صلاح هاشم يقدم خارطة موسيقية سينمائية لموسيقى الجاز ويستعرض ” هدية السود ” الى أمريكا في القرن 19 بقلم داليا عاصم
«الجاز هدية الزنوج إلى أمريكا.. وهدية أمريكا للعالم» هكذا وصفت الأديبة الأمريكية الراحلة تونى موريسون الحاصلة على نوبل، موسيقى الجاز ذات الجذور الإفريقية.
وبهذه المقولة يقدم الناقد الفنى صلاح هاشم لكتابه «موسيقى الجاز.. نشأة وتطور موسيقى السود فى أمريكا»، الصادر عن مركز الحضارة العربية للنشر، بغلاف يظهر ملك الجاز الأمريكي، لوى أرمسترونج، يعزف الجاز لزوجته تحت سفح الهرم مواجها رأس أبو الهول.
لموسيقى الجاز سحر أخاذ هى الأنغام ذات الإيقاعات الارتجالية التى عرفت كيف تحول المعاناة والألم لألحان تشبع الروح بالبهجة والاسترخاء لتفرض أنغامها عالميا وتنصهر مع المقامات الموسيقية عبر القارات. يتتبع المؤلف بأسلوب ممتع تاريخها من نهايات القرن التاسع عشر مشيرا إلى أنها «تلخص رحلة العبد الإفريقى المختطف فى العالم الجديد، ثم نضالاته من أجل الحصول على حريته وحقوقه المدنية أسوة بالأمريكى الأبيض، ومن هنا صار الجاز صوتا لحرية شعب أمريكا الزنجى المضطهد، وتصويرا لمأساة العبودية التى عاشها، ومازالت جرحا لم يندمل بعد.. مازالت مظاهرات الاحتجاج ضد القمع البوليسى الذى يمارس على شعب أمريكا الأسود ووصل إلى حد القتل، تهبط بين الحين والحين إلى الشارع، وما زال الجرح الأمريكى ينزف»
يأخذنا المؤلف فى رحلة تبدأ من القرن السادس عشر حين بدأ البرتغاليون استكشاف إفريقيا ومن ثم العالم الجديد ما وراء البحار حيث بدأت تجارة العبيد من أفريقيا إلى أمريكا. يرى هاشم أن «الجاز» اقتطع من موطنه الأصلى إفريقيا وحمل قهرا إلى أمريكا ويروى فى سرد يمزج التوثيق الموسيقى بالسينمائى تاريخ فن الجاز متتبعا رموزه مثل: لوى أرمسترونج ونينا سيمون ومايلز ديفيز. ويلفت إلى أن للجاز بصمة فى عالم السينما؛ فأول فيلم ناطق فى تاريخها كان فيلم «مغنى الجاز» عام 1928.
الأمر المميز بهذا الكتاب أنه يبحر بالقارئ عبر تاريخ الجاز إلى تاريخ العنصرية فى أمريكا ما يعطينا مقدمة عميقة للجذور التاريخية لأخطر قضايا المجتمع الأمريكى ويفسر خروج «الأفروأمريكيين» فى أكبر احتجاجات يشهدها العالم حيال العنصرية بالرغم من إلغاء تجارة العبيد منذ أكثر من 150 عاما.
الجاز ولد تعبيرا فريدا عن الحرية عبر الرقص والارتجال الموسيقى وكبوتقة منفتحة على ألوان الموسيقى التقليدية العالمية، ويكشف هاشم أن ثمة علاقة بين الإسلام والجاز؛ إذ اعتنق الدين الإسلامى عدد كبير من موسيقيى الجاز ومطربيه ويذكرنا بأسماء بعضهم مثل عازف الساكسفون الأمريكى جون كولترين وعازف الكلارنيت الأمريكى يوسف لطيف، وعازف البيانو عبدالله إبراهيم، أشهر موسيقار بجنوب أفريقيا وعرف بــ«مانديلا الجاز» حيث وظف أغانيه فى محاربة نظام الفصل العنصري.
ويؤكد المؤلف أن الجاز أسلوب وفلسفة حياة وينقب فيما كتبه المؤرخون عن نشأة هذا الفن مستشهدا بما كتبه المؤرخ الموسيقى جيمس لينكولن كولييه «حمل الانسان الأفريقى الأسود معه أفريقيا فى ذاكرته، وتقاليده الموسيقية، واستطاع أن يطوعها للظروف الجديدة التى كان يعيشها فى مزارع الدخان والقطن، فابتكر أغانى العمل والأغانى الروحانية وصيحات الحقول ثم انبثقت أغانى البلوز».
ويلفت إلى أن استخدام الأبواق والطبول كان محرما فى الجنوب الأمريكي، فقد خشى أصحاب المزارع أن تكون بمثابة إشارات بين العبيد تدعوهم للتمرد والثورة. ولدت موسيقى الجاز على نهر الميسيسبى بمدينة نيو أورليانز لتنتشر فى الولايات الأمريكية بالعقد الأول من القرن العشرين. وبدأت تتطور وتأخذ من ألوان الموسيقى الأخرى التى كانت تعزفها الأقليات فى أمريكا ومنها: موسيقى البولكا البولندية وموسيقى أمريكا اللاتينية مثل السامبا والصلصا.
رجل الجاز في مصر يحيى خليل على اليمين ومعه صلاح هاشم مؤلف الكتاب
حرص المؤلف على اكتمال الصورة لدى القارئ، فقدم قراءة فى سينما «الزنوج» وتوثيقها لأشكال المقاومة العنصرية بأنغام الجاز. وبحصافة الناقد السينمائى قدم دليلا لأفلام هوليوود التى تطرح قضايا الزنوج فى إطار هيمنة الثقافة البيوريتانية «الانسان الأبيض»، لافتا إلى صنع هوليوود صورة ذهنية سلبية عن الزنوج، ما أدى لظهور سينما طليعية خفية «أندر جراوند» من صنع الزنوج أنفسهم والتى ارتبطت بالحركات التحررية فى أواخر الستينات. الكتاب يجيب عن تساؤل مهم ألا وهو: كيف توثقت العلاقة بين موسيقى الجاز والسينما؟ ويتناول مع بعض الأمثلة توظيف السينما لموسيقى الجاز كجزء من السرد السمعى عوضا عن الحوار بين أبطال الأفلام. فحضور الموسيقى هنا ركن رئيسى من أركان الفيلم ومن البناء الدرامى له.
ويتتبع قصة موسيقى الجاز فى مصر مع أيقونتها الموسيقار يحيى خليل، حيث وظفها فى ألبوم « شبابيك» للنجم محمد منير وحقق مبيعات فاقت الـ 300 ألف نسخة بمصر وحدها. ومن خلال حوارات سابقة للمؤلف مع خليل نتعرف على مزجه بين الايقاعات الغربية والشرقية ورحلته مع موسيقى الجاز. وندلف مع صلاح هاشم لعالم الجاز بقائمة أغنيات لعمالقة موسيقى الجاز والأغنيات التى تعتبر كلاسيكيات وروائع هذا الفن الارتجالى بامتياز.
ويشير المؤلف إلى أهمية موسيقى الجاز وأثرها فى الثقافة العالمية مما دعا اليونسكو لإعلان 30 إبريل يوما عالميا لها، اعترافا بقوة هذه الموسيقى فى ترسيخ السلام والحوار بين الشعوب.
بقلم
داليا عاصم
داليا عاصم كاتبة وصحافية مصرية
عن جريدة ” الأهرام ” صفحة أدب وكتب بتاريخ الثلاثاء 16 يونيو 2020