سلطة الصورة ونهاية أدب الرحلة. بقلم د. نبيل عبد الفتاح
ساهمت ثورة الصور، وفيوضاتها فى التلفزات، و عوالم الرقمنة إلى تحولات كبرى فى الثقافات الكونية، والانتقال من القراءة والكتابة، والصحف والمجلات الورقية إلى استهلاك الصور، لسرعة النظر من واحدة إلى العشرات بل والمئات فى عالم السرعة الفائقة، وإلى استهلاك الصورة بوصفها خطاب مرئى، يؤثر على الثقافة البصرية، والإدراك ويحد من أخيلة المليارات من البشر، حيث تحضر الصور، عن الأمكنة، والبلاد، و الثراء، و الفقر، والنزاعات والحروب، والمدن، و التماثيل الفذة ، واللوحات التشكيلية، تبتعد الأخيلة السابقة عن مدن العالم التى كانت القراءة عنها، تفتح أبواب الخيال تجاهها، فى كتب التاريخ والجغرافيا، والشعر والرواية.
من هنا شكل عالم وثقافة الصورة التحدى الأكبر لعالم الرواية الكونية فى تعدد كتابها الكبار ذو المواهب اللامعة بالاستثنائى، وبالتخييلات المتفردة، وها هو واحد من كبارهم ماريو بارغاس يوسا (نوبل فى الأدب) يقول “أصبح الأدب ثانويا بالنسبة للأنشطة الأخرى مثل الموسيقى والأفلام والتليفزيون التى لها تأثير اكبر. تم دفع الأدب إلى الحافة.
لكن الأدب لا يزال أقوى وسيلة لنشر الأفكار. لسوء الحظ فى حياتنا اليوم، الأفكار أقل أهمية من الصور فنحن فى زمن ثقافة الشاشة”. ويبدو فى قوله أن الأدب أقوى وسيلة لنشر الأفكار، بعضُ من النوستالجيا لعصر الرواية وموقعه داخلها، الآن فى عصر السرعة الفائقة والرقمنة، لم تعد الثقافة الكتابية التى ألفناها، هى سيدة العقل والأفكار والخيال والروح، جاء عالم خطاب التغريدات والمنشورات، وفى سياقاتها الصور، والأنشطارات والتشظيات الشخصية، صور الفرح، والألم، والمرض، والحزن، وسرادقات الوفاة والإعلان عنها! والأهم عالم الفيديوهات حول الأكل، والشراب، والجنس، والتجارب الشخصية، والتفاهات، والنكات والسخرية والصور تسيطر على الحياة اليومية، ولا مجال إلا لقلة تجلس للقراءات العميقة للروايات والقصص والشعر، والكتب الفكرية الورقية!
فى ظل هذه العوالم من الصور لم تعد كتابة أدب الرحلات ملائمة لأن كشف عوالم الرحلة إلى المدن والأرياف والصحراء البعيدة، فقدت مع الصور الدهشة، والغرابة، والصدمة، والمفاجأة، والولع بالجديد والاستثنائى.
غادرت الرحلة الشغف القديم بها، وباتت كلها فى الصور الفوتوغرافية، والتلفازية والسينمائية، والرقمية، حتى “النوستالجيا” إلى الأمكنة الحميمية حاملة ذكريات الدراسة فى فرنسا، وأوروبا، لم تُعد تخايلنا، فالأمكنة والمقاهى التى جلسنا نقرأ، ونتناول القهوة، أو للمسامرة والحوارات مع الأصدقاء والأحبة، باتت على الواقع الرقمى، من مقاهى الدوماجو، والفلور وكلينى فى السان جيرمان، وكافيه دوباري فى الشانزليزية، والسلكت، والروتوند فى المونبارناس، كلها على المواقع الرقمية، وتدخلها عبر الفيديوهات، وتعلن يوميا عن وجبات أطعمة اليوم، وهكذاّ
من المطاعم والمقاهى والمشارب، إلى المتاحف، ودور عرض الفنون التشكيلية والشوارع..إلخ، كلها على الواقع الرقمى، وانهمارات الصور عليه، من أوروبا، للأمريكتين، للعالم! من هنا من يستهلك كتابة عن المدن! وأدب الرحلات؟!. من هنا نحن أمام حالة جديدة تماما على العقل والخيال والفكر الإنسانى تشكل قطيعة على كافة المستويات في اللغة، والروئ، والمصطلحات، والكتابة، والنظريات، والفلسفات بينما المئات هنا يجلسون لكتابات فقاعية وسرديات تافهة سعيا وراء الجوائز! حالة تستحق ضحكة فلسفية ساخرة! من ثم استطاع الشاعر جرجس شكرى، أن يوثق تجربته الواعية فى المدن، بوصفها كتابة للذات وهواجسها حول مدنه القديمة الضائعة، فى مقارنات مع المدن الأوروبية العريقة المشرقة فى حضورها كتراث مادى، وحاملة للتراث اللامادى معاً. نجح فى الخروج من دائرة السرد الوصفي للمدن التى شاهدها إلى سرد الذات الواعية حول حياتها فى مدنه التى غادرتها الحداثة، وكرست العشوائية، والفوضى، وسلطة سلفية ودينية سعت إلى فرض هندسة دينية على الهندسات الاجتماعية الحديثة، وتديين اللغة اليومية داخل المدن.
ثنائيات، وتناقضات، استدعتها غُين السارد الواعى، فى المقاهى والمشارب والعربات، والشوارع المنتظمة المرور والعبور للمارة والمشاة والعربات حيث تتجلى حياة القانون فى الوعى الجمعى، والسلوك الفردى والجماعى هناك.
المدن أحلام، كتابة صور، كتابة بصرية ذكية، لكنها أدركت أن صور الواقع فى الكتابة لن تصاول صور الواقع الرقمى وتخييلاته، وبصرياته، وزمن اللحظة الخاطفة، المدنى تجعل قارئ هذه الأزمنة الرقمية يجفلُ من كتابة الصور الوصفية. من هنا كان الأنسب تركيزه كشاعر موهوب لقصيدة النثر، يمتلك القوة البلاغية مع تكثيف الصورة واللحظة وما وراءها، ويحيلهما إلى مخيلته ومدنه، وأن يحفز ملكته النقدية فى المسرح، وذلك فى مقاربته المدن كمسرح، وفعل وحركة ومشاهد، عبر دهشة الشاعر، ومراقبته للآخرين، ووجوههم وسلوكهم العابر، وبعضُ من أتراحهم وأفراحهم. حيث تمارس طقوس صاخبة وضاجة بالحياة والحيوية واليقظة. كان عبر مراقبة الآخرين يرصد ذاته الواعية.
إنها رحلة ذات مرتحلة فى ارتحالات طارئة، وعابرة. تبدو عين الكاتب اليقظة فى حلمها ومنامها وصحوها مدهوشة بما ترى، و بما تستدعيه، وتلتقط من الواقع الحى التقاطات مقارنة فى المخيلة التى تتداعى عبر مرآياها، صور الفوضى والتوهان التاريخى –بتعبير الحبيب الغالى أستاذى وصديقى أنور عبد الملك- حينا يتجلى فى استدعاءات الشوارع والأبنية وطرزها المعمارية –فى القاهرة والإسكندرية- ونصاعة الطرق والشوارع، والأناقة المدينية، فى بعض لقطات الأبيض والأسود فى تاريخ السينما المصرية. يتحول الأبيض والأسود إلى فضاء من الاستدعاءات، إلى المخيلة، فى نظرتها إلى حياة المدن الأنيقة ومطاعمها وشوارعها وناسها، ومشاربها!
أحيانا يسيطر الشغف والحنين اللحظى إلى مقارنات، تبدو غريبة بين مشرب هناك موفق، وشعبى، وبين مشرب يدعى “استلا” فى وسط المدنية! لكنه الحنين، والرغبة فى إيجاد تشابهات بين أمكنة حميمة، لكن وأسفاه!
جديد هذه المقاربة، إثارة بعض من موضوعاتها الفكرية كالجدل حول السرد والصورة. بدى لى هذا الموضوع قديم، وأثارته من قبل بعض المؤسسات السويسرية فى تاريخه، بدى لى غريباً، لأن زمن الصورة التلفازية، و زمن الواقع كان قد غادرنا، منذ انقلاب الاتحاد السوفيتى الفاشل، وتغطية شبكة الـ CNN الأمريكية للأحداث، وهو ما كتبنا عنه، فى كتابنا خطاب الزمن الرمادى، حول انتهاء التمايز الزمنى بين زمن الحدث وزمن الصورة إلى وحدة زمن الحدث والصورة.
فى تاريخ الأدب، والرواية، كان الوصف التفصيلى للواقع، وصوره هو جزء من عملية بناء الواقع فى السرد، والسؤال هل صور الواقع الفعلى على تفضيلاتها ودقة وصفها، هى ذاتها صور السرد الروائى والقصصى؟!
ذهب الكاتب إلى أن “عصور الصمت” كانت لها سماتُ وملامُح تناسب ذلك العصر. “فى هذه العصور ما قبل الميديا ووسائل الاتصالات” كانت المعالم تبدو للدنيا أوضح وأكثر تحديدا، كانت الحدودُ صارمة بين الفرح والحزن، بين الصمت والصوت، والظلمة والنور، والقرية والمدينة، كان التبايُن بين هذه الأشياء مثل التباين بين الصيف والشتاء، ويذكر تاريخ تلك العصور الوسطى أن المشهد الواقعى كان يتميز بالعنف، والقسوة والعلانية، بدءاً من مشهد الوُعاظ إلى تنفيذ أحكام الإعدام فى الشوارع، ومشاهد التعذيب العلنى، فى عصر كان يميل إلى اختراع (ص 42) أسلوب لكل شئ فكانت حفلات الزواج، ومراسم المدن ترتقى
وسؤال الندوة كيف تقترب لغة الأدب من صورة الواقع اليومى؟ (ص٤٤)وهل الأدب قادر على الإمساك بصورة هذا الواقع فى ظل سيطرة الصورة؟!
على الرغم من قدم السؤال النسبى، وبعضُ من غرابته فى عصر الرقمنة والذكاء الصناعى، وعصر تحول الصور والوقائع والأزمات من الواقع الفعلى إلى الواقع الافتراضى: إلا أن إعادة النظر فى بعض الإدراكات، والآراء المتداولة جدير بأمعان النظر.
على آخر نفس. جان لوك جودار
يبدو لى أن قسوة الحياة وصورها وعنفها وعلانيتها، بل ووضوح القسوة، والميل إلى اختراع أسلوب لكل شئ –وفق كاتبنا جرجس شكرى- إلا أن هذه الصور فى السرد الروائى والقصصي، لا تنتقل فى الرواية أو القصة بمثل قوة صور الواقع أيا كانت براعة الكاتب والسارد وموهبته وبلاغته السردية والمجازية. لأن الصور الواقعية فى الحياة تختلف عنها فى الواقع السردى، حيث تتداخل عوامل أخرى، نظرة الكاتب لصور الواقع، إدراكه لجوانب دون أخرى، نظرته لصور الواقع من أى المواقع والنظرات فى أى لحظة، مدى انفعاله أو تأثره، حياده، أو تحيزه، لحظة الكتابة، مواقفه من الواقع وصوره فى ذاتها. عندما تبدأ عملية الكتابة، يبدو واقعا قادما من المتخيلات وتشكيلاتها وتغدو فى مدارات التخييل الإبداعى، صور وشخوص وكائنات حية يحركها الكاتب رغم استمداد تكوينها من الواقع المعيش. لا يقتصر الأمر على أدب العصور الوسطى، ولا ما بعد مروراً بعصر الأنوار، إلى العصر الحديث وما بعده. حيث سلطة التخييل عارمة فى علاقتها بصور الواقع الحى، عندما تنتقل عبره إلى تشكيلات الصور والشخوص والمجازات تكتسب حياة جديدة مغايرة. الصور افى الأدب ما بعد الحداثى، تبدو مهمشة، ومتشظية، ومركبة، ومنقوصة، ومتناثرة، و مفككة، فى الأدب كما فى الحياة الافتراضية التى نحياها كواقع فعلى.
تبدو استدعاءات جرجس شكرى لبعض من رموز الأدب العظمى اللامعة فى بعض الأمكنة، مصحوبة بالجمال، والحنين لكتاباتهم وشخوصهم، حضور لألق بناة العالم الحديث، وجمالياته، وسرده، وأفكاره التى نقلت الدنيا إلى عوالم جدُ مختلفة وصاخبة وضاجة بالحيوية والحركية الاجتماعية والإبداع إلى أن وصلنا إلى هنا!
النظرة المسرحية تبدو غالبة فى النظر إلى المدن/ الأمكنة/ الشوارع المقاهى/ المشارب، تأملات حاملة لمثيرات المخيلة، وهدوء المكان يستصحب معه، صخب مدننا، وضوضاءها، وترييفها الذى جعل أزمنة المدن وتحولاتها تتراجع عنها!
كتابة جميلة، ومشرقة، وبها سلاسة أنيقة، تحرضُ على القراءة البصيرة، وعودة إلى زمن القارئ الذى لم ينقض على الموت الموهوم للكاتب.
د.نبيل عبد الفتاح
د.نبيل عبد الفتاح .مفكر وكاتب مصري.مسنشار مركز الدراسات الاستراتيجية في الأهرام