبق وغيره من ملاحظات أن هناك حالة عامة من الانفصال بين الفكر، والحضور الرقمى- إلا قليلا جدا لبعض المواقع – وبين الفكر والواقع الفعلى الموضوعى، وهيمنة الانطباعات المسبقة على تحولات الواقع فى الحياة الفعلية والرقمية. الأخطر انصياع بعضهم للغة الإثارية جذبا للانتباه السريع، الانتباه الومضة، وهو ما يؤدى إلى التسطح، وعدم التأمل والتفكير والعمق في إبداء الرأي أو الملاحظة أو حتى السخرية.
18- تفاقم الفجوات الجيلية، بين عقل بعض الكبار فى السن من الكتاب والباحثين، وما بين عقل غالب الشباب، وصغار السن فى الاهتمامات، ونمط الكتابة، ومقاربة الظواهر، وغلبة السرعة الفائقة فى التعبير، وعدم الاهتمام باللغة، ومدى سلامتها، وهو ما أدى إلى غياب الجسور بين الأجيال فى الحياة الرقمية والفعلية والعقلية، وفي الاهتمامات السياسية والثقافية والفنية والموسيقية والأدبية والاجتماعية والاقتصادية…إلخ على وجه العموم.
19- ضعف المتابعة التحليلية للميراث الثقافى للقرن العشرين وتحولاته ومآلاته، وخاصة الثقافة العلمية، وذلك لأن العقل العربى الساعى إلى أقلمة الحداثة على نحو انتقائى، ومبتور، ركز على بعض قضايا وإشكاليات الثقافة العالمة، والمعارف العميقة دونما اهتمام كبير بالثقافة العامة، والشعبية، وردودها على ثقافة النخبة، وخاصة فى أعقاب هزيمة يونيو 1967 إلى ما بعد حرب أكتوبر ثم إلى العقد الأول من القرن الحادى والعشرين، ثم ما بعد الانتفاضات العربية، وتراجعها وعودة موت السياسة. كانت الثقافة من أسفل تبدو فى الموسيقى، والأغانى، ودعاة الاستعراض الشعبويين، بدءًا من أغانى عايدة الشاعر، وليلى نظمى، وأغانى الفرانكوآراب، وفرق البلاك كوتس من خريجى معهد البالية اللذين كونوا فرق للرقص في الملاهى الليلية، وخريجي معهد الكونسرفتوار اللذين عزفوا خلف الراقصات والمنلوجيستات! وفى السبعينيات والثمانينيات طغت سينما المقاولات، ودعاة السوق الدينى الشعبى. ظلت هذه الظواهر موضوعا للهجاء، دون التحليل والكشف عن أسباب نجاحها، وانتشارها وسط قواعد اجتماعية واسعة بما فيها الطبقة الوسطى وتحولاتها. وقد أثرت تحولات الإقليم، والهجرة إلى الخليج سعيا وراء الرزق، والسياحة على هذه التحولات الثقافية.
كانت التحولات العالمية فى مفهوم الثقافة على المستوى الغربي المتقدم وفائق التطور، فى الثلث الأخير من القرن العشرين، هو جزء مما أطلق عليه المؤرخ البريطانى الكبير إريك هوبزبام أزمنة متصدعة، والتحولات الكونية من الثقافة الرفيعة -فنون البالية، والسيمفونيات، والمتاحف والفن التشكيلي والاغاني… إلخ- إلى ثقافة مختلفة، سريعة الاستهلاك. .الخ. مع أغانى البلوز، والكانتري سايد، وغيرها من أشكال الاستهلاك الفنى السريع، وهو ما تماشى مع التغيرات الجيلية وثورة الشباب في 68 في السوربون وباريس وفي كاليفورنيا بيركلي، وانعكاسا للتشيوء الإنساني والإنسان المستهلك فائق الاستهلاك، ومعه تطور الرأسمالية النيوليبرالية الوحشية وتسليع الحياة الإنسانية.
ظهرت قبل هذه التغيرات وتساوقا معها بعض التطورات في صناعة السينما وشركات العلاقات العامة الأمريكية من خلال التداخل بين زمن الصورة الفوتوغرافية، وصناعة النجوم، والعلاقات العامة التى غيرت من صناعة السينما، والصحافة الأمريكية لتغدو جزءًا من حالة السينما، والشهرة الزائفة، وفق كتاب الصورة والأحداث الزائقة لدانيال بورستين، وبدت الشخصيات المشهورة من القرن الماضى ليست سوى شخصيات عادية، وأحيانا مديوكرات، ومنيوكرات لكن حضورهم المكثف فى الأخبار، والصورة الفوتوغرافية والسينما، والتلفاز، وخبراء الإعلان والعلاقات العامة يكفى لأن يكونوا قادرين على الوصول إلى قلب الأخبار وفق بورستين ليغدوا مشهورين.
لا شك أن انتقال صناعة الأخبار الكاذبة والشهرة الزائفة من السوق الأمريكى الثقافى إلى أوروبا، والعالم وتأثرت مصر ببعض من انعكاساتها الجزئية على نحو ساهم فى بروز ظواهر الأغاني الشعبية، وسطوتها مثل ظاهرة أحمد عدوية، وأيضا دعاة السوق مثل الشيخ كشك وغيره، وسينما المقاولات، وأيضا بروز مطربى بعض المحافظات، كالإسكندرية، ومحافظات الدلتا، والصعيد وأغانى النوبة.. الخ. ثم ظاهرة شعبان عبد الرحيم وغيرها فيما بعد في عصر مبارك!
لم تخضع هذه الظواهر للتحليل السوسيولوجى، أو الثقافوى وربطها بالتغيرات الاجتماعية، وظواهرها الجديدة آنذاك، واقتصرت فقط على الإدانات ذات الطابع الأخلاقى والقيمى، الاستعلائي من بعض المثقفين بالمعنى العام الشائع للمثقف مصريًا، وعربيًا.
20- استمرت هذه الظواهر مع الألفية الجديدة، وتمدد النزعة الاستهلاكية المفرطة، والأكل السريع Fast Food، ومعها الأغاني السريعة، والموسيقى السريعة، وكثافة الاستهلاك السريع على النمط الأمريكى، والأوروبى، وتراجع الثقافة العالمة لصالح الثقافة الرقمية مع تراجع مستويات التعليم، وشيوع الرقمنة، والحياة الرقمية، وتحول الأغانى الشعبية فى المناطق الشعبية لتفرض نفسها من أسفل إلى أعلى، وتتمدد بين شرائح الطبقة الوسطى، إلى الوسطى العليا، ورجال الأعمال والأثرياء الجدد، وهى موسيقى وأغانى تعتمد على الإيقاعات المرقصة، وكلمات الهجر، والخيانة بين الأصدقاء والعشاق، وهموم وشجون الفئات الشعبية فى حياتها.
لم تجد هذه الظواهر الجديدة إلا بعض من الانطباعات السانحة دون درس عميق لها مع استمرارية النظرات الثقافوية الموروثة عن الطرب، والشعر الغنائى، وأقانيم الغناء المصرى والعربى وشيوع منطق يعلى من شأن هذه النجوم، ويعتبرها مرجعية فى الغناء والتلحين والشعر الغنائى، وذلك كجزء من هيمنة لمرجعية الماضى، أو ما يشاع عن “الزمن الجميل”، وهو تعبير دال عن ذائقة فنية تشيع بين الأجيال الأكبر سنًا التى تجعل من تجاربها الماضية فى الحياة، والسينما، والتعليم، والموسيقى والحب، والصداقة، والقيم الاجتماعية، هى الزمن الجميل، الذى هو زمنها الذى غادرها.
21- برزت منذ نهاية القرن الماضى فجوات بين السلطة الثقافية الرسمية، وبين بعض المثقفين وبعض المبدعين، الذين اختاروا الهامش الثقافى اللا رسمى دائرة لحركتهم، وخطاباتهم النقدية، وازدادت هذه الفجوات فى ظل سطوة بيروقراطية هذه السلطة وأجهزتها، وتراجع دور، وأهمية أنشطتها، وتمييزها لبعض الموالين دون غيرهم خاصة فى الندوات والمؤتمرات الخاوية إلا من فراغها، وتراجع هيبة جوائز الدولة على تعددها، ورفض بعض الثقاة الترشح لها من أى جهة من جهات الترشيح المقررة.
22- مع الثورة الرقمية، والحياة الرقمية وتمددها فى حياة الجموع الرقمية الغفيرة برزت ثقافة السخرية والتنمر –الدينية والمذهبية والعرقية- ومعها الإساءات إلى الرموز السياسية، وسياساتها، وقراراتها من خلال اللغة الساخرة، وذلك هروبا من جحيم الواقع الفعلى وقيوده إلى حرية التعبير الرقمى واسعة النطاق، سواء على الصفحات الشخصية المعلنة، أو غيرها المرموزة والمتخفية، وغير المعلنة وتحت رقابات شتى في ذات الوقت.
23- من ناحية أخرى، تحول الواقع الرقمى وفضاءاته ومواقفه إلى ساحة سجال حول الهويات الوطنية، والصراخ باسم الإيمان الهوياتى، ورجوع بعضهم إلى هوياتهم الأولية الأفريقية القبلية فى إقليم دارفور، والهوية العربية/ الإسلامية فى قبائل الوسط النيلي، والأمازيغية فى المغرب، والبربرية فى الجزائر، وتمييز ذوي البشرة البيضاء ضد ذوي البشرة السوداء من الأصول الأفريقية في موريتانيا، والهوية المذهبية الشيعية فى مواجهة الهوية السنية، والكردية القومية فى مواجهة العروبة بالعراق، وهوية الشيعة فى مواجهة السنة.
انفجارات الهويات باتت تشجع الانقسامات الداخلية، وعلامة أزمات كبرى فى الدولة والمجتمع العربى لاسيما مع تراجع الفكرة العربية الجامعة، والعروبة الثقافية، فى ظل تنامى استخدامات اللغات المحكية، أو العامية فى البلدان العربية على نحو أدى إلى تمزق وتذري المجتمعات العربىة داخليا. وعلى مستوى العالم العربي أضعف الدول، والأنظمة السياسية، وكرس الاتباعية السياسية لدى الطبقات السياسية الحاكمة، للولايات المتحدة، ودول المجموعة الأوروبية خاصة فرنسا وبريطانيا وإيطاليا.
24- تنامى أدوار دول الجوار الإقليمى فى قلب العالم العربى –إيرن، وتركيا، وإسرائيل- وتوظيفها للصراع العربى الإسرائيلى والقضية الفلسطينية ضد الأنظمة العربية الحاكمة، على نحو ساهم في تراجع الأهمية النسبية لقضية العرب المركزية فى الخطاب السياسى العربى، ولدى الطبقات السياسية الحاكمة، وتنامى التوجهات فى السياسة الخارجية لبعض الدول العربية نحو التطبيع مع إسرائيل، وذلك كبوابة للتعامل مع الولايات المتحدة الأمريكية.
من الشيق هنا ملاحظة أن الفكر العربى الحديث والمعاصر سيطر عليه الخطاب الإيديولوجى اليسارى، والقومى العربى –الناصرى والبعثى- فى إطار مجموعة من الأطروحات الإيديولوجية، والإسلامية فى إطار رؤية دينية مغلقة، وجامدة حول اليهود واليهودية.
قلة قليلة هى التى اهتمت بالدرس البحثى والأكاديمى حول إسرائيل، وتحليل الدولة والمجتمع والنظام السياسى ونظام السياسة الخارجية، والثقافة والإنتاج التقنى والبحث العلمى، والنظام الاقتصادى والاجتماعي، والمستوطنات، والمنافسات بين الأشكناز واليهود السفارديين…إلخ.
من هنا رغم الثورة الرقمية والاتصالية تباعدت المسألة الصهيونية، ودراسات إسرائيل بعيدا عن اهتمامات الفكر العربى الراهن إلا قليلا جدا، وباتت تشكل منطقة معتمة. من ناحية أخرى، غابت الدراسات حول أوضاع الفلسطينيين فى غزة والضفة بعد أوسلو، وفى فلسطين 1948.
ثمة تهميش للمسألة الإسرائيلية، والفلسطينيين فى العقل العربى منذ أوسلو، وإلى الآن، باستثناء بعض المتابعات البسيطة للانتفاضات الشعبية ضد الاحتلال، والعدوان المتكرر على قطاع غزة والضفة الغربية، وباستثناءات بسيطة بعض المتابعات الصحفية والإعلامية للمنظمات الإسلامية الراديكالية كحماس والجهاد الإسلامى.
25- منذ العقدين الماضيين من الألفية الجديدة، ركز العقل العربى على بعض القضايا السياسية داخل كل بلد ومجتمع عربى، سعيا نحو الإصلاح السياسي، وهو ما كرس غياب الدراسات المتخصصة عن الدول والمجتمعات العربية، وأنظمتها السياسية والاجتماعية فى العمق. وبات بعض العقل العربى غائبا –إلا نادرًا- عن معرفة غالب البلدان العربية، وتغيراتها الداخلية، والاستثناءات محدودة.
26- الدراسات العربية حول إيران، وتركيا لا تزال محدودة تماما على الرغم من تأثيرها على بعض الدول والمجتمعات العربية كسوريا، والعراق، واليمن، والبحرين، ولبنان، وقطاع غزة.
هذا التغير يشكل نكوص العقل العربى الراهن، عن الاهتمام والدراسة لهذه الدول، بقطع النظر عن المقالات الصحفية والرقمية السريعة التى تعلن على بعض الأحداث، وغالبا ما تعكس السياسة التحريرية للصحيفة، أو المجلة، أو الموقع الرقمى، ومموليه.
27- غالب العقل العربى السياسى عمومًا غائب عن الدرس الأكاديمى والبحثى المتخصص فى أقاليم العالم، سواء فى الدوائر الإقليمية القريبة من الجغرافيا السياسية العربية، أو فى أوروبا، وآسيا، وأمريكا اللاتينية، وأفريقيا، واستراليا، حيث لا توجد مراكز دراسات متخصصة إلا قليلا، وغالبا تركز على السياسات الخارجية، أو بعض من الجوانب الاقتصادية، أو العسكرية، إلا أن ثمة غياب لثقافات هذه المجتمعات، وتراكيبها الاجتماعية والعرقية والقومية واللغوية، ونظمها السياسية، وتاريخها الحضارى –بعض الترجمات تركز على الروايات، وبعض الشعر، والمجموعات القصصية- من ثم يغدو العالم وثقافاته فى أعماقها لا تزال مساحات غامضة، وبعضها معتم فى غالب العقل العربى الراهن.
صحيح أن العقل العربى، والعقل الأوروبى والغربى -والأفريقى والآسيوى واللاتينى- فى علاقاته وتفاعلاته مع كافة ثقافات العالم، لا يعنى التخصص فى عديد المجالات، وهذا أمر مفهوم، إلا أن هذا الغياب عن التخصص فى هذه المناطق الجيو – ثقافية، والجيو – سياسية، والجيو – دينية يؤثر على طرائق إدراك العالم، وفهمه، ومن ثم كيفية الحوار والتعامل والتفاعل الخلاق معه. الأهم أن معرفة وفهم العالم –على نحو تخصصي أو عام- يؤدى إلى تخصيب العقل العربى، بموارد معرفية متجددة، وإلى بعض الاستعارات الثقافية، أو التقنية التى تثرى التعدد فى الثقافات العربية. الغياب، أو المعرفة العامة والمشوشة وشيوع خطابات غير المتخصصين، تؤدى إلى حالة من الاضطراب، وعدم إدراك العالم وثقافاته وسياساته على نحو موضوعى، مما يؤدى إلى تشوش صور العالم وسياساته فى بعض العقل العربى، وإدراكاته للواقع الموضوعي وتحولاته الكونية.
28- يبدو أن الانكسار، وهزيمة العقل العربى –والاستثناءات محدودة جدا بل نادرة- أدت إلى الحياة فى النوستالجيا الماضوية والتاريخية، متمثلة فى النكوص النقلى إلى السرديات الدينية التاريخية القديمة –الإسلامية والأرثوذكسية المسيحية المصرية، والسريانية والآرامية-، أو إلى الشروح على الشروح الماركسية، وبعض من نثارات الفكر الليبرالى لاسيما القانونى لا الفلسفى، مع نزعة إيمانية تبدو فى الإيمان الدينى والمذهبى، والإيمان الماركسى، والإيمان الليبرالى، والإيمان الناصرى، والإيمان البعثى. هذا النمط سبق أن وصفناه فى مفتتح كتابنا المصحف والسيف صراع الدين والدولة فى مصر -الناشر مكتبة مدبولى القاهرة في عام 1984– بأنها سلفيات متعددة تتمدد فى الواقع الثقافى، والسياسى المصرى، وأبرز سماتها ندرة من أطلعوا وتعلموا، المتون التأسيسية للماركسية والليبرالية، وتطوراتها فى مهادها، وخارجها، وما بعدها.
مرجع ذلك هذا النمط النقلى الشائع لدى بعضهم، والشروح على الشروح بعيدًا عن معرفة، ونقد الأصول التأسيسية لهذه الفلسفات التى تحولت إلى إيديولوجيات، وسلفيات مؤدلجة، شكلت سياجات حول كل سلفية، وخاصة الحديثة، والمعاصرة، على نحو أدى إلى إدراكات وتخييلات مثالية مفصولة عن الواقع التاريخي الموضوعي فى مصر، وعديد البلدان العربية، ولا تزال بعض من أصداءها الخافتة تبدو فى خطابات بقايا جيل السبعينيات، وبعض الأجيال اللاحقة حتى العقد الأول من القرن الحالى، وترددت بعض من شعاراتها الخشبية فى ميدان التحرير، وشارع الحبيب بورقيبة فى الانتفاضات العربية الجماهيرية فيما سمى مجازًا بالربيع العربى، وكانت تمثل إحدى علامات الانفصال عن الواقع المتغير والأجيال الشابة الجديدة.
29- عقل عربى، تسيطر على بعضه أحكام القيمة والطوبويات الوضعية الأخلاقية، فى النظر إلى الأفكار الوافدة، أو المحلية، لاسيما مع تمدد الحركة الإسلامية السياسية والسلفية، وقمع الأفكار الحرة والنقدية –والاستثناءات محدودة- وفرض القيود على حريات الرأى والتعبير، والضمير، والبحث الأكاديمى والاجتماعى.
ثانيا: من التوهان التاريخى إلى الاستقالة عن متابعة المستقبل
1- “التوهان التاريخي” –وفق أنور عبدالملك- هو وصف مجازى لحالة التفكير السلطوى المسيطر فى الحالة المصرية في عصري السادات ومبارك، وهو ما ينطبق على غالب العقل العربي عموما -ودائما ثمة استثناءات مقدرة- وهو ما يعبر عن حالة التوهان فى التاريخ، وينطوى على اجتزاءات، وتحيزات، وإقصاءات، واستبعادات لرموز وشخصيات ووقائع تاريخية وذلك لصالح وضعية التحيز، والنظرات الأحادية الإيديولوجية، والدينية، والعرقية، واللغوية، والعشائرية، والقبلية، والعائلية، فى كتابة تاريخ البلدان العربية. هذا أدى إلى إنتاج حالة من التحيز وعدم الموضوعية فى كتابة تاريخ البلدان العربية وهوياتها من المنظور السلطانى والجمهورى الحاكم، وخاصة بعد الدولة الكولونيالية، وبعض تاريخها كتبه المستشرقون من منظوراتهم المتحيزة فى الغالب أيضا. كذلك، أدت حالة التوهان إلى تحيزات، والأخطر الانقسام حول موحدات كل بلد، وهويته وانفجارها إلى هويات انقسامية. والأخطر ظهور تواريخ وهويات انفجارية متعددة حول مكونات كل مجتمع، على نحو أدى إلى نمط من محاولات بناء هوية وتاريخ لكل مكون داخل المجتمعات العربية. لا شك أن ذلك أدى إلى نزوع بعض من العقل العربى إلى الانحياز إلى التحيزات التاريخية والهوياتية للسلطة، وراح يسوغ ويبرر ويمنطق تحيزاته اللا تاريخية واللا موضوعية في اختياراته ومجازاته المفرطة لتاريخ بلاده وعلى هواه، وبعد وفاته يتم احداث تغييرات في كتب التاريخ المقررة في المدارس!
بعضهم الآخر ذهب وراء عرقه، أو طائفته، أو دينه ومذهبه، أو لغته، وراح يصوغ تاريخًا آخر، من منظور تحيزاته على نحو جعل تاريخ كل بلد وهوياته موضوعا للصراعات الضارية على التاريخ وبه، داخل المجتمعات الانقسامية.
حالة “التوهان التاريخي”، والصراع الهوياتى، والتشوش ساهمت فى توترات فى الفكر العربى، منذ هزيمة يونيو 1967، وما بعد حرب أكتوبر، وثورة عوائد النفط، ثم انهيار حائط برلين، وسقوط الإمبراطورية الماركسية بقيادة الاتحاد السوفيتى، وتفككها، وتحول العالم إلى الرأسمالية النيوليبرالية، باستثناء نسبى حول الصين، وكوريا الشمالية. تغير العالم، وشاع الاضطراب، والصراع، والقلق، وعدم اليقين، والأخطر أن هذه الحالة أدت إلى حالة من العقل المستقيل -إذا شئنا استعارة جورج طرابيشى- عن مواجهة مشكلات وأزمات وظواهر الواقع إلا قليلا، خاصة فى ظل حالة من الركود السياسي. وبات “العقل المعتقل”، وفق تشيسواف ميووش، سمت الحالة العقلية الغالبة مع استثناءات محدودة. أدى الركود السياسى إلى سطوة عقلية الشعارات والنشطاء السياسيين والحقوقيين والتداخل فيما بينهم، وتحول غالب الخطابات السياسية إلى خطابات إيديولوجية قديمة، وشعاراتها، وأيضا إلى خطاب حقوقى مهجن بالسياسى، وموظف سياسيا من بعض بقايا الأحزاب السياسية الشيوعية السرية، والتى كانت محجوبة عن الشرعية السياسية والقانونية كما فى الحالة المصرية.
2- العقل السياسى العربي ذهب غالبه إلى الخطاب الحقوقى، دونما درس لأسسه التاريخية والفلسفية وتطوراتها ووظائفه المستقلة من الخطاب السياسى الإيديولوجى، ومن ثم ظل خطابا دعويا مثله مثل الخطابات الدينية الإسلامية السياسية، والسلفية، مع عمومية هذه الخطابات الشعاراتية التى ذهبت إلى مخاطبة الجهات الممولة، وأيضا إلى مخاطبة بعضها بعضًا. الأهم أن هذه الجماعات الحقوقية، أدت بسبب التمويل الأجنبى –الغربى أساسا- إلى ولادات مستمرة من داخلها لجمعيات حقوقية جديدة بحثا عن التمويل..إلخ.
3- الخلط بين الناشط الحقوقى والداعية الإيديولوجى كان سمت بعض العقل المصرى والعربى المسيطر، وهو ما أدى إلى المزيد من الاضطراب والتشوش حول الأدوار والمجالات والأنشطة فى المجال العام. تفاقم هذا الخلط فى انتفاضات الربيع العربي، وانخراط النشطاء الحقوقيين، كنشطاء سياسيين فى العمليات السياسية وبعض المناورات، والتوافقات مع الإخوان المسلمين فى مصر، والنهضة فى تونس، والسلطة الفعلية فى كلا البلدين، وذلك على نحو كاشف لإزدواجية وخلط فى الأدوار لأن بعضهم كشف عن وجهه السياسى المؤدلج، ومصالحه السياسية بعيدًا عن دور الناشط الحقوقى.
4- منذ عقدى الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين، بدأ دور الداعية الدينى فى الصعود إلى المجال العام الفعلي، والمجال العام الرقمى على استحياء، وذلك كنتاج للسياسات الدينية فى العالم العربى التى تعتمد على دعاة السلطة الدينية التابعة فى تديين المجال العام، وأيضا تديين الدعاة والجماعات الإسلامية للمجال الخاص، وخاصة تركيزهم على نظام الزى للمرأة، والرجل، والحجاب ثم النقاب والإسدال مع الحركة السلفية، واللحى للرجال، وتديين خطاب الحياة اليومية، بهدف التمدد والترميز الدينى لحياة الجموع الغفيرة.
بات الداعية الدينى هو الموجه والمرشد للحياة العامة. تمددت وظيفة الداعية الدينى والأخلاقى السلفى إلى أعداد غفيرة من الجموع الغفيرة سعيا لبناء المكانة الاجتماعية فى الوسط العائلى، أو جماعة الرفاق، أو زملاء العمل، أو بين الجيران، أو من خلال “دعاة الطرق” بتعبير العميد د. طه حسين.
انتقلت هذه الوظيفة إلى الدعاة الرقميين على الحياة الرقمية، وبرزت وظيفة تديين الحياة الرقمية، وهو مسعى نجده لدى بعض رجال الدين المسيحيين وأتباعهم ونشطاء المذاهب الدينية المسيحية الشرقية على الواقع الرقمي.
5- صمت ونهاية المثقف وأدواره النقدية وفق ما ساد فى المرحلة شبه الليبرالية فى مصر، وأيضًا بعد يوليو 1952، وكانت ذروة هذا الدور منذ عقد التسعينيات والعقد الأول من الألفية الجديدة وفى الحركة الاجتماعية إلى 25 يناير فى مصر، والحركة الجماهيرية فى تونس ضد نظام بن على. فى ظل حكم النهضة فى تونس ارتفعت أصوات المثقفين التوانسة، إلا أن تشكلات المجموعات السياسية أدت إلى عديد المشكلات لكن لا يزال هذا الصوت النقدى قائم إزاء النهضة، وحكم الرئيس قيس سعيد. فى الحالة المصرية تراجع هذا الدور، وصممت غالب المثقفين، مع الثورة الرقمية، وبروز أجيال جديدة تهتم بورش كتابة الرواية والقصة والاهتمام بالصورة الومضة على وسائل التواصل الاجتماعى..الخ! وبعض الخطاب الأيديولوجي والديني لبعض المعارضين.
6- أدت الثورة الرقمية، وفضاءاتها الحرة إلى التأثير على طبيعة الثقافة الفعلية، من خلال الحريات الواسعة، ودخول الجماهير الرقمية، والفعلية الغفيرة إلى مجال إبداء آراءها، وانطباعاتها فى كل الأمور أيا كانت من السياسة، إلى الأغانى، والموسيقى، وإطلاق الحكم والآراء الأخلاقية، والدينية، والمذهبية، والسينما، وسرادقات العزاء الرقمية، واحتفالات أعياد الميلاد، والجميل والقبيح، والخير والشر..الخ!
لا شك أن هناك حالة من حالات النكوص من متابعة وتحليل الاتجاهات، وخطابات المنشورات، والتغريدات، والصور الومضات، و”الفيديوهات الطلقة” على الواقع الرقمى، وثمة استثناءات لكنها لا تزال محدودة نسبيًا.
7- حالة انكشاف للذوات الرقمية وبعض الفعلية، وتحول فى الكتابة وأساليب التعبير، واللغة المحكية فى كل بلد، أو منطقة داخلها، ولا تزال الدراسات السوسيو- رقمية نادرة، وذلك على الرغم من أن الفضاءات الرقمية، وعالم البيانات الضخمة، تمثل مادة لدى الشركات الرقمية لإعادة تشكيل الذوات الفعلية، والرقمية معا فى كل شئ، وتحول الجموع الغفيرة الرقمية إلى أشياء استهلاكية. التشيوء الإنسانى أصبح رقميا، وفعليا، وهذه الجماهير الرقمية الغفيرة تحت رقابات شتى.
8- تمدد ظاهرة الرقابات المتبادلة فيما بين بعض المجموعات والأشخاص وبعضهم بعضا، وخاصة فى حالة المجموعات الرقمية المنظمة أو أيضا ما يطلق عليهم “الكتائب الرقمية” أيا كان من وراءها فى الواقع الفعلى أو الرقمى، أو لاختلافات فى الرأى، أو الدين أو المذهب، أو الرأى السياسى، أو الانتماءات الوطنية أو العرقية أو القومية..الخ.
ثمة أيضًا الرقابات الأمنية والاستخباراتية من بعض الدول على بعضها، ومن بعض النظم والسلطات السياسية على مواطنيها أو غيرهم من نقاد سياساتها، أو شخصيات عامة فى دول أخرى، وذلك من خلال برامج رقابية تم شراءها من بعض الشركات الرقمية المتخصصة، مثلما حدث من بعض الدول العربية، وأدى إلى مشكلة بين المغرب وفرنسا، بسبب متابعة حسابات بعض العاملين قى قصر الإليزية!
رقابة الأخ الأكبر (Big Brother) الشخصية الخيالية فى رواية جورج أورويل 1984 الحاكم الغامض لأوشيا الدولة الدكتاتورية، والتى توظف كمعادل للقمع، واستخدام السلطات لصلاحياتها فى العسف بالحريات والحقوق الشخصية، وخضوع القاطنين لأنظمة المراقبة على نطاقات واسعة، والتحكم فى السكان ومن ثم انتهاك الحريات العامة والشخصية وخرق الدساتير والقوانين. رقابة الأخ الأكبر لم تعد قصرا على رقابة النظم التوتاليتارية، والتسلطية، وإنما أصبح هناك “الأخ الأكبر الرقمي” الذى يملك البيانات الضخمة Big data ويتمثل فى الشركات الرقمية العملاقة، التى تملكها، وتبيعها إلى الشركات والدول فى جميع المجالات.
9- هذا العالم الجديد من أنظمة الاستثناء باتت فى كل الدول والأنظمة السياسية بما فيها الديمقراطية، فى متابعتها للأشخاص والمجموعات والمنظمات الإرهابية، والجنائية، والمهربين للمخدرات، والهجرة غير المشروعة، وفى الظروف الاستثنائية بما فيها الجوائح مثل فيروس كرونا المتحور وما تم خلالها من إجراءات استثنائية.
السؤال الذي نطرحه هنا: أين العقل العربى من متابعة التحولات فى الواقع الرقمى وأثره على حرية العقل والتفكير والبحث والضمير، والأهم ثنائية الحرية الرقمية، والرقابة الرقمية؟
من الشيق ملاحظة أن بعض من يطلق عليهم “مجازا” مثقفين، وأكاديميين توجهوا إلى الواقع الرقمى ليغدو جزءًا من جموعه الغفيرة، وأثر ذلك على طرائق بعضهم فى التفكير، وشاعت لديهم التعليقات الوجيزة جدا، والصورة الومضة، والإعلان عن نشاطاتهم، وحياتهم وندواتهم، ومشاركاتهم عبر الصور الومضة.
لا شك أن ذلك يعبر عن محاولات بعضهم الحضور فى الحياة الرقمية، وإثبات لذواتهم والسعى نحو الذيوع، والاستمرارية للأجيال الأكبر سنا عبر عرض صور أغلفة الكتب، والبحوث المدرسية/ الجامعية، وصورهم أثناء مناقشات الأطروحات الجامعية، ويقودهم فى ذلك كتاب الرواية، والقصة القصيرة، والشعراء، وتسيطر على بعضهم المشاركة فى الـ Trends، ويقلدون المطربين والمطربات، والممثلين والممثلات.
لا شك أن ذلك أدى إلى تراجع هيبة المفكر والمثقف فى الغالب إلا قلة قليلة جدًا.
10- أدت الثورة الرقمية إلى ازدواجية الحياة بين الفعلية والرقمية، والتفاعلات بين كليهما، وتأثير بعضها فى الآخر، وخاصة فى مجتمعاتنا العربية، وقيود الواقع والسياسة والأمن على العقل الحر والنقدي، والحريات العامة والشخصية، على نحو أدى إلى تحول الحياة الرقمية إلى حياة كاملة، إلا أن الملاحظ أن العقل الجمعى للجموع الرقمية الغفيرة، أدى إلى انفجار الكذب، والنميمة، والاستعراضات، وسطوة اللغة الأخلاقية والدينية الموروثة، وتحول الحياة الرقمية إلى مجال للاحتساب الدينى، والرقابات الوثيقة على الآخرين. وانتشرت ثقافة النميمة، والفضائح الشخصية، وكشف المستورات الأسرية، وبين الخاطبين والمتزوجين منهم/هن لاسيما من الممثلين والممثلات والمطربين والمطربات، ولاعبى الكرة والمدربين، ورؤساء الأندية الرياضية.
بات التدين أحد أدوات الحضور، وإثبات الذات، وبناء الشهرة، ومحاولة الاستمرار فيها بعيدا عن الأعمال الفنية والموسيقية، والتمثيلية والسينمائية، من خلال الاستعراضات الجسدية، ونظام الزى، والغرابة فى تصميماته، وبعضها يتماثل مع زي مجتمع الميم الغربى –لمثلى الجنس، ومزدوجى التوجه الجنسى والمتحولين جنسيا.
هذا النمط من أنماط نظام الزى يوظف من بعضهم فى إنتاج الغرابة، والاختلاف، على نحو ينتج الإثارية لدى الجماهير الرقمية الغفيرة، ويفتح الباب إلى الجدل، والخلاف الذى يؤدى إلى صناعة الترند (Trend).
تبدو النميمة وكشف الأسرار الزوجية وعلاقات الرفقة، وما تنطوى عليه من ادعاءات متبادلة وأكاذيب، وإنتاج الترند، مصحوبا بالصور المثيرة للنساء.
11- أظهرت الحياة الرقمية، وخطابات المنشورات والتغريدات، والانستجرام المرئي، وغيرها نشوء لغة رقمية، وسلوكيات رقمية، تدور حول القراءة الومضية السريعة، والصور الومضية والفيديوهات الطلقة، وكلها تشير إلى سرعة بناء الانطباعات، واستهلاك المواد الرقمية، فى سطحية دونما تعمق وإعمال العقل، والنظرة النقدية للأمور فى الغالب الأعم، والاستثناءات محدودة – الأهم أن ذلك انتقل إلى بعض الباحثين والمثقفين –وفق المعانى الشائعة وغير الدقيقة، وبعض رجال الدين وأصبحت لغتهم تميل إلى الاختصار، واللغة السجالية والسخرية، وبعضهم يركز على خطاب المنشورات فى استعادة بعض مما يعتقد أنه بعض من انجازاته فى نزعة نرجسية مفرطة، وخاصة بعض الأكاديميين والأدباء والباحثين.
12- بعض الأكاديميين ذهب إلى كتابة الروايات –بقطع النظر عن قيمة بعضها الفنية والجمالية- وذلك سعيا وراء الجرى نحو طوفان الإنتاج الروائي الذى يسود منذ عقد التسعينيات من القرن الماضى، وطيلة العقدين الماضيين من الألفية الحالية. وبعضهم الآخر ذهب إلى كتابة المقالات الأقرب إلى لغة التواصل الاجتماعى.
أدت اللغة الرقمية إلى التأثير على بعض العقل السياسى، وخاصة منذ منتصف العقد الأول من القرن الحالي، من خلال الميل إلى بعض من الخطاب السجالى العام، في نقد السياسات العامة للدول والطبقات السياسية الحاكمة، من خلال خطاب شعارى عام يصلح لكل نظام، وكل مرحلة تاريخية، ويحمل يقينا بكفاءته النقدية، وامتلاكه الملكات والمهارات لحل المشكلات والأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.. إلخ، وهو يصلح لكل مرحلة، وكل أزمة، لكنه لا يمتلك لا القدرة التحليلية والنقدية خارج السجالات الخشنة على تفسير أو تحليل أي شيء!
لا شك أن خطاب المنشورات والتغريدات والفيديو الطلقة جاء في الغالب حاملًا حالة من التسطح، وضعف القدرة التحليلية -وثمة استثناءات في هذا الصدد- والملكة النقدية، والمنهجية، والاعتماد على المعلومات، وهى أمور أدت إلى تراجع مستوى الجدل العام والحوار بين الباحثين والأكاديميين والمثقفين، وهى ظاهرة في تزايد وتفاقم. المثير أن بعضهم بات يرى أن الحضور في الحياة الرقمية، وخطاباتها السريعة ولغتها الوجيزة، والسجالية والإثارية والساخرة أهم من كتابة مقال أو بحث أو كتاب. بعضهم يوظف الحياة الرقمية في الترويج للكتابات من خلال نشر صور الغلاف، وحفلات التوقيع، والصور مع بعض الحاضرين، أو الشخصيات المعروفة في الحياة العامة الفعلية والرقمية.
13- أدت الحياة الرقمية إلى ظاهرة بناء الجماعات أو العصب الرقمية في السياسة على أسس حزبية أو سياسية أو دينية ومذهبية، وهو ما يطلق عليه في تعبير شائع “كتائب اليكترونية -دينية أو سلطوية”، وهو وصف مُحمل بتحيزات مسبقة. أدت هذه الجماعات والعصب الرقمية إلى تحول غالبُ العقل الرقمى إلى عقل متحيز، وبسيط، وسطحى، سواء في إنتاج الشعارات والكلاشيهات، و”اللغة الخشبية” وفق التعبير الفرنسي، أو “الكلام الساكت” وفق التعبير السودانى الذائع. يمكن أن نطلق عليها “لغة الفراغ”، أو “اللغة الجوفاء”، لغة رحلت عنها دلالاتها، والأهم أن هذا النمط من الأساليب اللغوية، يبدو عاريا من البلاغة، وباتت أقرب إلى لغة اليومى الرقمية الأقرب إلى ما يمكن أن نطلق عليها لغة الخلط بين العامية وبقايا مشوهة ومشوشة للغة الفصحى، بكل أثر ذلك على تراجع مستويات اللغة العربية وبلاغتها. تراجع الاهتمام بالكتابة الفصيحة وجمالياتها لصالح هذه اللغة الرقمية المهجنة، التي باتت تسيطر على الخطابات الرقمية بما فيها خطاب بعض “المثقفين”، والمتعلمين، وبعض الأكاديميين.
14- ظهور جماعات ضغط رقمية، في بعض القضايا السياسية والدينية والمذهبية، وبعضها يؤثر على القرارات الحكومية اليومية، ويشير إلى أن بعض الأخطاء في القرارات الرسمية، أو السياسات العامة، أو بعض الأمور التاريخية والتقنية التي تتجاوزها هذه القرارات -مثال هدم مقابر الأمام الشافعى التاريخية…إلخ- وبعضها قد لا يؤثر على متخذ القرار.
لا شك أن هذا النمط الجديد سيؤدى إلى تغيير في النظرية السياسية، والمؤسسات السياسية، والأحزاب. بعض جماعات الضغط الرقمية، تشكلت من خلال الدعوة لمواجهة سياسة من السياسات العامة، أو قرار من القرارات، ومثالها تشكل جماعة السترات الصفراء -من الطبقات الوسطى الصغيرة والوسطى-الوسطي الفرنسية- للاحتجاج على ارتفاع أسعار بنزين السيارات، ثم الاحتجاج الجماهيري على عدم تغيير قانون رفع سن الإحالة للتقاعد وعدم تخفيضه. وأيضًا الاحتجاجات ضد تجاوزات الشرطة الفرنسية في الضواحى، ومقتل شاب فرنسى من أصول جزائرية.
من ثم تبدو جماعات الضغط أكثر تأثيرًا من بعض الأحزاب السياسية، التي وهنت مع بروز ظاهرة الأيديولوجيا الناعمة في عقد السبعينيات Soft ideology، وتراجع أحزاب اليسار.
لا شك أن جماعات الضغط الرقمية باتت مؤثرة، وتشكل مصدرًا من مصادر إحداث التغيير في بنى الديمقراطية التمثيلية ومحاولة دمج الديمقراطية المباشرة في إطارها، واللجوء إلى الاستفتاء في بعض القوانين الحساسة الماسة بحياة الجماعة الناخبة، وعدم انتظار الانتخابات البرلمانية، أو الرئاسية. بعض جماعات الضغط الرقمية تساهم في بعض الأحيان في الإفراج عن بعض المعتقلين السياسيين، أو المحكوم عليهم في بعض القضايا السياسية.
15- أحدثت ظاهرة الجوائز العربية السخية من بعض دول اليسر العربية، لاسيما في مجال الرواية والقصة والشعر وبعض الكتب الفكرية، والترجمة حراكا واسعا في سوق النشر للروايات، وبعض ترجمات كتب الفلسفة الغربية، إلا أن إمعان النظر في نتائج هذه المسابقات، تشير إلى حالة من إعادة التوجه داخل الفضاءات الثقافية العربية، إلى السرود الروائية -من كتاب القصة والمسرح والشعر- وإلى فيضان من السرديات الروائية السطحية والتي تفتقر إلى الموهبة الحقيقية، وملكة التخييل، ومهارات البناء الروائى، والأساليب اللغوية المبتكرة، وغير النمطية.
يمكن القول إن الدافع لكتابة الروايات من كثيرين، هو التقدم إلى هذه الجوائز للحصول عليها، وخاصة من مئات كتاب الرواية الشباب، ومن هم في أواسط العمر وبعض كبار السن.
لا شك أن هذا النمط من الكتابات التي تفتقر إلى تقنيات الكتابة الروائية، في بنياتها، وتخييلاتها، وأساليبها تشير إلى سطحية التجارب الوجودية، ونقص الموهبة والتكوين المعرفي، وضعف المهارات الأسلوبية والتخييلات الاستثنائية.
الأخطر أن بعض لجان التحكيم تلجأ إلى تدوير الجوائز عربيا بقطع النظر عن المعايير النقدية، وغالبا ما يتم نسيان بعض الأعمال الفائزة، ومؤلفيها بعد ذلك.
16- بعض الكتاب/ الكاتبات، يلجأون إلى توظيف الحياة الرقمية، وتشكيل جماعة ضغط من أصدقائهم والموالين لكتاباتهم، وبعض جماعات نوادى القراءة، في الترويج لبعض الأعمال المقدمة إلى هذه الجوائز، بهدف الضغط على لجان التحكيم، وهو ما لم ينجح في الغالب، لكن هذه الظاهرة باتت أحد ملامح الحياة الأدبية الرقمية، وعالم الجوائز العربية السخية. لا شك أن هذا التوجه لممارسة الضغوط، ودعم كاتب أو كاتبة للحصول على هذه الجائزة أو تلك من خلال آليات للترويج. بعض النقاد المدرسيين دخلوا في ممارسة الضغط لصالح بعض الكتاب والكاتبات، ومديح كتاباتهم، بقطع النظر عن أهمية هذه الأعمال الروائية وجدارتها بالجائزة.
17- ثمة ولع بعض الكتاب والكاتبات من الروائيين نحو الترجمة إلى اللغات الأجنبية، وهناك من تُرجمت أعمالهم إلى الإنجليزية والفرنسية والإيطالية والإسبانية والألمانية، لكن لا يوجد حضور بارز للروائى/ الروائية العربى في الحياة الأدبية الكونية إلا قليلا جدا من حيث الحضور في سوق النشر، والأهم السوق القرائى. نجيب محفوظ بعد نوبل ثم تراجع، وجمال الغيطانى بالفرنسية، وعلاء الأسوانى بعد رواية عمارة يعقوبيان.
مرجع ذلك أن الترجمات إلى اللغات الأجنبية تعود إلى بعض المنح الأجنبية المخصصة لترجمة بعض الروايات عن العربية، وذلك للباحثين في شئون المنطقة العربية، ودارسي المنطقة الشرق أوسطية، ولذلك تُطبع أعداد محدودة من هذه الروايات. من ناحية ثانية. فإن المشكلة تكمن في غياب التجارب الأدبية العميقة ذات الطابع الذى يمس الشرط الإنسانى الوجودى، وأيضا ذات خصوصيات مشرعة على الإنسانى والكونى، وليست محضُ عالم من التفاصيل المحلية -في القرى أو البوادى أو المدن الصحراوية أو المدن المريفة- التي يستغرق فيها كاتبوا الروايات في تفاصيل محلية ضيقة بحثا عن غرابة ما! هذه النظرات الروائية المحلية وخصوصياتها ربما لا تهم القارئ العادى، على الرغم من شراءه روايات أمريكا اللاتينية والواقعية السحرية، والتجارب الروائية الأفريقية، والآسيوية، وكتابات الروائيين من الأجيال المهاجرة إلى أوروبا، وازدواجية عوالمهم الروائية.
18- بعض الفكر الفلسفى والسوسيولوجى والنقدى العربى لا يزال جزءًا من الدرس الأكاديمى المدرسى، ومستوياته في تراجع في غالب الجامعات العربية وهناك استثناءات، وهو في الأغلب الأعم لا يعدو سوي نقل عن المصادر الغربية، وتراجعت محاولات التفلسف العربى، أو الكتابة الفكرية باللغة العربية على نحو ما كان سائدا في الماضى، من محاولات صياغة فلسفات تتلائم مع الأوضاع العربية، مثل عثمان أمين، ومحمد عزيز اللحبابي، وعبدالرحمن بدوى، ولا توجد كتب فلسفية وفكرية عربية باللغات الأجنبية، وأحدثت أثرًا في الفكر العالمى، بعض الاستثناءات كُتبت بالفرنسية مباشرة مثل بعض كتب عبدالله العروى وكتابه الأول الأيديولوجية العربية المعاصرة الذى صدر بالفرنسية قبل هزيمة يونيو 1967 ثم ترجم بعدها بسنتين، وأثر على عدد من العقول النابهة في العالم العربى على قلتهم، من حيث جدة المقاربة التاريخية والفلسفية. على وجه العموم لم يؤثر في الفكر العالمى المعاصر من عالمنا العربى سوى إيهاب حسن في النقد الأدبى لما بعد الحداثة، ويعد المرجع العلم في هذا الإطار، وأنور عبدالملك، وسمير أمين، ومصطفي صفوان في المدرسة النفسية اللكانية وسامي على والجماعة المصرية في التحليل النفسي في فرنسا، واللبناني المصرى جورج قرم وكتبه بالفرنسية.
19- بعض من الباحثين المصريين والعرب في مجال الاجتماع السياسى، والعلوم السياسية تعد أعمالهم في الظواهر الإسلامية السياسية، وجماعات العنف، مصدرًا من مصادر الدراسات الغربية في هذا الصدد. بعض الباحثين لديهم كتاباتهم بالإنجليزية، والفرنسية مثل بهجت قرني ومحمد سيد أحمد وكتابه “بعد أن تسكت المدافع”. وهناك دراسات اقتصادية حول العالم العربى، ومصر مثل جلال أمين. عموما قد تكون مصادر لدراسة خبراء المنطقة في أوروبا، والولايات المتحدة إلا أن تأثيرها ليس كبيرًا.
باستثناء إيهاب حسن وأنور عبدالملك، وسمير أمين، ومصطفي صفوان لا نستطيع القول إننا مؤثرين في الفكر العالمى.
ثالثًا: الأناسة الروبوتية، والذكاء الاصطناعى التوليدى: صدمات القطيعة مع عالم المابعديات
ثمة خفوت في الأطروحات التي تُقدم لتفسير التخلف العربى التاريخى، وتراجع الأطروحات التي قُدمت في هذا الصدد وآخرها مشروع محمد عابد الجابرى، وردود جورج طرابيشي حولها. مع ذلك تبدو هيمنة النظرات البسيطة التي تتمركز حول ثنائيات الماضى الضدية، أو بعض محاولات الخروج منها على نحو جزئى من بعض العلمانيين -لكن علمانية دونما فلسفة أو رؤى تاريخية- علمانية شعاراتية في الغالب تميل إلى الفصل بين الدين والدولة بهدف تحييد الدين في الصراع السياسى والاجتماعى. نمط من العلمانية البسيطة، التي ترتكز على مجموعة شعارات سياسية في الغالب الأعم، سواء من بعض الأجيال القديمة، أو بعض من الأجيال الشابة في العقدين الماضيين من الألفية الحالية.
لا يزال العقل الدينى النقلى وأتباعه يدورون فى مقاربات الماضى التاريخى للسرديات الوضعية حول الإسلام، ونادرة جدا أية مقاربات نقدية وتاريخية حول السرديات المسيحية الشرقية على اختلافها.
ومن الملاحظ تراجع المتابعات والمراجعات لتطورات الفكر العالمى لا سيما الغربى، وأيضا الفكر الآسيوى في الصين، وكوريا الجنوبية، وسنغافورة واليابان والهند.
من المثير أيضا الغياب النسبى عن تحولات عالمنا وقضاياه الجديدة البيئية، والاحتباس الحرارى، والفيروسات المتحورة، والتحول إلى عصر الأناسة الروبوتية، وما بعد الإنسان.
في عصر الحياة الرقمية، يبدو غالبُ العقل الجمعى في البلاد العربية أسيرًا لتفاصيل حياته، ومشكلاته، وأخباره الكاذبة، والسطحية أو بعض الحقيقية والمشوهة، والميل إلى انكشاف الخصوصية، والتريندات حول فضائح وأسرار وخلافات بعض المشاهير من المطربين والمطربات والممثلين والممثلات، ولاعبى كرة القدم، ورؤساء الأندية وآخرين. عالم يبدو مفتوحا على مصراعية، لكن العالم العربى وحياته الرقمية تدور في دوائر شبه مغلقة.
مرجع ذلك يعود بعضه إلى ما يلى:
1- في عصر الرقمنة، هناك سرعة في استهلاك ما كان يطلق عليه سابقا النجوم اللامعة والمشاهير وبات استهلاكهم عالميا بالغ السرعة، وفى العالم العربى، وخاصة الأجيال الجديدة، في ظل أزمة تراجع الإنتاج السينمائى، عما كان قائما في مراحل تاريخية سابقة.
2- تراجع الإقبال على الثقافة الورقية والمجلات الفنية من الأجيال الجديدة، وفقدت تأثيرها كنتاج للرقمنة، والأجيال الرقمية، على نحو أدى إلى تراجع دورها في صناعة الشهرة للممثلين والممثلات، والمطربين والمطربات والملحنين، ولاعبى كرة القدم.. إلخ.
3- تراجع متوسط الشهرة إلى سنوات قليلة في ظل التغير الجيلى للشباب والصبية.
4- التحول في الإنتاج السينمائى إلى المنصات الرقمية مثل نتفليكس، ونظائرها، ومن ثم التحول في عمليات التلقى للأعمال السينمائية، والفضائية من طقس الذهاب إلى دور السينما، ومن القنوات التلفازية إلى التلقى الرقمى عبر الألواح الرقمية، وجهاز الهاتف النقال.
5- تنامى أثر الرقمنة على فعل التلقى، والتمثل والاستهلاك من القراءة الورقية إلى الرقمية، ومن القراءة المعمقة إلى ما سبق أن أسميته القراءة الومضة السريعة، والسطحية.
6- بروز التوجه في الاستهلاك الرقمى إلى النظرات الومضة السريعة، وخاصة إلى الصور الفوتوغرافية، أو الصور السيلفى وغيرها الرقمية، وإلى الفيديو الطلقة. باتت سرعة النظرات الومضات والسريعة جزءًا من السلوك البصرى للجموع الرقمية الغفيرة، ومن ثم تشكيل ما يمكن أن نسميه الاستهلاك البصرى والقرائى فائق السرعة. ويلاحظ في هذا النمط الاستهلاكى الرقمي غلبة السطحية، والإثارة والميل لها، سواء في الصور، أو اللغة، أو الصور الحواسية المثيرة.
7- لم يعد الولع بالصور الذاتية/ السيلفى والصور الرقمية قصرا على بعض المناسبات الهامة، أو للجموع الرقمية الغفيرة، ولا للفنانين، ولاعبى كرة القدم وغيرهم من الألعاب الرياضية، وإنما بات جزءًا من ولع الكتاب والمثقفين، وهو ما يشير إلى سطوة اللغة والصور الومضة، والفيديوهات الطلقة على كافة مستويات مستهلكى، وفاعلى الحياة الرقمية، ومن ثم لم يعد التميز النسبى بين العاديين والمثقفين واردًا إلا استثناءًا، أي خضوع الجموع الرقمية الغفيرة والمثقفين والأكاديميين والصحفيين، والشعراء والروائيين، والقصاصين، وكتاب المسرح لمنطق الحياة الرقمية، ولغتها وتعبيراتها في العالم العربى.
8- الحياة الرقمية باتت حالة سوسيو- نفسية، وسوسيو- فكرية، وسوسيو- دينية، وسوسيو- ثقافية، وأسواق رقمية في كافة مناحى الحياة، من نظام الزى، إلى نظام الأكل، إلى الترفيه، وكل تفضيلات الجموع الغفيرة، هي جزء من البيانات الضخمة لدى الشركات الرقمية الكونية، التي توظف هذه البيانات، وتبيعها للشركات في إعادة تشكيل سلوك، واستهلاك الجموع الرقمية الغفيرة في كل مناحى الحياة، بما فيها الحواسية والحميمة، والثقافة الحواسية لها!
من هنا تحول الإنسان الرقمى في عالمنا العربى إلى موضوع لإعادة تشكيل سلوكه، وقيمه، وتوجهاته من خلال البيانات الضخمة، على نحو يسرع من تشيوءه، وتحوله إلى كائن استهلاكى رقمى، وأثر ذلك على السلوك الفعلى.
9- أدت الرقمنة إلى تفكيك الجموع الفعلية الغفيرة نسبيا من وضعية الامتثال والخضوع، ومفهوم الجماعة وثقافة الإجماع -ذات السند الدينى الوضعى- وتوظيف ذلك من جانب الأنظمة السياسية، وتوظفيها للدين سياسيا، وإشاعة الخوف ورهابه للسيطرة عليها، إلى بروز نمطين: الأول، الجموع الرقمية الغفيرة التي يحركها الدين، والقيم، والمصالح من خلال التجمع الرقمى، والتعبئة من خلال التريندات Trendes، أو الإحساس بالخطر أو التهديد سواء أكان فعليا أم تهديد رقمى او متخيل.
النمط الثانى، الإنسان/ الفرد الرقمى، المولع بذاته ونرجسيته، واستعراضاته، من خلال الصور الومضة السلفى، أو صور قام بها الآخرين له، والفيديوهات الطلقة. هي محاولة من الإنسان الرقمى العربى أساسًا للتحرر من النفي والتهميش في الحياة الفعلية إلى الرقمية، لإثبات الذات والوجود، وهى ظاهرة تتسع أيضا كونيا. ويذهب الكاتب الإسبانى إيناكى دومنيغيث، أستاذ الفلسفة والأنثربولوجيا الثقافية ودراسات ما بعد الكولونيالية، في مقالة له حول عصر النرجسية في موقع (ethic.es)، ونشر في موقع “عروبة 22″، يوم السبت 13 تموز 2023، إلى أنه “مما لا شك فيه أن الناس أكثر نرجسية مما كانوا عليه في العقود الماضية النرجسية ليست شيئًا جديدًا، لكن عصر السيلفى أو الشبكات الاجتماعية أدى لتفاقمها”. وأيضًا قوله “الواضح أيضا إذا تفحصنا مسألة النرجسية، هو أننا نعيش في واحدة من أكثر الأزمات النرجسية في الذاكرة، وهو مرتبط بالتقنيات الجديدة والمجتمع الاستهلاكى، مما يشجع على تبجيل الذات مع نية لتشجيع الاستهلاك الجامح أداة لتملق الأنا”.
لاشك أن النزوع النرجسى الرقمي والفعلي وراءه تسليع الجسد الإنساني، واقتصاديات الطب التجميلى -إذا جاز التعبير- وخضوعه للموضات الجسدية للمرأة، وأيضا الرجال، سعيا وراء الجمال سابق التجهيز طبيا، أو لمداراة أفعال الزمن في الجسد الإنساني لدى العرب وغيرهم. ثمة أيضا تحول نظام الزى، وموضاته إلى جزء من استهلاك بعض الجموع الشابة الغفيرة من خلال إعادة انتاج ذات الموضات في الصين وفيتنام، وبيعه بأثمان رخيصة لفقراء العالم الثالث. يبدو ذلك في التصميمات والألوان مع تغيرات طفيفة، وبعض استهلاك موضوعات بيوت الأزياء العالمية مخصصًا للأثرياء. الإنسان الرقمى/ الشىء بات بوصفه شيء مرقمن، ومستهلك ويعاد تشكيله، من الشركات الكبرى في عالمنا.
رابعًا: الأناسة الروبوتية والذكاء الاصطناعي التوليدى والحركة إلى عالم ما بعد الإنسان
أحد أبرز علامات عصرنا فائق السرعة، تتمثل في التطورات التقنية غير العادية، والاستثنائية، وخاصة في مجال الذكاء الاصطناعى التوليدى، والاستثمارات الكبرى والأبحاث المتطورة -السرية للشركات الرقمية الكبرى- لتطوير الروبوتات، حيث بدأت التصورات حولها وكأنها تستعيد بعض تصورات الأدباء والكتاب في نهاية الأربعينيات وأوائل الخمسينيات عن مستقبل الإنسان. وذهب بعضهم إلى أن مآل الحياة الإنسانية سيكون نحو عالم ما بعد الإنسان نظرًا للتطورات التقنية المحتملة أثناء الثورة الصناعية الثانية إلى الثالثة. اعتبرت هذه الكتابات آنذاك، وكأنها سرديات أسطورية وأدبية مؤسسة على أخيلة جامحة، وأن مستقبل الإنسان سيظل مسيطرا على التكنولوجيا وعلى ما كان يطلق عليه الإنسان الآلى، لأنه سيكون خالقه، ومعه تقنيات تشغيله!
تستعاد بعض هذه الآراء بعد التطور المذهل في عالم الروبوتات، ومآلاتها، بل دعوة بعض كبار الخبراء في هذا المجال للإشارة إلى مخاطر ترك الحياة الروبوتية بعيدة عن حدود السيطرة، وبيان مخاطر التطور الذاتي للروبوتات، ومن ثم الدعوات المتعددة من داخل الجماعة العلمية المتخصصة في الذكاء الاصطناعى التوليدى، أو رؤساء الشركات الرقمية، أو من الإدارة الأمريكية، ودول المجموعة الأوروبية لحوكمة الذكاء الاصطناعى، ووضع ضوابط للحد من مخاطره.
هذا النمط من المخاوف من التطورات التقنية أثير في الثورات الصناعية الأولى، والثانية، والثالثة، وفى بعض التخصصات في العلوم الطبيعية، والتكنولوجيا وغالبا ما تم وضع قيود قانونية تمنع البحوث وتطويرها مثلما حدث مع الاستنساخ البشرى، ومع ذلك يُقال إن هناك من لا يلتزمون من العلماء في آسيا، ويجرون أبحاثهم سرًا في هذا المجال. من هنا يمكن توقع صدور قوانين أو وثائق أو مواثيق أخلاقية تضبط الذكاء الاصطناعى التوليدى لكنها لن تمنع تطور الروبوتات، سواء من الشركات الكبرى، أو من بعض المشتغلين في بلدان أخرى في آسيا أو مناطق مختلفة في عالمنا.
عالم الروبوتات يتطور بسرعة فائقة، وبات يشمل غالب مناحى الحياة في عالمنا في الطب وإجراء العمليات الناجحة، وفى الإدارة والمحاسبة، والتعليم، والقانون، والقضاء، وفى الموسيقى والسينما، والغناء والتمثيل، وفى كتابة المقالات والبحوث. ومن المتوقع أن يؤدى وظائف الإنسان في كل المجالات، وسيؤدى ذلك إلى خروج 300 مليون موظف، أو 500 مليون موظف في تقدير آخر من سوق العمل، دون إعادة تأهيل بحلول عام 2050.
بعض البرامج الجديدة كالمحادثة الروبوتية Chat GPT وDL، وغيرها في الطريق تشكل انقلابًا في وظائف وأدوار الإنسان في الحياة، وتشكل بديلًا أكثر تطورًا، المرجح حلوله محل الإنسان ومفهوم العمل الإنساني. من هنا تبدو الأنظمة المعرفية التي أنتجها العقل البشرى منذ عصر الحداثة والتنوير الأوروبى، والعقلانية إلى عصر ما بعد الحداثة، وما بعد بعدها، تطرح جانبا، وتغدو جزءًا من تاريخ العقل والشرط الإنسانى، ومركزية الإنسان في الكون، وسيطرته على الطبيعة واستغلالها، ستطرح أسئلة جديدة، ولغة، ومصطلحات، وآلات اصطلاحية مختلفة، وأيضا ستنتهي مقاربات لما عهدناه سابقًا.
مرحلة الأناسة الروبوتية ستشهد في عام 2029 وصول الذكاء الاصطناعى التوليدى إلى مستوى الذكاء الإنسانى، وفقا لتصريح لألون ماسك. ما التحديات الجديدة والاستثنائية التي يطرحها الذكاء الاصطناعى التوليدى، والروبوتات الذكية؟
عديد التحديات يمكن رصد بعضها فيما يلى:
1- تحدى الاضطراب والفوضى النسبية في المراحل الأولى من خلال انعكاسات ثورة الذكاء الاصطناعى التوليدى على وضعية الإنسان، وانفجار التفسيرات القديمة في تفسير التحول الاستثنائى في الحياة الإنسانية، ومحاولتها التكيف لتفسير ما يحدث لكنها لن تستطيع في الغالب. ويبدو أن هناك إمكانية لبعض من العقول الخلاقة أن تقدم مقاربات ونظريات ولغة واصطلاحات جديدة.
2- تحدى أزمة الديمقراطية التمثيلية، ومدى صلاحية مؤسساتها السياسية، ونظرياتها في العالم في الاستمرار، حيث سيلعب الروبوت دورًا مهما في التخطيط، وربما الحضور في قلب العمليات السياسية، وإمكانيات محتملة لأدوار مستقلة للروبوتات في الحياة السياسية.
3- تحدى نهاية أدوار السياسيين ما بعد الحرب الباردة، وحتى العقود الثلاث من القرن الحالي، وعدم تجدد العقل السياسى الغربى في التعامل مع المشكلات الكونية مثل الانقلاب البيئي متمثلًا في الاحتباس الحرارى وتحوله إلى غليان العالم وفق غوتيروس سكرتير عام الأمم المتحدة، ومشكلات البيئة، والفيروسات المتحورة غير المكتشفه، ثم تطورات الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعى التوليدى. هنا يتجلى تحدى تشكيل وتركيب العقل السياسى في عالم الرقمنة والروبوتات وما هي مصادر تكوينه وظهوره وتدريبه خارج الأطر والتدريب والمعارف السياسية السابقة، وصدمة الجديدة، وخارج نطاق الأحزاب السياسية التي يتراجع دورها في تمثيل المصالح والتعبير عنها، وتعبئة قواعد اجتماعية تعتمد عليها.
4- تحدى بعض السيولة والفوضى ورهاب الخوف لدى الجموع الرقمية والفعلية الغفيرة، حيث الخوف من الروبوتات، والخوف من الاستبعاد من سوق العمل، والخوف من البطالة، والخوف من انهيار نظام الضمانات الاجتماعية.
5- اغتراب الإنسان الرقمي عن وسائل الإنتاج الرقمية وعلاقات الإنتاج، داخلها، والمصالح. “الاغتراب الرقمي” يختلف عن مفهوم الاغتراب الهيجلي، والماركسي، ولدى مدرسة فرانكفورت. الاغتراب الرقمى، والاغتراب عن عالم الروبوتات الذكية التوليدية خاصة في ظل ردود أفعالها على الفعل الإنسانى -وفق ما أشار إليه أحد خبراء الذكاء الاصطناعى، وتم التحقيق معه وفصله من العمل عن تطور عمل الروبوتات- من هنا الاغتراب سيتمدد عن العالم الروبوتى الفاعل في أداء العمل في كافة المجالات، والاغتراب في حالة البطالة واتساع دائرتها لا سيما في الدول الأكثر تطورًا.
6- تحدى إبداع وعمل الروبوتات الذكية للأعمال الذهنية والإبداعية التي كان يقوم بها المبدعين سابقا، في الكتابات الأدبية، والموسيقى والغناء والفنون، والكتابة والبحث، وفى الصحافة وغيرها من مجالات الإبداع الإنسانى.
حتى في بعض المجالات التي كانت جزءًا من أدوار البشر من مثيل النقد الأدبى، وتحليل النصوص الأدبية. بعض التحليل الروبوتى النقدى أفضل من عديدين من النقاد الأكاديميين، وغيرهم ممن يقدمون انطباعات عن الأعمال الروائية أو المسرحية أو القصصية أو الشعرية.
7- روبوتات المحادثة تقوم بالرد على الأسئلة الدينية والمذهبية -آيا كانت- وهو ما يشير إلى أن الروبوت سيلعب دورًا وظيفيًا في المستقبل بديلًا عن الدعاة، والوعاظ، والفقهاء، والقساوسة، والأساقفة، ورجال الدين اليهودى (الرباى) وغيرهم، وعلى نحو أفضل في الإجابات المقدمة على الرغم من بعض الأخطاء الحالية التي تعتمد على البيانات الضخمة المتاحة في الحياة الرقمية بما فيها بعض الأكاذيب والآراء الخاطئة وغير السليمة، إلا أن المستقبل المنظور ينطوى على تصحيح الروبوتات لبعض هذه الأخطاء. وهناك احتمالات لتشكيل الروبوتات لبعض الأديان الوضعية الجديدة التي تتناسب مع عصر الأناسة الروبوتية وما بعد الإنسان.
8- السؤال أين العقل العربى من عالم الأناسة الروبوتية؟
نستطيع القول إن عالم الأناسة الروبوتية، يبدو بعيدًا عن غالب العقل والفكر العربى الذى مازال محليا وقطريًا في طروحه الجزئية الموروثة من أزمنة السعي نحو حداثة جزئية أو مبتسرة، أو ذهنية يسارويات ما قبل، وأثناء حركة التحرر الوطنى ما بعد الكولونيالية، مع تحولات بعضهم نحو حركة حقوق الإنسان، في إطار الخلط بين عقل الناشط الحقوقى، والناشط السياسى، لأن العقل الأيديولوجي لا يزال سائدًا ومسيطرًا وراء العقل الحقوقى، ولا يمايز بين الوظيفتين والأنشطة.
فلسفيًا لا يزال ثمة تراجع في الفكر الفلسفى في مستوياته التكوينية، وفى إنتاجه مع بعض الاستثناءات في المغرب وتونس والجزائر، لكن هذا الإنتاج شروح على المتون الفلسفية الأوروبية أساسًا أو بعض الترجمات لها. من ثم لا توجد محاولات فلسفة يمكن وصفها بالمشروع الفلسفى على نحو ما كان يحاوله العقل العربى في المرحلة شبه الليبرالية، وما بعد من عثمان أمين والجوانية، وتعريب الوجودية لدى عبدالرحمن بدوى، والحياد الفلسفى لدى يحيى هويدى، وعبدالعزيز اللحبابي حول الشخصائية، والغدية، ومشروع عبدالله العروى النقدى للعقل العربى، ومشروع محمد عابد الجابرى، والعقل المستقيل لجورج طرابيشى.
تراجع الفكر الفلسفى الغربى في ضوء التطورات الكونية الجديدة، والمرجح بروز فلسفات جديدة، وخاصة في الصين، واليابان، وكوريا الجنوبية، وسنغافورة، وهي مناطق لا تزال بعيدة عن العقل العربى، ومركزية الغرب الأورو أمريكى، في الترجمة والتمثل الذى لا يزال تشوبه بعض التشوشات.
9- العقل النقلى الإتباعي الدينى لا يزال يدور حول مركزية السرديات التأويلية الإسلامية، والارثوذكسية التاريخية، وينزغ نحو نبذ ورفض، بل ومطاردة آية محاولات تجديدية من داخله.
10- ثمة تناقضات جيليه، وإزاحات جيلية من الأجيال الشابة نحو الأجيال القديمة، وثمة ذرائعية/ براجماتية تسيطر على تفكير الأجيال الشابة، ولا توجد دراسات سوسيولوجية حول هذه الأجيال، وخاصة الصبية والأطفال، من ثم نحن إزاء مساحات تبدو معتمة أمام العقل العربى حول كيفية اشتغال عقل الأجيال الشابة والصبية والأطفال، واتجاهاتهم تجاه الأسئلة الجديدة، وصدمة الروبوتات، واحتمالات التحول إلى ما بعد الإنسان!
كمدخل لمرحلة ما بعد الإنسان.
أولا: حالتنا الراهنة… صدمات واضطراب، وأوهام وتوهان تاريخي
الوصف “صدمة” مستعار من الفين توفلر، فى كتابه “صدمة المستقبل”، ويحيلنا إلى صدمة الحملة الفرنسية التى وُصفت بصدمة الحداثة، فى مواجهة الفكر النقلى التقليدى الدينى الطابع، وصدمات لبعض الهزائم التاريخية مثل هزيمة يونيو 1967 وغيرها من هزائم التخلف التاريخي المركب. والسؤال هل الوصف “صدمة” لا يزال صالحا فى وصف الحياة العقلية لبعض المفكرين وبقايا الجماعات الثقافية العربية؟
الحالة الراهنة تبدو أكثر خطورة وتفاقما للمشكلات المعقدة أكبر من الوصف “صدمة”! إمعان النظر فى بعض الإنتاج المعرفى والسياسى والسوسيولوجى والفلسفى الشائع تشير إلى حالة من الغياب عن زمن العالم المتحول فائق السرعة، ولازال الدوران فى عالم الدوائر المغلقة، والثنائيات الضدية (من مثيل الأصالة والمعاصرة، والتراث والحداثة، والتراث والتجديد… إلخ) يعيق تطور الفكر العربي والتحرر، من دوائره المغلقة نسبيا في ظل ميراث نقلي تاريخي ممتد، وهيمنة العقل الديني الاستبدادي والتسلطي، ويسوغ شرعا سياساتها، ويبرر أخطائها وكوارثها السياسية والاجتماعية والاقتصادية… إلخ.
كان سؤال شكيب أرسلان: لماذا تقدموا ولماذا تخلفنا؟ كامن فيما وراء بعض هذه المقاربات، بعضها ذهب إلى التقليد التراثي النقدي في مواجهة محاولات التجديد الديني، وبعضها ذهب بعيدًا نحو الحداثة والعلمانية، وتم حصاره (سلامة موسى)، وبعضها لا يزال يطرح مثل كتابات الأستاذ العميد طه حسين في الشعر الجاهلي وغيره، رغم بعض تراجعه، وبعضها لا يزال به بعض الثنائيات، والابتسار (محمد عابد الجابرى)، وبعضها لا يزال به بعض الألق، عبد الله العروى، وعلى أحمد سعيد (أدونيس)، رغم نهاية الأيديولوجيات، وبعضها ذهب إلى بعض المتابعات الفلسفية، والتراجمية (محمد سبيلا وصحبه) وبعضهم ذهب إلى الدرس التاريخى والفلسفى الإسلامى (محمد الشرفى، ومحمد الطالبى، وعبد المجيد الشرفى وتلامذته المجيدين).
وتناسلت من خلال هؤلاء البارزين إتباعيين جُدد، لكن لازالت غالب المقاربات تدور فى ظل سياجات من الخوف من مواجهة الجموع الغفيرة من أتباع التدين الوضعى الشعبى الفعلى، والرقمى الذين يفرضون حالة من الوصاية وبث الخوف والزعر على أية محاولات للتجديد الدينى، أو المقاربات التاريخية للدين، ومقارنات الأديان.
حالة الغياب عن تحولات عالمنا المتحول والواقع الموضوعي في كل دولة ومجتمع عربى مرجعها عديد الأسباب التى يمكن إيراد بعضها فيما يلى:
1- هيمنة المقاربات والمنهجيات التى سادت مرحلة التحديث المعاق، والحداثة المبتسرة والعلوم الاجتماعية الغربية التي تم إنتاجها في الجامعات والفكر الأوروبي، وتم استعارتها وتعريب مختصر لبعضها ومحاولة تطبيق بعضها على حالتنا المصرية التى انطلقت منذ نهاية القرن التاسع عشر، إلى منتصف القرن العشرين، حتى هزيمة يونيو 1967، فى درس الواقع نظريًا، مع تحولات وتطور واختلاف حالة المعرفة والمناهج عالميًا، والواقع الموضوعى. لأن بعض هذه الترجمات والاستعارات النظرية والمفاهيمية كان يتم استمداد بعضها بعد غروبها التاريخي النسبى في المركز الأوروبي، ثم الأمريكي فيما بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى العقدين الماضيين من الألفية الثالثة إلا قليلا جدا.
2- الضوابط المفروضة على الحريات الأكاديمية، وخاصة البحث الميدانى لمعرفة تضاريس الواقع الاجتماعى وتحولاته، والأهم انفصال بعض البحوث الميدانية عن دوائر صنع السياسات والقرارات عند القمة الحاكمة فى العالم العربى إلا قليلًا.
3- تراجع البعثات العلمية للجامعات الغربية -مع استثناء بعض الدول- فى منطقة الخليج العربى- مع عدم مواكبة حركة الترجمة، فى مجال العلوم الاجتماعية، وخاصة فى التحول إلى ما بعد الحداثة، وما بعد بعدها، ثم إلى بدايات الثورة الصناعية الرابعة وما تُرجم ولايزال محدود جدا ولا يتجاوز عشرات الكتب عن الذكاء الاصطناعى، والأناسة الروبوتية وما بعد الإنسان.
4- هيمنة نظرة الخبراء فى تخصصات شتى، وعدم متابعة غالبهم للتحولات التقنية والعلمية الطبيعية وفي عالم الأفكار والفلسفة والنظريات الاجتماعية التي تحاول مواكبة هذه التحولات الفارقة لما يجرى فى العالم فيما وراء الأحداث السياسية والعسكرية، وما يجرى فى الواقع الموضوعى داخل كل بلد عربى.
5- تنميط مشكلات الواقع الموضوعى، وإعادة إنتاجها فى غالب الخطاب المدرسى الجامعي، والإعلامى والرسمى على الرغم من التغيرات التى لحقت بها.
6- الانفصال بين العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية، وهيمنة العقل الدينى فى تكوين بعض كوادر الكليات العملية وغيرها من الكليات المتخصصة في العلوم الاجتماعية منذ عقد السبعينيات من القرن الماضي.
7- سطوة وسيطرة خطاب الهوية المغلق ذو البعد الأحادى الدينى التاريخى واستبعاداته للمكونات المتغيرة للهويات المتخيلة، وأيضا للمكونات العرقية، والدينية، والمذهبية، والقبلية والعشائرية، والقومية، واللغوية الأخرى داخل تركيبة المجتمعات العربية المركبة والانقسامية. تحول خطاب الهوية إلى انفجار هوياتي متعدد داخل كل بلد فى ظل ضعف وتآكل سياسات الاندماج الوطنى الداخلى، وفشل موجة الانتفاضات الجماهيرية واسعة النطاق بعد يناير 2011، وما بعد.
8- أدت أزمات بناء الدولة ما بعد الكولونيالية إلى تركيز الطبقات السياسية الحاكمة على محاولة بناء وتشكيل الشخصية القومية لكل دولة، إلى إضعاف الفكرة القومية العربية، وانهيارها سياسيًا، وأيضا إلى إضعاف العروبة الثقافية، وبروز النزاعات البينية بين دولها على الحدود، والمكانة، والدور الإقليمى، وبناء تحالفات ضدية بين بعضها بعضًا!
9- بروز بعض المقاربات الفلسفية فى المنطقة المغاربية حول اختلاف العقل المغربى/ المغاربى عن العقل المشرقى تاريخيًا، وأيضا على نحو معاصر كما بدى فى مشروع محمد عابد الجابرى، ونقد جورج طرابيشي لهذا المشروع. ومشكلة هذا الاتجاه الفلسفى/ السياسى/ الثقافى فى جوهره هو مقاربته الفلسفية بين ثنائية العرفان/ البرهان، دون نظر فى السياسى، والتاريخى، والسوسيولوجى. وهو ما يعكس أحد سمات الانفصال بين النقلى، والتاريخى الاجتماعى الموضوعى.
10- تفاقم أزمات السياسات التعليمية -التعليم العام والجامعى- ومناهجها، واعتمادها على إنماء الذاكرة الحافظة، والدرس الأحادى التوجه من المدرس والأستاذ إلى الطالب، دون الدرس العقلى النقدى، والتفاعلى بين خطاب الأستاذ/ الطالب، على نحو أدى إلى سيطرة عقل الامتثال والخضوع والتلقى، ونزعة تقديس الوضعى حول السرديات التاريخية الدينية، وتديين العقل السائد من خلال المدرسين والمدرسات ذوى التوجهات الدينية النقلية في بعض الكليات باستثناءات محدودة في تونس والمغرب ولبنان وسوريا.
11- هيمنة رهاب التكفير الدينى الذى رفعته الجماعات الإسلامية السياسية الراديكالية والإخوانية، والسلفية فى أعقاب حرب أكتوبر 1973 ضد أى اتجاهات تجديدية فى الفكر الإسلامى، أو إزاء آراء بعض المفكرين العلمانيين أو أشباههم ممن يطالبون بمدنية الدولة والفصل بين الدين والسياسة، وشيوع خطاب التكفير على نحو شعبوى بين دعاة هذه الجماعات، ودعاة بعض الطرق، وفق تعبير الأستاذ العميد طه حسين، وهو ما أدى إلى عديد من جرائم الاغتيال على رأسهم السادات، وفرج فوده، ومحاولات اغتيال الأستاذين نجيب محفوظ، ومكرم محمد أحمد، وحسن أبو باشا وزير الداخلية الأسبق.
إشاعة خطاب التكفير الدينى، أدى إلى حالة من الانكفاء الذاتي، خاصة بعد تمدده إلى عالم السرديات الروائية والقصصية، والشعر/ ومثالها حلمى سالم فى ديوانه شرفة ليلى مراد والروايات الثلاث، والتظاهرات منجانب الطلاب الإخوان ضد الروايات الثلاث
12- أدت الثورة الرقمية إلى انفجار كاشف عن جيولوجيا التفاهة والسطحية فى التعليم، والثقافة، والمعرفة السائدة وسط الجموع الرقمية الغفيرة، وأريكولوجيا العقل السطحى، وتنويعاته. انفجار كشف عن عزلة الثقافة العالمة / العليا، والثقافة السطحية الشائعة، والانتقال من العمق المعرفى إلى سطوح التفاهة، ومن الميدوكراتية إلى المنيوقراطية -ما دون الحد الأدنى من المعرفة، والتعليم والوعى- وهو ما يتجلى فى خطاب المنشورات، والأخبار الكاذبة، والتغريدات، والفيديوهات الطلقة، والصور الومضة ذاتية الكشف عن أزمات الذات المأزومة، والرغبة العارمة فى إثبات الذات، والقراءات الومضة..الخ.
13- التجاور بين الأخبار الكاذبة، والمقولات الذاتية المنسوبة للفلاسفة والمفكرين وكبار الفنانين، وغير الصحيحة، ولا تعدو أن تكون سعى من كتابها لتمرير آراءهم السطحية.
14- انفصال البحث الأكاديمى عن سوسيولوجيا الرقمنة والاستثناءات محدودة ونادرة عربيًا، وهو ما يعنى الانفصال عن الحياة الرقمية، وانعكاساتها على الحياة الفعلية، ناهيك عن عدم متابعات الفكر العالمى حول ثورة الرقمنة، وتحليلها، ومألات تطورها فائق السرعة.hi
15- أدت الثورة الرقمية إلى انكشاف للذوات الرقمية الغفيرة، ونهاية الخصوصية، وتنامى “مجتمع الاستعراض الرقمي” Societe de Spectacle، إذا شئنا استعارة جى ديبور وكتابه الشهير فى فضاءات 68 فى فرنسا. عالم الاستعراضات الرقمية لا يزال بعيدا عن الدرس السوسيولوجى العربى سوى قلة محدودة جدا من الباحثين.
16- أدى “مجتمع الاستعراض الرقمي” إلى جذب بعض الأكاديميين، وبعض المثقفين، فى عرض صورهم، وبعض آراءهم الوجيزة على مواقع التواصل الاجتماعى، سعيا وراء الشهرة والذيوع.
17- فى عصر الصورة الومضة، والفيديو الومضة لا توجد إلا نادرا تحليل لهذه التوجهات الرقمية الجديدة للجموع الغفيرة، والمثقفين، والأدباء وميلهم العارم إلى حضورهم من خلال الصور الومضة بديلا عن الأفكار.
يبدو مما سبق وغيره من ملاحظات أن هناك حالة عامة من الانفصال بين الفكر، والحضور الرقمى- إلا قليلا جدا لبعض المواقع – وبين الفكر والواقع الفعلى الموضوعى، وهيمنة الانطباعات المسبقة على تحولات الواقع فى الحياة الفعلية والرقمية. الأخطر انصياع بعضهم للغة الإثارية جذبا للانتباه السريع، الانتباه الومضة، وهو ما يؤدى إلى التسطح، وعدم التأمل والتفكير والعمق في إبداء الرأي أو الملاحظة أو حتى السخرية.
18- تفاقم الفجوات الجيلية، بين عقل بعض الكبار فى السن من الكتاب والباحثين، وما بين عقل غالب الشباب، وصغار السن فى الاهتمامات، ونمط الكتابة، ومقاربة الظواهر، وغلبة السرعة الفائقة فى التعبير، وعدم الاهتمام باللغة، ومدى سلامتها، وهو ما أدى إلى غياب الجسور بين الأجيال فى الحياة الرقمية والفعلية والعقلية، وفي الاهتمامات السياسية والثقافية والفنية والموسيقية والأدبية والاجتماعية والاقتصادية…إلخ على وجه العموم.
19- ضعف المتابعة التحليلية للميراث الثقافى للقرن العشرين وتحولاته ومآلاته، وخاصة الثقافة العلمية، وذلك لأن العقل العربى الساعى إلى أقلمة الحداثة على نحو انتقائى، ومبتور، ركز على بعض قضايا وإشكاليات الثقافة العالمة، والمعارف العميقة دونما اهتمام كبير بالثقافة العامة، والشعبية، وردودها على ثقافة النخبة، وخاصة فى أعقاب هزيمة يونيو 1967 إلى ما بعد حرب أكتوبر ثم إلى العقد الأول من القرن الحادى والعشرين، ثم ما بعد الانتفاضات العربية، وتراجعها وعودة موت السياسة. كانت الثقافة من أسفل تبدو فى الموسيقى، والأغانى، ودعاة الاستعراض الشعبويين، بدءًا من أغانى عايدة الشاعر، وليلى نظمى، وأغانى الفرانكوآراب، وفرق البلاك كوتس من خريجى معهد البالية اللذين كونوا فرق للرقص في الملاهى الليلية، وخريجي معهد الكونسرفتوار اللذين عزفوا خلف الراقصات والمنلوجيستات! وفى السبعينيات والثمانينيات طغت سينما المقاولات، ودعاة السوق الدينى الشعبى. ظلت هذه الظواهر موضوعا للهجاء، دون التحليل والكشف عن أسباب نجاحها، وانتشارها وسط قواعد اجتماعية واسعة بما فيها الطبقة الوسطى وتحولاتها. وقد أثرت تحولات الإقليم، والهجرة إلى الخليج سعيا وراء الرزق، والسياحة على هذه التحولات الثقافية.
كانت التحولات العالمية فى مفهوم الثقافة على المستوى الغربي المتقدم وفائق التطور، فى الثلث الأخير من القرن العشرين، هو جزء مما أطلق عليه المؤرخ البريطانى الكبير إريك هوبزبام أزمنة متصدعة، والتحولات الكونية من الثقافة الرفيعة -فنون البالية، والسيمفونيات، والمتاحف والفن التشكيلي والاغاني… إلخ- إلى ثقافة مختلفة، سريعة الاستهلاك. .الخ. مع أغانى البلوز، والكانتري سايد، وغيرها من أشكال الاستهلاك الفنى السريع، وهو ما تماشى مع التغيرات الجيلية وثورة الشباب في 68 في السوربون وباريس وفي كاليفورنيا بيركلي، وانعكاسا للتشيوء الإنساني والإنسان المستهلك فائق الاستهلاك، ومعه تطور الرأسمالية النيوليبرالية الوحشية وتسليع الحياة الإنسانية.
ظهرت قبل هذه التغيرات وتساوقا معها بعض التطورات في صناعة السينما وشركات العلاقات العامة الأمريكية من خلال التداخل بين زمن الصورة الفوتوغرافية، وصناعة النجوم، والعلاقات العامة التى غيرت من صناعة السينما، والصحافة الأمريكية لتغدو جزءًا من حالة السينما، والشهرة الزائفة، وفق كتاب الصورة والأحداث الزائقة لدانيال بورستين، وبدت الشخصيات المشهورة من القرن الماضى ليست سوى شخصيات عادية، وأحيانا مديوكرات، ومنيوكرات لكن حضورهم المكثف فى الأخبار، والصورة الفوتوغرافية والسينما، والتلفاز، وخبراء الإعلان والعلاقات العامة يكفى لأن يكونوا قادرين على الوصول إلى قلب الأخبار وفق بورستين ليغدوا مشهورين.
لا شك أن انتقال صناعة الأخبار الكاذبة والشهرة الزائفة من السوق الأمريكى الثقافى إلى أوروبا، والعالم وتأثرت مصر ببعض من انعكاساتها الجزئية على نحو ساهم فى بروز ظواهر الأغاني الشعبية، وسطوتها مثل ظاهرة أحمد عدوية، وأيضا دعاة السوق مثل الشيخ كشك وغيره، وسينما المقاولات، وأيضا بروز مطربى بعض المحافظات، كالإسكندرية، ومحافظات الدلتا، والصعيد وأغانى النوبة.. الخ. ثم ظاهرة شعبان عبد الرحيم وغيرها فيما بعد في عصر مبارك!
لم تخضع هذه الظواهر للتحليل السوسيولوجى، أو الثقافوى وربطها بالتغيرات الاجتماعية، وظواهرها الجديدة آنذاك، واقتصرت فقط على الإدانات ذات الطابع الأخلاقى والقيمى، الاستعلائي من بعض المثقفين بالمعنى العام الشائع للمثقف مصريًا، وعربيًا.
20- استمرت هذه الظواهر مع الألفية الجديدة، وتمدد النزعة الاستهلاكية المفرطة، والأكل السريع Fast Food، ومعها الأغاني السريعة، والموسيقى السريعة، وكثافة الاستهلاك السريع على النمط الأمريكى، والأوروبى، وتراجع الثقافة العالمة لصالح الثقافة الرقمية مع تراجع مستويات التعليم، وشيوع الرقمنة، والحياة الرقمية، وتحول الأغانى الشعبية فى المناطق الشعبية لتفرض نفسها من أسفل إلى أعلى، وتتمدد بين شرائح الطبقة الوسطى، إلى الوسطى العليا، ورجال الأعمال والأثرياء الجدد، وهى موسيقى وأغانى تعتمد على الإيقاعات المرقصة، وكلمات الهجر، والخيانة بين الأصدقاء والعشاق، وهموم وشجون الفئات الشعبية فى حياتها.
لم تجد هذه الظواهر الجديدة إلا بعض من الانطباعات السانحة دون درس عميق لها مع استمرارية النظرات الثقافوية الموروثة عن الطرب، والشعر الغنائى، وأقانيم الغناء المصرى والعربى وشيوع منطق يعلى من شأن هذه النجوم، ويعتبرها مرجعية فى الغناء والتلحين والشعر الغنائى، وذلك كجزء من هيمنة لمرجعية الماضى، أو ما يشاع عن “الزمن الجميل”، وهو تعبير دال عن ذائقة فنية تشيع بين الأجيال الأكبر سنًا التى تجعل من تجاربها الماضية فى الحياة، والسينما، والتعليم، والموسيقى والحب، والصداقة، والقيم الاجتماعية، هى الزمن الجميل، الذى هو زمنها الذى غادرها.
21- برزت منذ نهاية القرن الماضى فجوات بين السلطة الثقافية الرسمية، وبين بعض المثقفين وبعض المبدعين، الذين اختاروا الهامش الثقافى اللا رسمى دائرة لحركتهم، وخطاباتهم النقدية، وازدادت هذه الفجوات فى ظل سطوة بيروقراطية هذه السلطة وأجهزتها، وتراجع دور، وأهمية أنشطتها، وتمييزها لبعض الموالين دون غيرهم خاصة فى الندوات والمؤتمرات الخاوية إلا من فراغها، وتراجع هيبة جوائز الدولة على تعددها، ورفض بعض الثقاة الترشح لها من أى جهة من جهات الترشيح المقررة.
22- مع الثورة الرقمية، والحياة الرقمية وتمددها فى حياة الجموع الرقمية الغفيرة برزت ثقافة السخرية والتنمر –الدينية والمذهبية والعرقية- ومعها الإساءات إلى الرموز السياسية، وسياساتها، وقراراتها من خلال اللغة الساخرة، وذلك هروبا من جحيم الواقع الفعلى وقيوده إلى حرية التعبير الرقمى واسعة النطاق، سواء على الصفحات الشخصية المعلنة، أو غيرها المرموزة والمتخفية، وغير المعلنة وتحت رقابات شتى في ذات الوقت.
23- من ناحية أخرى، تحول الواقع الرقمى وفضاءاته ومواقفه إلى ساحة سجال حول الهويات الوطنية، والصراخ باسم الإيمان الهوياتى، ورجوع بعضهم إلى هوياتهم الأولية الأفريقية القبلية فى إقليم دارفور، والهوية العربية/ الإسلامية فى قبائل الوسط النيلي، والأمازيغية فى المغرب، والبربرية فى الجزائر، وتمييز ذوي البشرة البيضاء ضد ذوي البشرة السوداء من الأصول الأفريقية في موريتانيا، والهوية المذهبية الشيعية فى مواجهة الهوية السنية، والكردية القومية فى مواجهة العروبة بالعراق، وهوية الشيعة فى مواجهة السنة.
انفجارات الهويات باتت تشجع الانقسامات الداخلية، وعلامة أزمات كبرى فى الدولة والمجتمع العربى لاسيما مع تراجع الفكرة العربية الجامعة، والعروبة الثقافية، فى ظل تنامى استخدامات اللغات المحكية، أو العامية فى البلدان العربية على نحو أدى إلى تمزق وتذري المجتمعات العربىة داخليا. وعلى مستوى العالم العربي أضعف الدول، والأنظمة السياسية، وكرس الاتباعية السياسية لدى الطبقات السياسية الحاكمة، للولايات المتحدة، ودول المجموعة الأوروبية خاصة فرنسا وبريطانيا وإيطاليا.
24- تنامى أدوار دول الجوار الإقليمى فى قلب العالم العربى –إيرن، وتركيا، وإسرائيل- وتوظيفها للصراع العربى الإسرائيلى والقضية الفلسطينية ضد الأنظمة العربية الحاكمة، على نحو ساهم في تراجع الأهمية النسبية لقضية العرب المركزية فى الخطاب السياسى العربى، ولدى الطبقات السياسية الحاكمة، وتنامى التوجهات فى السياسة الخارجية لبعض الدول العربية نحو التطبيع مع إسرائيل، وذلك كبوابة للتعامل مع الولايات المتحدة الأمريكية.
من الشيق هنا ملاحظة أن الفكر العربى الحديث والمعاصر سيطر عليه الخطاب الإيديولوجى اليسارى، والقومى العربى –الناصرى والبعثى- فى إطار مجموعة من الأطروحات الإيديولوجية، والإسلامية فى إطار رؤية دينية مغلقة، وجامدة حول اليهود واليهودية.
قلة قليلة هى التى اهتمت بالدرس البحثى والأكاديمى حول إسرائيل، وتحليل الدولة والمجتمع والنظام السياسى ونظام السياسة الخارجية، والثقافة والإنتاج التقنى والبحث العلمى، والنظام الاقتصادى والاجتماعي، والمستوطنات، والمنافسات بين الأشكناز واليهود السفارديين…إلخ.
من هنا رغم الثورة الرقمية والاتصالية تباعدت المسألة الصهيونية، ودراسات إسرائيل بعيدا عن اهتمامات الفكر العربى الراهن إلا قليلا جدا، وباتت تشكل منطقة معتمة. من ناحية أخرى، غابت الدراسات حول أوضاع الفلسطينيين فى غزة والضفة بعد أوسلو، وفى فلسطين 1948.
ثمة تهميش للمسألة الإسرائيلية، والفلسطينيين فى العقل العربى منذ أوسلو، وإلى الآن، باستثناء بعض المتابعات البسيطة للانتفاضات الشعبية ضد الاحتلال، والعدوان المتكرر على قطاع غزة والضفة الغربية، وباستثناءات بسيطة بعض المتابعات الصحفية والإعلامية للمنظمات الإسلامية الراديكالية كحماس والجهاد الإسلامى.
25- منذ العقدين الماضيين من الألفية الجديدة، ركز العقل العربى على بعض القضايا السياسية داخل كل بلد ومجتمع عربى، سعيا نحو الإصلاح السياسي، وهو ما كرس غياب الدراسات المتخصصة عن الدول والمجتمعات العربية، وأنظمتها السياسية والاجتماعية فى العمق. وبات بعض العقل العربى غائبا –إلا نادرًا- عن معرفة غالب البلدان العربية، وتغيراتها الداخلية، والاستثناءات محدودة.
26- الدراسات العربية حول إيران، وتركيا لا تزال محدودة تماما على الرغم من تأثيرها على بعض الدول والمجتمعات العربية كسوريا، والعراق، واليمن، والبحرين، ولبنان، وقطاع غزة.
هذا التغير يشكل نكوص العقل العربى الراهن، عن الاهتمام والدراسة لهذه الدول، بقطع النظر عن المقالات الصحفية والرقمية السريعة التى تعلن على بعض الأحداث، وغالبا ما تعكس السياسة التحريرية للصحيفة، أو المجلة، أو الموقع الرقمى، ومموليه.
27- غالب العقل العربى السياسى عمومًا غائب عن الدرس الأكاديمى والبحثى المتخصص فى أقاليم العالم، سواء فى الدوائر الإقليمية القريبة من الجغرافيا السياسية العربية، أو فى أوروبا، وآسيا، وأمريكا اللاتينية، وأفريقيا، واستراليا، حيث لا توجد مراكز دراسات متخصصة إلا قليلا، وغالبا تركز على السياسات الخارجية، أو بعض من الجوانب الاقتصادية، أو العسكرية، إلا أن ثمة غياب لثقافات هذه المجتمعات، وتراكيبها الاجتماعية والعرقية والقومية واللغوية، ونظمها السياسية، وتاريخها الحضارى –بعض الترجمات تركز على الروايات، وبعض الشعر، والمجموعات القصصية- من ثم يغدو العالم وثقافاته فى أعماقها لا تزال مساحات غامضة، وبعضها معتم فى غالب العقل العربى الراهن.
صحيح أن العقل العربى، والعقل الأوروبى والغربى -والأفريقى والآسيوى واللاتينى- فى علاقاته وتفاعلاته مع كافة ثقافات العالم، لا يعنى التخصص فى عديد المجالات، وهذا أمر مفهوم، إلا أن هذا الغياب عن التخصص فى هذه المناطق الجيو – ثقافية، والجيو – سياسية، والجيو – دينية يؤثر على طرائق إدراك العالم، وفهمه، ومن ثم كيفية الحوار والتعامل والتفاعل الخلاق معه. الأهم أن معرفة وفهم العالم –على نحو تخصصي أو عام- يؤدى إلى تخصيب العقل العربى، بموارد معرفية متجددة، وإلى بعض الاستعارات الثقافية، أو التقنية التى تثرى التعدد فى الثقافات العربية. الغياب، أو المعرفة العامة والمشوشة وشيوع خطابات غير المتخصصين، تؤدى إلى حالة من الاضطراب، وعدم إدراك العالم وثقافاته وسياساته على نحو موضوعى، مما يؤدى إلى تشوش صور العالم وسياساته فى بعض العقل العربى، وإدراكاته للواقع الموضوعي وتحولاته الكونية.
28- يبدو أن الانكسار، وهزيمة العقل العربى –والاستثناءات محدودة جدا بل نادرة- أدت إلى الحياة فى النوستالجيا الماضوية والتاريخية، متمثلة فى النكوص النقلى إلى السرديات الدينية التاريخية القديمة –الإسلامية والأرثوذكسية المسيحية المصرية، والسريانية والآرامية-، أو إلى الشروح على الشروح الماركسية، وبعض من نثارات الفكر الليبرالى لاسيما القانونى لا الفلسفى، مع نزعة إيمانية تبدو فى الإيمان الدينى والمذهبى، والإيمان الماركسى، والإيمان الليبرالى، والإيمان الناصرى، والإيمان البعثى. هذا النمط سبق أن وصفناه فى مفتتح كتابنا المصحف والسيف صراع الدين والدولة فى مصر -الناشر مكتبة مدبولى القاهرة في عام 1984– بأنها سلفيات متعددة تتمدد فى الواقع الثقافى، والسياسى المصرى، وأبرز سماتها ندرة من أطلعوا وتعلموا، المتون التأسيسية للماركسية والليبرالية، وتطوراتها فى مهادها، وخارجها، وما بعدها.
مرجع ذلك هذا النمط النقلى الشائع لدى بعضهم، والشروح على الشروح بعيدًا عن معرفة، ونقد الأصول التأسيسية لهذه الفلسفات التى تحولت إلى إيديولوجيات، وسلفيات مؤدلجة، شكلت سياجات حول كل سلفية، وخاصة الحديثة، والمعاصرة، على نحو أدى إلى إدراكات وتخييلات مثالية مفصولة عن الواقع التاريخي الموضوعي فى مصر، وعديد البلدان العربية، ولا تزال بعض من أصداءها الخافتة تبدو فى خطابات بقايا جيل السبعينيات، وبعض الأجيال اللاحقة حتى العقد الأول من القرن الحالى، وترددت بعض من شعاراتها الخشبية فى ميدان التحرير، وشارع الحبيب بورقيبة فى الانتفاضات العربية الجماهيرية فيما سمى مجازًا بالربيع العربى، وكانت تمثل إحدى علامات الانفصال عن الواقع المتغير والأجيال الشابة الجديدة.
29- عقل عربى، تسيطر على بعضه أحكام القيمة والطوبويات الوضعية الأخلاقية، فى النظر إلى الأفكار الوافدة، أو المحلية، لاسيما مع تمدد الحركة الإسلامية السياسية والسلفية، وقمع الأفكار الحرة والنقدية –والاستثناءات محدودة- وفرض القيود على حريات الرأى والتعبير، والضمير، والبحث الأكاديمى والاجتماعى.
ثانيا: من التوهان التاريخى إلى الاستقالة عن متابعة المستقبل
1- “التوهان التاريخي” –وفق أنور عبدالملك- هو وصف مجازى لحالة التفكير السلطوى المسيطر فى الحالة المصرية في عصري السادات ومبارك، وهو ما ينطبق على غالب العقل العربي عموما -ودائما ثمة استثناءات مقدرة- وهو ما يعبر عن حالة التوهان فى التاريخ، وينطوى على اجتزاءات، وتحيزات، وإقصاءات، واستبعادات لرموز وشخصيات ووقائع تاريخية وذلك لصالح وضعية التحيز، والنظرات الأحادية الإيديولوجية، والدينية، والعرقية، واللغوية، والعشائرية، والقبلية، والعائلية، فى كتابة تاريخ البلدان العربية. هذا أدى إلى إنتاج حالة من التحيز وعدم الموضوعية فى كتابة تاريخ البلدان العربية وهوياتها من المنظور السلطانى والجمهورى الحاكم، وخاصة بعد الدولة الكولونيالية، وبعض تاريخها كتبه المستشرقون من منظوراتهم المتحيزة فى الغالب أيضا. كذلك، أدت حالة التوهان إلى تحيزات، والأخطر الانقسام حول موحدات كل بلد، وهويته وانفجارها إلى هويات انقسامية. والأخطر ظهور تواريخ وهويات انفجارية متعددة حول مكونات كل مجتمع، على نحو أدى إلى نمط من محاولات بناء هوية وتاريخ لكل مكون داخل المجتمعات العربية. لا شك أن ذلك أدى إلى نزوع بعض من العقل العربى إلى الانحياز إلى التحيزات التاريخية والهوياتية للسلطة، وراح يسوغ ويبرر ويمنطق تحيزاته اللا تاريخية واللا موضوعية في اختياراته ومجازاته المفرطة لتاريخ بلاده وعلى هواه، وبعد وفاته يتم احداث تغييرات في كتب التاريخ المقررة في المدارس!
بعضهم الآخر ذهب وراء عرقه، أو طائفته، أو دينه ومذهبه، أو لغته، وراح يصوغ تاريخًا آخر، من منظور تحيزاته على نحو جعل تاريخ كل بلد وهوياته موضوعا للصراعات الضارية على التاريخ وبه، داخل المجتمعات الانقسامية.
حالة “التوهان التاريخي”، والصراع الهوياتى، والتشوش ساهمت فى توترات فى الفكر العربى، منذ هزيمة يونيو 1967، وما بعد حرب أكتوبر، وثورة عوائد النفط، ثم انهيار حائط برلين، وسقوط الإمبراطورية الماركسية بقيادة الاتحاد السوفيتى، وتفككها، وتحول العالم إلى الرأسمالية النيوليبرالية، باستثناء نسبى حول الصين، وكوريا الشمالية. تغير العالم، وشاع الاضطراب، والصراع، والقلق، وعدم اليقين، والأخطر أن هذه الحالة أدت إلى حالة من العقل المستقيل -إذا شئنا استعارة جورج طرابيشى- عن مواجهة مشكلات وأزمات وظواهر الواقع إلا قليلا، خاصة فى ظل حالة من الركود السياسي. وبات “العقل المعتقل”، وفق تشيسواف ميووش، سمت الحالة العقلية الغالبة مع استثناءات محدودة. أدى الركود السياسى إلى سطوة عقلية الشعارات والنشطاء السياسيين والحقوقيين والتداخل فيما بينهم، وتحول غالب الخطابات السياسية إلى خطابات إيديولوجية قديمة، وشعاراتها، وأيضا إلى خطاب حقوقى مهجن بالسياسى، وموظف سياسيا من بعض بقايا الأحزاب السياسية الشيوعية السرية، والتى كانت محجوبة عن الشرعية السياسية والقانونية كما فى الحالة المصرية.
2- العقل السياسى العربي ذهب غالبه إلى الخطاب الحقوقى، دونما درس لأسسه التاريخية والفلسفية وتطوراتها ووظائفه المستقلة من الخطاب السياسى الإيديولوجى، ومن ثم ظل خطابا دعويا مثله مثل الخطابات الدينية الإسلامية السياسية، والسلفية، مع عمومية هذه الخطابات الشعاراتية التى ذهبت إلى مخاطبة الجهات الممولة، وأيضا إلى مخاطبة بعضها بعضًا. الأهم أن هذه الجماعات الحقوقية، أدت بسبب التمويل الأجنبى –الغربى أساسا- إلى ولادات مستمرة من داخلها لجمعيات حقوقية جديدة بحثا عن التمويل..إلخ.
3- الخلط بين الناشط الحقوقى والداعية الإيديولوجى كان سمت بعض العقل المصرى والعربى المسيطر، وهو ما أدى إلى المزيد من الاضطراب والتشوش حول الأدوار والمجالات والأنشطة فى المجال العام. تفاقم هذا الخلط فى انتفاضات الربيع العربي، وانخراط النشطاء الحقوقيين، كنشطاء سياسيين فى العمليات السياسية وبعض المناورات، والتوافقات مع الإخوان المسلمين فى مصر، والنهضة فى تونس، والسلطة الفعلية فى كلا البلدين، وذلك على نحو كاشف لإزدواجية وخلط فى الأدوار لأن بعضهم كشف عن وجهه السياسى المؤدلج، ومصالحه السياسية بعيدًا عن دور الناشط الحقوقى.
4- منذ عقدى الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين، بدأ دور الداعية الدينى فى الصعود إلى المجال العام الفعلي، والمجال العام الرقمى على استحياء، وذلك كنتاج للسياسات الدينية فى العالم العربى التى تعتمد على دعاة السلطة الدينية التابعة فى تديين المجال العام، وأيضا تديين الدعاة والجماعات الإسلامية للمجال الخاص، وخاصة تركيزهم على نظام الزى للمرأة، والرجل، والحجاب ثم النقاب والإسدال مع الحركة السلفية، واللحى للرجال، وتديين خطاب الحياة اليومية، بهدف التمدد والترميز الدينى لحياة الجموع الغفيرة.
بات الداعية الدينى هو الموجه والمرشد للحياة العامة. تمددت وظيفة الداعية الدينى والأخلاقى السلفى إلى أعداد غفيرة من الجموع الغفيرة سعيا لبناء المكانة الاجتماعية فى الوسط العائلى، أو جماعة الرفاق، أو زملاء العمل، أو بين الجيران، أو من خلال “دعاة الطرق” بتعبير العميد د. طه حسين.
انتقلت هذه الوظيفة إلى الدعاة الرقميين على الحياة الرقمية، وبرزت وظيفة تديين الحياة الرقمية، وهو مسعى نجده لدى بعض رجال الدين المسيحيين وأتباعهم ونشطاء المذاهب الدينية المسيحية الشرقية على الواقع الرقمي.
5- صمت ونهاية المثقف وأدواره النقدية وفق ما ساد فى المرحلة شبه الليبرالية فى مصر، وأيضًا بعد يوليو 1952، وكانت ذروة هذا الدور منذ عقد التسعينيات والعقد الأول من الألفية الجديدة وفى الحركة الاجتماعية إلى 25 يناير فى مصر، والحركة الجماهيرية فى تونس ضد نظام بن على. فى ظل حكم النهضة فى تونس ارتفعت أصوات المثقفين التوانسة، إلا أن تشكلات المجموعات السياسية أدت إلى عديد المشكلات لكن لا يزال هذا الصوت النقدى قائم إزاء النهضة، وحكم الرئيس قيس سعيد. فى الحالة المصرية تراجع هذا الدور، وصممت غالب المثقفين، مع الثورة الرقمية، وبروز أجيال جديدة تهتم بورش كتابة الرواية والقصة والاهتمام بالصورة الومضة على وسائل التواصل الاجتماعى..الخ! وبعض الخطاب الأيديولوجي والديني لبعض المعارضين.
6- أدت الثورة الرقمية، وفضاءاتها الحرة إلى التأثير على طبيعة الثقافة الفعلية، من خلال الحريات الواسعة، ودخول الجماهير الرقمية، والفعلية الغفيرة إلى مجال إبداء آراءها، وانطباعاتها فى كل الأمور أيا كانت من السياسة، إلى الأغانى، والموسيقى، وإطلاق الحكم والآراء الأخلاقية، والدينية، والمذهبية، والسينما، وسرادقات العزاء الرقمية، واحتفالات أعياد الميلاد، والجميل والقبيح، والخير والشر..الخ!
لا شك أن هناك حالة من حالات النكوص من متابعة وتحليل الاتجاهات، وخطابات المنشورات، والتغريدات، والصور الومضات، و”الفيديوهات الطلقة” على الواقع الرقمى، وثمة استثناءات لكنها لا تزال محدودة نسبيًا.
7- حالة انكشاف للذوات الرقمية وبعض الفعلية، وتحول فى الكتابة وأساليب التعبير، واللغة المحكية فى كل بلد، أو منطقة داخلها، ولا تزال الدراسات السوسيو- رقمية نادرة، وذلك على الرغم من أن الفضاءات الرقمية، وعالم البيانات الضخمة، تمثل مادة لدى الشركات الرقمية لإعادة تشكيل الذوات الفعلية، والرقمية معا فى كل شئ، وتحول الجموع الغفيرة الرقمية إلى أشياء استهلاكية. التشيوء الإنسانى أصبح رقميا، وفعليا، وهذه الجماهير الرقمية الغفيرة تحت رقابات شتى.
8- تمدد ظاهرة الرقابات المتبادلة فيما بين بعض المجموعات والأشخاص وبعضهم بعضا، وخاصة فى حالة المجموعات الرقمية المنظمة أو أيضا ما يطلق عليهم “الكتائب الرقمية” أيا كان من وراءها فى الواقع الفعلى أو الرقمى، أو لاختلافات فى الرأى، أو الدين أو المذهب، أو الرأى السياسى، أو الانتماءات الوطنية أو العرقية أو القومية..الخ.
ثمة أيضًا الرقابات الأمنية والاستخباراتية من بعض الدول على بعضها، ومن بعض النظم والسلطات السياسية على مواطنيها أو غيرهم من نقاد سياساتها، أو شخصيات عامة فى دول أخرى، وذلك من خلال برامج رقابية تم شراءها من بعض الشركات الرقمية المتخصصة، مثلما حدث من بعض الدول العربية، وأدى إلى مشكلة بين المغرب وفرنسا، بسبب متابعة حسابات بعض العاملين قى قصر الإليزية!
رقابة الأخ الأكبر (Big Brother) الشخصية الخيالية فى رواية جورج أورويل 1984 الحاكم الغامض لأوشيا الدولة الدكتاتورية، والتى توظف كمعادل للقمع، واستخدام السلطات لصلاحياتها فى العسف بالحريات والحقوق الشخصية، وخضوع القاطنين لأنظمة المراقبة على نطاقات واسعة، والتحكم فى السكان ومن ثم انتهاك الحريات العامة والشخصية وخرق الدساتير والقوانين. رقابة الأخ الأكبر لم تعد قصرا على رقابة النظم التوتاليتارية، والتسلطية، وإنما أصبح هناك “الأخ الأكبر الرقمي” الذى يملك البيانات الضخمة Big data ويتمثل فى الشركات الرقمية العملاقة، التى تملكها، وتبيعها إلى الشركات والدول فى جميع المجالات.
9- هذا العالم الجديد من أنظمة الاستثناء باتت فى كل الدول والأنظمة السياسية بما فيها الديمقراطية، فى متابعتها للأشخاص والمجموعات والمنظمات الإرهابية، والجنائية، والمهربين للمخدرات، والهجرة غير المشروعة، وفى الظروف الاستثنائية بما فيها الجوائح مثل فيروس كرونا المتحور وما تم خلالها من إجراءات استثنائية.
السؤال الذي نطرحه هنا: أين العقل العربى من متابعة التحولات فى الواقع الرقمى وأثره على حرية العقل والتفكير والبحث والضمير، والأهم ثنائية الحرية الرقمية، والرقابة الرقمية؟
من الشيق ملاحظة أن بعض من يطلق عليهم “مجازا” مثقفين، وأكاديميين توجهوا إلى الواقع الرقمى ليغدو جزءًا من جموعه الغفيرة، وأثر ذلك على طرائق بعضهم فى التفكير، وشاعت لديهم التعليقات الوجيزة جدا، والصورة الومضة، والإعلان عن نشاطاتهم، وحياتهم وندواتهم، ومشاركاتهم عبر الصور الومضة.
لا شك أن ذلك يعبر عن محاولات بعضهم الحضور فى الحياة الرقمية، وإثبات لذواتهم والسعى نحو الذيوع، والاستمرارية للأجيال الأكبر سنا عبر عرض صور أغلفة الكتب، والبحوث المدرسية/ الجامعية، وصورهم أثناء مناقشات الأطروحات الجامعية، ويقودهم فى ذلك كتاب الرواية، والقصة القصيرة، والشعراء، وتسيطر على بعضهم المشاركة فى الـ Trends، ويقلدون المطربين والمطربات، والممثلين والممثلات.
لا شك أن ذلك أدى إلى تراجع هيبة المفكر والمثقف فى الغالب إلا قلة قليلة جدًا.
10- أدت الثورة الرقمية إلى ازدواجية الحياة بين الفعلية والرقمية، والتفاعلات بين كليهما، وتأثير بعضها فى الآخر، وخاصة فى مجتمعاتنا العربية، وقيود الواقع والسياسة والأمن على العقل الحر والنقدي، والحريات العامة والشخصية، على نحو أدى إلى تحول الحياة الرقمية إلى حياة كاملة، إلا أن الملاحظ أن العقل الجمعى للجموع الرقمية الغفيرة، أدى إلى انفجار الكذب، والنميمة، والاستعراضات، وسطوة اللغة الأخلاقية والدينية الموروثة، وتحول الحياة الرقمية إلى مجال للاحتساب الدينى، والرقابات الوثيقة على الآخرين. وانتشرت ثقافة النميمة، والفضائح الشخصية، وكشف المستورات الأسرية، وبين الخاطبين والمتزوجين منهم/هن لاسيما من الممثلين والممثلات والمطربين والمطربات، ولاعبى الكرة والمدربين، ورؤساء الأندية الرياضية.
بات التدين أحد أدوات الحضور، وإثبات الذات، وبناء الشهرة، ومحاولة الاستمرار فيها بعيدا عن الأعمال الفنية والموسيقية، والتمثيلية والسينمائية، من خلال الاستعراضات الجسدية، ونظام الزى، والغرابة فى تصميماته، وبعضها يتماثل مع زي مجتمع الميم الغربى –لمثلى الجنس، ومزدوجى التوجه الجنسى والمتحولين جنسيا.
هذا النمط من أنماط نظام الزى يوظف من بعضهم فى إنتاج الغرابة، والاختلاف، على نحو ينتج الإثارية لدى الجماهير الرقمية الغفيرة، ويفتح الباب إلى الجدل، والخلاف الذى يؤدى إلى صناعة الترند (Trend).
تبدو النميمة وكشف الأسرار الزوجية وعلاقات الرفقة، وما تنطوى عليه من ادعاءات متبادلة وأكاذيب، وإنتاج الترند، مصحوبا بالصور المثيرة للنساء.
11- أظهرت الحياة الرقمية، وخطابات المنشورات والتغريدات، والانستجرام المرئي، وغيرها نشوء لغة رقمية، وسلوكيات رقمية، تدور حول القراءة الومضية السريعة، والصور الومضية والفيديوهات الطلقة، وكلها تشير إلى سرعة بناء الانطباعات، واستهلاك المواد الرقمية، فى سطحية دونما تعمق وإعمال العقل، والنظرة النقدية للأمور فى الغالب الأعم، والاستثناءات محدودة – الأهم أن ذلك انتقل إلى بعض الباحثين والمثقفين –وفق المعانى الشائعة وغير الدقيقة، وبعض رجال الدين وأصبحت لغتهم تميل إلى الاختصار، واللغة السجالية والسخرية، وبعضهم يركز على خطاب المنشورات فى استعادة بعض مما يعتقد أنه بعض من انجازاته فى نزعة نرجسية مفرطة، وخاصة بعض الأكاديميين والأدباء والباحثين.
12- بعض الأكاديميين ذهب إلى كتابة الروايات –بقطع النظر عن قيمة بعضها الفنية والجمالية- وذلك سعيا وراء الجرى نحو طوفان الإنتاج الروائي الذى يسود منذ عقد التسعينيات من القرن الماضى، وطيلة العقدين الماضيين من الألفية الحالية. وبعضهم الآخر ذهب إلى كتابة المقالات الأقرب إلى لغة التواصل الاجتماعى.
أدت اللغة الرقمية إلى التأثير على بعض العقل السياسى، وخاصة منذ منتصف العقد الأول من القرن الحالي، من خلال الميل إلى بعض من الخطاب السجالى العام، في نقد السياسات العامة للدول والطبقات السياسية الحاكمة، من خلال خطاب شعارى عام يصلح لكل نظام، وكل مرحلة تاريخية، ويحمل يقينا بكفاءته النقدية، وامتلاكه الملكات والمهارات لحل المشكلات والأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.. إلخ، وهو يصلح لكل مرحلة، وكل أزمة، لكنه لا يمتلك لا القدرة التحليلية والنقدية خارج السجالات الخشنة على تفسير أو تحليل أي شيء!
لا شك أن خطاب المنشورات والتغريدات والفيديو الطلقة جاء في الغالب حاملًا حالة من التسطح، وضعف القدرة التحليلية -وثمة استثناءات في هذا الصدد- والملكة النقدية، والمنهجية، والاعتماد على المعلومات، وهى أمور أدت إلى تراجع مستوى الجدل العام والحوار بين الباحثين والأكاديميين والمثقفين، وهى ظاهرة في تزايد وتفاقم. المثير أن بعضهم بات يرى أن الحضور في الحياة الرقمية، وخطاباتها السريعة ولغتها الوجيزة، والسجالية والإثارية والساخرة أهم من كتابة مقال أو بحث أو كتاب. بعضهم يوظف الحياة الرقمية في الترويج للكتابات من خلال نشر صور الغلاف، وحفلات التوقيع، والصور مع بعض الحاضرين، أو الشخصيات المعروفة في الحياة العامة الفعلية والرقمية.
13- أدت الحياة الرقمية إلى ظاهرة بناء الجماعات أو العصب الرقمية في السياسة على أسس حزبية أو سياسية أو دينية ومذهبية، وهو ما يطلق عليه في تعبير شائع “كتائب اليكترونية -دينية أو سلطوية”، وهو وصف مُحمل بتحيزات مسبقة. أدت هذه الجماعات والعصب الرقمية إلى تحول غالبُ العقل الرقمى إلى عقل متحيز، وبسيط، وسطحى، سواء في إنتاج الشعارات والكلاشيهات، و”اللغة الخشبية” وفق التعبير الفرنسي، أو “الكلام الساكت” وفق التعبير السودانى الذائع. يمكن أن نطلق عليها “لغة الفراغ”، أو “اللغة الجوفاء”، لغة رحلت عنها دلالاتها، والأهم أن هذا النمط من الأساليب اللغوية، يبدو عاريا من البلاغة، وباتت أقرب إلى لغة اليومى الرقمية الأقرب إلى ما يمكن أن نطلق عليها لغة الخلط بين العامية وبقايا مشوهة ومشوشة للغة الفصحى، بكل أثر ذلك على تراجع مستويات اللغة العربية وبلاغتها. تراجع الاهتمام بالكتابة الفصيحة وجمالياتها لصالح هذه اللغة الرقمية المهجنة، التي باتت تسيطر على الخطابات الرقمية بما فيها خطاب بعض “المثقفين”، والمتعلمين، وبعض الأكاديميين.
14- ظهور جماعات ضغط رقمية، في بعض القضايا السياسية والدينية والمذهبية، وبعضها يؤثر على القرارات الحكومية اليومية، ويشير إلى أن بعض الأخطاء في القرارات الرسمية، أو السياسات العامة، أو بعض الأمور التاريخية والتقنية التي تتجاوزها هذه القرارات -مثال هدم مقابر الأمام الشافعى التاريخية…إلخ- وبعضها قد لا يؤثر على متخذ القرار.
لا شك أن هذا النمط الجديد سيؤدى إلى تغيير في النظرية السياسية، والمؤسسات السياسية، والأحزاب. بعض جماعات الضغط الرقمية، تشكلت من خلال الدعوة لمواجهة سياسة من السياسات العامة، أو قرار من القرارات، ومثالها تشكل جماعة السترات الصفراء -من الطبقات الوسطى الصغيرة والوسطى-الوسطي الفرنسية- للاحتجاج على ارتفاع أسعار بنزين السيارات، ثم الاحتجاج الجماهيري على عدم تغيير قانون رفع سن الإحالة للتقاعد وعدم تخفيضه. وأيضًا الاحتجاجات ضد تجاوزات الشرطة الفرنسية في الضواحى، ومقتل شاب فرنسى من أصول جزائرية.
من ثم تبدو جماعات الضغط أكثر تأثيرًا من بعض الأحزاب السياسية، التي وهنت مع بروز ظاهرة الأيديولوجيا الناعمة في عقد السبعينيات Soft ideology، وتراجع أحزاب اليسار.
لا شك أن جماعات الضغط الرقمية باتت مؤثرة، وتشكل مصدرًا من مصادر إحداث التغيير في بنى الديمقراطية التمثيلية ومحاولة دمج الديمقراطية المباشرة في إطارها، واللجوء إلى الاستفتاء في بعض القوانين الحساسة الماسة بحياة الجماعة الناخبة، وعدم انتظار الانتخابات البرلمانية، أو الرئاسية. بعض جماعات الضغط الرقمية تساهم في بعض الأحيان في الإفراج عن بعض المعتقلين السياسيين، أو المحكوم عليهم في بعض القضايا السياسية.
15- أحدثت ظاهرة الجوائز العربية السخية من بعض دول اليسر العربية، لاسيما في مجال الرواية والقصة والشعر وبعض الكتب الفكرية، والترجمة حراكا واسعا في سوق النشر للروايات، وبعض ترجمات كتب الفلسفة الغربية، إلا أن إمعان النظر في نتائج هذه المسابقات، تشير إلى حالة من إعادة التوجه داخل الفضاءات الثقافية العربية، إلى السرود الروائية -من كتاب القصة والمسرح والشعر- وإلى فيضان من السرديات الروائية السطحية والتي تفتقر إلى الموهبة الحقيقية، وملكة التخييل، ومهارات البناء الروائى، والأساليب اللغوية المبتكرة، وغير النمطية.
يمكن القول إن الدافع لكتابة الروايات من كثيرين، هو التقدم إلى هذه الجوائز للحصول عليها، وخاصة من مئات كتاب الرواية الشباب، ومن هم في أواسط العمر وبعض كبار السن.
لا شك أن هذا النمط من الكتابات التي تفتقر إلى تقنيات الكتابة الروائية، في بنياتها، وتخييلاتها، وأساليبها تشير إلى سطحية التجارب الوجودية، ونقص الموهبة والتكوين المعرفي، وضعف المهارات الأسلوبية والتخييلات الاستثنائية.
الأخطر أن بعض لجان التحكيم تلجأ إلى تدوير الجوائز عربيا بقطع النظر عن المعايير النقدية، وغالبا ما يتم نسيان بعض الأعمال الفائزة، ومؤلفيها بعد ذلك.
16- بعض الكتاب/ الكاتبات، يلجأون إلى توظيف الحياة الرقمية، وتشكيل جماعة ضغط من أصدقائهم والموالين لكتاباتهم، وبعض جماعات نوادى القراءة، في الترويج لبعض الأعمال المقدمة إلى هذه الجوائز، بهدف الضغط على لجان التحكيم، وهو ما لم ينجح في الغالب، لكن هذه الظاهرة باتت أحد ملامح الحياة الأدبية الرقمية، وعالم الجوائز العربية السخية. لا شك أن هذا التوجه لممارسة الضغوط، ودعم كاتب أو كاتبة للحصول على هذه الجائزة أو تلك من خلال آليات للترويج. بعض النقاد المدرسيين دخلوا في ممارسة الضغط لصالح بعض الكتاب والكاتبات، ومديح كتاباتهم، بقطع النظر عن أهمية هذه الأعمال الروائية وجدارتها بالجائزة.
17- ثمة ولع بعض الكتاب والكاتبات من الروائيين نحو الترجمة إلى اللغات الأجنبية، وهناك من تُرجمت أعمالهم إلى الإنجليزية والفرنسية والإيطالية والإسبانية والألمانية، لكن لا يوجد حضور بارز للروائى/ الروائية العربى في الحياة الأدبية الكونية إلا قليلا جدا من حيث الحضور في سوق النشر، والأهم السوق القرائى. نجيب محفوظ بعد نوبل ثم تراجع، وجمال الغيطانى بالفرنسية، وعلاء الأسوانى بعد رواية عمارة يعقوبيان.
مرجع ذلك أن الترجمات إلى اللغات الأجنبية تعود إلى بعض المنح الأجنبية المخصصة لترجمة بعض الروايات عن العربية، وذلك للباحثين في شئون المنطقة العربية، ودارسي المنطقة الشرق أوسطية، ولذلك تُطبع أعداد محدودة من هذه الروايات. من ناحية ثانية. فإن المشكلة تكمن في غياب التجارب الأدبية العميقة ذات الطابع الذى يمس الشرط الإنسانى الوجودى، وأيضا ذات خصوصيات مشرعة على الإنسانى والكونى، وليست محضُ عالم من التفاصيل المحلية -في القرى أو البوادى أو المدن الصحراوية أو المدن المريفة- التي يستغرق فيها كاتبوا الروايات في تفاصيل محلية ضيقة بحثا عن غرابة ما! هذه النظرات الروائية المحلية وخصوصياتها ربما لا تهم القارئ العادى، على الرغم من شراءه روايات أمريكا اللاتينية والواقعية السحرية، والتجارب الروائية الأفريقية، والآسيوية، وكتابات الروائيين من الأجيال المهاجرة إلى أوروبا، وازدواجية عوالمهم الروائية.
18- بعض الفكر الفلسفى والسوسيولوجى والنقدى العربى لا يزال جزءًا من الدرس الأكاديمى المدرسى، ومستوياته في تراجع في غالب الجامعات العربية وهناك استثناءات، وهو في الأغلب الأعم لا يعدو سوي نقل عن المصادر الغربية، وتراجعت محاولات التفلسف العربى، أو الكتابة الفكرية باللغة العربية على نحو ما كان سائدا في الماضى، من محاولات صياغة فلسفات تتلائم مع الأوضاع العربية، مثل عثمان أمين، ومحمد عزيز اللحبابي، وعبدالرحمن بدوى، ولا توجد كتب فلسفية وفكرية عربية باللغات الأجنبية، وأحدثت أثرًا في الفكر العالمى، بعض الاستثناءات كُتبت بالفرنسية مباشرة مثل بعض كتب عبدالله العروى وكتابه الأول الأيديولوجية العربية المعاصرة الذى صدر بالفرنسية قبل هزيمة يونيو 1967 ثم ترجم بعدها بسنتين، وأثر على عدد من العقول النابهة في العالم العربى على قلتهم، من حيث جدة المقاربة التاريخية والفلسفية. على وجه العموم لم يؤثر في الفكر العالمى المعاصر من عالمنا العربى سوى إيهاب حسن في النقد الأدبى لما بعد الحداثة، ويعد المرجع العلم في هذا الإطار، وأنور عبدالملك، وسمير أمين، ومصطفي صفوان في المدرسة النفسية اللكانية وسامي على والجماعة المصرية في التحليل النفسي في فرنسا، واللبناني المصرى جورج قرم وكتبه بالفرنسية.
19- بعض من الباحثين المصريين والعرب في مجال الاجتماع السياسى، والعلوم السياسية تعد أعمالهم في الظواهر الإسلامية السياسية، وجماعات العنف، مصدرًا من مصادر الدراسات الغربية في هذا الصدد. بعض الباحثين لديهم كتاباتهم بالإنجليزية، والفرنسية مثل بهجت قرني ومحمد سيد أحمد وكتابه “بعد أن تسكت المدافع”. وهناك دراسات اقتصادية حول العالم العربى، ومصر مثل جلال أمين. عموما قد تكون مصادر لدراسة خبراء المنطقة في أوروبا، والولايات المتحدة إلا أن تأثيرها ليس كبيرًا.
باستثناء إيهاب حسن وأنور عبدالملك، وسمير أمين، ومصطفي صفوان لا نستطيع القول إننا مؤثرين في الفكر العالمى.
ثالثًا: الأناسة الروبوتية، والذكاء الاصطناعى التوليدى: صدمات القطيعة مع عالم المابعديات
ثمة خفوت في الأطروحات التي تُقدم لتفسير التخلف العربى التاريخى، وتراجع الأطروحات التي قُدمت في هذا الصدد وآخرها مشروع محمد عابد الجابرى، وردود جورج طرابيشي حولها. مع ذلك تبدو هيمنة النظرات البسيطة التي تتمركز حول ثنائيات الماضى الضدية، أو بعض محاولات الخروج منها على نحو جزئى من بعض العلمانيين -لكن علمانية دونما فلسفة أو رؤى تاريخية- علمانية شعاراتية في الغالب تميل إلى الفصل بين الدين والدولة بهدف تحييد الدين في الصراع السياسى والاجتماعى. نمط من العلمانية البسيطة، التي ترتكز على مجموعة شعارات سياسية في الغالب الأعم، سواء من بعض الأجيال القديمة، أو بعض من الأجيال الشابة في العقدين الماضيين من الألفية الحالية.
لا يزال العقل الدينى النقلى وأتباعه يدورون فى مقاربات الماضى التاريخى للسرديات الوضعية حول الإسلام، ونادرة جدا أية مقاربات نقدية وتاريخية حول السرديات المسيحية الشرقية على اختلافها.
ومن الملاحظ تراجع المتابعات والمراجعات لتطورات الفكر العالمى لا سيما الغربى، وأيضا الفكر الآسيوى في الصين، وكوريا الجنوبية، وسنغافورة واليابان والهند.
من المثير أيضا الغياب النسبى عن تحولات عالمنا وقضاياه الجديدة البيئية، والاحتباس الحرارى، والفيروسات المتحورة، والتحول إلى عصر الأناسة الروبوتية، وما بعد الإنسان.
في عصر الحياة الرقمية، يبدو غالبُ العقل الجمعى في البلاد العربية أسيرًا لتفاصيل حياته، ومشكلاته، وأخباره الكاذبة، والسطحية أو بعض الحقيقية والمشوهة، والميل إلى انكشاف الخصوصية، والتريندات حول فضائح وأسرار وخلافات بعض المشاهير من المطربين والمطربات والممثلين والممثلات، ولاعبى كرة القدم، ورؤساء الأندية وآخرين. عالم يبدو مفتوحا على مصراعية، لكن العالم العربى وحياته الرقمية تدور في دوائر شبه مغلقة.
مرجع ذلك يعود بعضه إلى ما يلى:
1- في عصر الرقمنة، هناك سرعة في استهلاك ما كان يطلق عليه سابقا النجوم اللامعة والمشاهير وبات استهلاكهم عالميا بالغ السرعة، وفى العالم العربى، وخاصة الأجيال الجديدة، في ظل أزمة تراجع الإنتاج السينمائى، عما كان قائما في مراحل تاريخية سابقة.
2- تراجع الإقبال على الثقافة الورقية والمجلات الفنية من الأجيال الجديدة، وفقدت تأثيرها كنتاج للرقمنة، والأجيال الرقمية، على نحو أدى إلى تراجع دورها في صناعة الشهرة للممثلين والممثلات، والمطربين والمطربات والملحنين، ولاعبى كرة القدم.. إلخ.
3- تراجع متوسط الشهرة إلى سنوات قليلة في ظل التغير الجيلى للشباب والصبية.
4- التحول في الإنتاج السينمائى إلى المنصات الرقمية مثل نتفليكس، ونظائرها، ومن ثم التحول في عمليات التلقى للأعمال السينمائية، والفضائية من طقس الذهاب إلى دور السينما، ومن القنوات التلفازية إلى التلقى الرقمى عبر الألواح الرقمية، وجهاز الهاتف النقال.
5- تنامى أثر الرقمنة على فعل التلقى، والتمثل والاستهلاك من القراءة الورقية إلى الرقمية، ومن القراءة المعمقة إلى ما سبق أن أسميته القراءة الومضة السريعة، والسطحية.
6- بروز التوجه في الاستهلاك الرقمى إلى النظرات الومضة السريعة، وخاصة إلى الصور الفوتوغرافية، أو الصور السيلفى وغيرها الرقمية، وإلى الفيديو الطلقة. باتت سرعة النظرات الومضات والسريعة جزءًا من السلوك البصرى للجموع الرقمية الغفيرة، ومن ثم تشكيل ما يمكن أن نسميه الاستهلاك البصرى والقرائى فائق السرعة. ويلاحظ في هذا النمط الاستهلاكى الرقمي غلبة السطحية، والإثارة والميل لها، سواء في الصور، أو اللغة، أو الصور الحواسية المثيرة.
7- لم يعد الولع بالصور الذاتية/ السيلفى والصور الرقمية قصرا على بعض المناسبات الهامة، أو للجموع الرقمية الغفيرة، ولا للفنانين، ولاعبى كرة القدم وغيرهم من الألعاب الرياضية، وإنما بات جزءًا من ولع الكتاب والمثقفين، وهو ما يشير إلى سطوة اللغة والصور الومضة، والفيديوهات الطلقة على كافة مستويات مستهلكى، وفاعلى الحياة الرقمية، ومن ثم لم يعد التميز النسبى بين العاديين والمثقفين واردًا إلا استثناءًا، أي خضوع الجموع الرقمية الغفيرة والمثقفين والأكاديميين والصحفيين، والشعراء والروائيين، والقصاصين، وكتاب المسرح لمنطق الحياة الرقمية، ولغتها وتعبيراتها في العالم العربى.
8- الحياة الرقمية باتت حالة سوسيو- نفسية، وسوسيو- فكرية، وسوسيو- دينية، وسوسيو- ثقافية، وأسواق رقمية في كافة مناحى الحياة، من نظام الزى، إلى نظام الأكل، إلى الترفيه، وكل تفضيلات الجموع الغفيرة، هي جزء من البيانات الضخمة لدى الشركات الرقمية الكونية، التي توظف هذه البيانات، وتبيعها للشركات في إعادة تشكيل سلوك، واستهلاك الجموع الرقمية الغفيرة في كل مناحى الحياة، بما فيها الحواسية والحميمة، والثقافة الحواسية لها!
من هنا تحول الإنسان الرقمى في عالمنا العربى إلى موضوع لإعادة تشكيل سلوكه، وقيمه، وتوجهاته من خلال البيانات الضخمة، على نحو يسرع من تشيوءه، وتحوله إلى كائن استهلاكى رقمى، وأثر ذلك على السلوك الفعلى.
9- أدت الرقمنة إلى تفكيك الجموع الفعلية الغفيرة نسبيا من وضعية الامتثال والخضوع، ومفهوم الجماعة وثقافة الإجماع -ذات السند الدينى الوضعى- وتوظيف ذلك من جانب الأنظمة السياسية، وتوظفيها للدين سياسيا، وإشاعة الخوف ورهابه للسيطرة عليها، إلى بروز نمطين: الأول، الجموع الرقمية الغفيرة التي يحركها الدين، والقيم، والمصالح من خلال التجمع الرقمى، والتعبئة من خلال التريندات Trendes، أو الإحساس بالخطر أو التهديد سواء أكان فعليا أم تهديد رقمى او متخيل.
النمط الثانى، الإنسان/ الفرد الرقمى، المولع بذاته ونرجسيته، واستعراضاته، من خلال الصور الومضة السلفى، أو صور قام بها الآخرين له، والفيديوهات الطلقة. هي محاولة من الإنسان الرقمى العربى أساسًا للتحرر من النفي والتهميش في الحياة الفعلية إلى الرقمية، لإثبات الذات والوجود، وهى ظاهرة تتسع أيضا كونيا. ويذهب الكاتب الإسبانى إيناكى دومنيغيث، أستاذ الفلسفة والأنثربولوجيا الثقافية ودراسات ما بعد الكولونيالية، في مقالة له حول عصر النرجسية في موقع (ethic.es)، ونشر في موقع “عروبة 22″، يوم السبت 13 تموز 2023، إلى أنه “مما لا شك فيه أن الناس أكثر نرجسية مما كانوا عليه في العقود الماضية النرجسية ليست شيئًا جديدًا، لكن عصر السيلفى أو الشبكات الاجتماعية أدى لتفاقمها”. وأيضًا قوله “الواضح أيضا إذا تفحصنا مسألة النرجسية، هو أننا نعيش في واحدة من أكثر الأزمات النرجسية في الذاكرة، وهو مرتبط بالتقنيات الجديدة والمجتمع الاستهلاكى، مما يشجع على تبجيل الذات مع نية لتشجيع الاستهلاك الجامح أداة لتملق الأنا”.
لاشك أن النزوع النرجسى الرقمي والفعلي وراءه تسليع الجسد الإنساني، واقتصاديات الطب التجميلى -إذا جاز التعبير- وخضوعه للموضات الجسدية للمرأة، وأيضا الرجال، سعيا وراء الجمال سابق التجهيز طبيا، أو لمداراة أفعال الزمن في الجسد الإنساني لدى العرب وغيرهم. ثمة أيضا تحول نظام الزى، وموضاته إلى جزء من استهلاك بعض الجموع الشابة الغفيرة من خلال إعادة انتاج ذات الموضات في الصين وفيتنام، وبيعه بأثمان رخيصة لفقراء العالم الثالث. يبدو ذلك في التصميمات والألوان مع تغيرات طفيفة، وبعض استهلاك موضوعات بيوت الأزياء العالمية مخصصًا للأثرياء. الإنسان الرقمى/ الشىء بات بوصفه شيء مرقمن، ومستهلك ويعاد تشكيله، من الشركات الكبرى في عالمنا.
رابعًا: الأناسة الروبوتية والذكاء الاصطناعي التوليدى والحركة إلى عالم ما بعد الإنسان
أحد أبرز علامات عصرنا فائق السرعة، تتمثل في التطورات التقنية غير العادية، والاستثنائية، وخاصة في مجال الذكاء الاصطناعى التوليدى، والاستثمارات الكبرى والأبحاث المتطورة -السرية للشركات الرقمية الكبرى- لتطوير الروبوتات، حيث بدأت التصورات حولها وكأنها تستعيد بعض تصورات الأدباء والكتاب في نهاية الأربعينيات وأوائل الخمسينيات عن مستقبل الإنسان. وذهب بعضهم إلى أن مآل الحياة الإنسانية سيكون نحو عالم ما بعد الإنسان نظرًا للتطورات التقنية المحتملة أثناء الثورة الصناعية الثانية إلى الثالثة. اعتبرت هذه الكتابات آنذاك، وكأنها سرديات أسطورية وأدبية مؤسسة على أخيلة جامحة، وأن مستقبل الإنسان سيظل مسيطرا على التكنولوجيا وعلى ما كان يطلق عليه الإنسان الآلى، لأنه سيكون خالقه، ومعه تقنيات تشغيله!
تستعاد بعض هذه الآراء بعد التطور المذهل في عالم الروبوتات، ومآلاتها، بل دعوة بعض كبار الخبراء في هذا المجال للإشارة إلى مخاطر ترك الحياة الروبوتية بعيدة عن حدود السيطرة، وبيان مخاطر التطور الذاتي للروبوتات، ومن ثم الدعوات المتعددة من داخل الجماعة العلمية المتخصصة في الذكاء الاصطناعى التوليدى، أو رؤساء الشركات الرقمية، أو من الإدارة الأمريكية، ودول المجموعة الأوروبية لحوكمة الذكاء الاصطناعى، ووضع ضوابط للحد من مخاطره.
هذا النمط من المخاوف من التطورات التقنية أثير في الثورات الصناعية الأولى، والثانية، والثالثة، وفى بعض التخصصات في العلوم الطبيعية، والتكنولوجيا وغالبا ما تم وضع قيود قانونية تمنع البحوث وتطويرها مثلما حدث مع الاستنساخ البشرى، ومع ذلك يُقال إن هناك من لا يلتزمون من العلماء في آسيا، ويجرون أبحاثهم سرًا في هذا المجال. من هنا يمكن توقع صدور قوانين أو وثائق أو مواثيق أخلاقية تضبط الذكاء الاصطناعى التوليدى لكنها لن تمنع تطور الروبوتات، سواء من الشركات الكبرى، أو من بعض المشتغلين في بلدان أخرى في آسيا أو مناطق مختلفة في عالمنا.
عالم الروبوتات يتطور بسرعة فائقة، وبات يشمل غالب مناحى الحياة في عالمنا في الطب وإجراء العمليات الناجحة، وفى الإدارة والمحاسبة، والتعليم، والقانون، والقضاء، وفى الموسيقى والسينما، والغناء والتمثيل، وفى كتابة المقالات والبحوث. ومن المتوقع أن يؤدى وظائف الإنسان في كل المجالات، وسيؤدى ذلك إلى خروج 300 مليون موظف، أو 500 مليون موظف في تقدير آخر من سوق العمل، دون إعادة تأهيل بحلول عام 2050.
بعض البرامج الجديدة كالمحادثة الروبوتية Chat GPT وDL، وغيرها في الطريق تشكل انقلابًا في وظائف وأدوار الإنسان في الحياة، وتشكل بديلًا أكثر تطورًا، المرجح حلوله محل الإنسان ومفهوم العمل الإنساني. من هنا تبدو الأنظمة المعرفية التي أنتجها العقل البشرى منذ عصر الحداثة والتنوير الأوروبى، والعقلانية إلى عصر ما بعد الحداثة، وما بعد بعدها، تطرح جانبا، وتغدو جزءًا من تاريخ العقل والشرط الإنسانى، ومركزية الإنسان في الكون، وسيطرته على الطبيعة واستغلالها، ستطرح أسئلة جديدة، ولغة، ومصطلحات، وآلات اصطلاحية مختلفة، وأيضا ستنتهي مقاربات لما عهدناه سابقًا.
مرحلة الأناسة الروبوتية ستشهد في عام 2029 وصول الذكاء الاصطناعى التوليدى إلى مستوى الذكاء الإنسانى، وفقا لتصريح لألون ماسك. ما التحديات الجديدة والاستثنائية التي يطرحها الذكاء الاصطناعى التوليدى، والروبوتات الذكية؟
عديد التحديات يمكن رصد بعضها فيما يلى:
1- تحدى الاضطراب والفوضى النسبية في المراحل الأولى من خلال انعكاسات ثورة الذكاء الاصطناعى التوليدى على وضعية الإنسان، وانفجار التفسيرات القديمة في تفسير التحول الاستثنائى في الحياة الإنسانية، ومحاولتها التكيف لتفسير ما يحدث لكنها لن تستطيع في الغالب. ويبدو أن هناك إمكانية لبعض من العقول الخلاقة أن تقدم مقاربات ونظريات ولغة واصطلاحات جديدة.
2- تحدى أزمة الديمقراطية التمثيلية، ومدى صلاحية مؤسساتها السياسية، ونظرياتها في العالم في الاستمرار، حيث سيلعب الروبوت دورًا مهما في التخطيط، وربما الحضور في قلب العمليات السياسية، وإمكانيات محتملة لأدوار مستقلة للروبوتات في الحياة السياسية.
3- تحدى نهاية أدوار السياسيين ما بعد الحرب الباردة، وحتى العقود الثلاث من القرن الحالي، وعدم تجدد العقل السياسى الغربى في التعامل مع المشكلات الكونية مثل الانقلاب البيئي متمثلًا في الاحتباس الحرارى وتحوله إلى غليان العالم وفق غوتيروس سكرتير عام الأمم المتحدة، ومشكلات البيئة، والفيروسات المتحورة غير المكتشفه، ثم تطورات الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعى التوليدى. هنا يتجلى تحدى تشكيل وتركيب العقل السياسى في عالم الرقمنة والروبوتات وما هي مصادر تكوينه وظهوره وتدريبه خارج الأطر والتدريب والمعارف السياسية السابقة، وصدمة الجديدة، وخارج نطاق الأحزاب السياسية التي يتراجع دورها في تمثيل المصالح والتعبير عنها، وتعبئة قواعد اجتماعية تعتمد عليها.
4- تحدى بعض السيولة والفوضى ورهاب الخوف لدى الجموع الرقمية والفعلية الغفيرة، حيث الخوف من الروبوتات، والخوف من الاستبعاد من سوق العمل، والخوف من البطالة، والخوف من انهيار نظام الضمانات الاجتماعية.
5- اغتراب الإنسان الرقمي عن وسائل الإنتاج الرقمية وعلاقات الإنتاج، داخلها، والمصالح. “الاغتراب الرقمي” يختلف عن مفهوم الاغتراب الهيجلي، والماركسي، ولدى مدرسة فرانكفورت. الاغتراب الرقمى، والاغتراب عن عالم الروبوتات الذكية التوليدية خاصة في ظل ردود أفعالها على الفعل الإنسانى -وفق ما أشار إليه أحد خبراء الذكاء الاصطناعى، وتم التحقيق معه وفصله من العمل عن تطور عمل الروبوتات- من هنا الاغتراب سيتمدد عن العالم الروبوتى الفاعل في أداء العمل في كافة المجالات، والاغتراب في حالة البطالة واتساع دائرتها لا سيما في الدول الأكثر تطورًا.
6- تحدى إبداع وعمل الروبوتات الذكية للأعمال الذهنية والإبداعية التي كان يقوم بها المبدعين سابقا، في الكتابات الأدبية، والموسيقى والغناء والفنون، والكتابة والبحث، وفى الصحافة وغيرها من مجالات الإبداع الإنسانى.
حتى في بعض المجالات التي كانت جزءًا من أدوار البشر من مثيل النقد الأدبى، وتحليل النصوص الأدبية. بعض التحليل الروبوتى النقدى أفضل من عديدين من النقاد الأكاديميين، وغيرهم ممن يقدمون انطباعات عن الأعمال الروائية أو المسرحية أو القصصية أو الشعرية.
7- روبوتات المحادثة تقوم بالرد على الأسئلة الدينية والمذهبية -آيا كانت- وهو ما يشير إلى أن الروبوت سيلعب دورًا وظيفيًا في المستقبل بديلًا عن الدعاة، والوعاظ، والفقهاء، والقساوسة، والأساقفة، ورجال الدين اليهودى (الرباى) وغيرهم، وعلى نحو أفضل في الإجابات المقدمة على الرغم من بعض الأخطاء الحالية التي تعتمد على البيانات الضخمة المتاحة في الحياة الرقمية بما فيها بعض الأكاذيب والآراء الخاطئة وغير السليمة، إلا أن المستقبل المنظور ينطوى على تصحيح الروبوتات لبعض هذه الأخطاء. وهناك احتمالات لتشكيل الروبوتات لبعض الأديان الوضعية الجديدة التي تتناسب مع عصر الأناسة الروبوتية وما بعد الإنسان.
8- السؤال أين العقل العربى من عالم الأناسة الروبوتية؟
نستطيع القول إن عالم الأناسة الروبوتية، يبدو بعيدًا عن غالب العقل والفكر العربى الذى مازال محليا وقطريًا في طروحه الجزئية الموروثة من أزمنة السعي نحو حداثة جزئية أو مبتسرة، أو ذهنية يسارويات ما قبل، وأثناء حركة التحرر الوطنى ما بعد الكولونيالية، مع تحولات بعضهم نحو حركة حقوق الإنسان، في إطار الخلط بين عقل الناشط الحقوقى، والناشط السياسى، لأن العقل الأيديولوجي لا يزال سائدًا ومسيطرًا وراء العقل الحقوقى، ولا يمايز بين الوظيفتين والأنشطة.
فلسفيًا لا يزال ثمة تراجع في الفكر الفلسفى في مستوياته التكوينية، وفى إنتاجه مع بعض الاستثناءات في المغرب وتونس والجزائر، لكن هذا الإنتاج شروح على المتون الفلسفية الأوروبية أساسًا أو بعض الترجمات لها. من ثم لا توجد محاولات فلسفة يمكن وصفها بالمشروع الفلسفى على نحو ما كان يحاوله العقل العربى في المرحلة شبه الليبرالية، وما بعد من عثمان أمين والجوانية، وتعريب الوجودية لدى عبدالرحمن بدوى، والحياد الفلسفى لدى يحيى هويدى، وعبدالعزيز اللحبابي حول الشخصائية، والغدية، ومشروع عبدالله العروى النقدى للعقل العربى، ومشروع محمد عابد الجابرى، والعقل المستقيل لجورج طرابيشى.
تراجع الفكر الفلسفى الغربى في ضوء التطورات الكونية الجديدة، والمرجح بروز فلسفات جديدة، وخاصة في الصين، واليابان، وكوريا الجنوبية، وسنغافورة، وهي مناطق لا تزال بعيدة عن العقل العربى، ومركزية الغرب الأورو أمريكى، في الترجمة والتمثل الذى لا يزال تشوبه بعض التشوشات.
9- العقل النقلى الإتباعي الدينى لا يزال يدور حول مركزية السرديات التأويلية الإسلامية، والارثوذكسية التاريخية، وينزغ نحو نبذ ورفض، بل ومطاردة آية محاولات تجديدية من داخله.
10- ثمة تناقضات جيليه، وإزاحات جيلية من الأجيال الشابة نحو الأجيال القديمة، وثمة ذرائعية/ براجماتية تسيطر على تفكير الأجيال الشابة، ولا توجد دراسات سوسيولوجية حول هذه الأجيال، وخاصة الصبية والأطفال، من ثم نحن إزاء مساحات تبدو معتمة أمام العقل العربى حول كيفية اشتغال عقل الأجيال الشابة والصبية والأطفال، واتجاهاتهم تجاه الأسئلة الجديدة، وصدمة الروبوتات، واحتمالات التحول إلى ما بعد الإنسان!
بقلم
نبيل عبد الفتاح
نبيل عبد الفتاح كاتب وباحث ومستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية
***
عن موقع مركز الأهرام للدراسات السياسية
لـ ” مختارات سينما إيزيس “