صلاح هاشم يكتب من باريس لـ جريدة ” القاهرة “: (هؤلاء علموني .”عبد الفتاح الجمل” الراعي الرسمي لجيل بأكمله) في معرض القاهرة للكتاب 55
بمناسبة تكريمه في معرض القاهرة للكتاب 55
هؤلاء علموني. “عبد الفتاح الجمل “
الراعي الرسمي لجيل بأكمله في معرض القاهرة للكتاب 55
–
عندما طلبت منى الكاتبة الصحفية المصرية الرنشطة والمتميزة عائشة المراغي، بمناسبة إنعقاد معرض القاهرة للكتاب في رسالة، إن كنت أحب أن أشارك في إحتفالية تقام في دورة المعرض 55 التكريم الأستاذ والأديب المصري الكبير عبد الفتاح الجمل يوم 4 فبراير، بمناسبة المئوية الأولى على ميلاده، فوافقت طبعا على الفور..
وكنت قبلها شاركت في صالون ثقافي أدبي أقامه الشاعر المصري الكبير زين العابدين فؤاد، تحدثت فيها عن أفضاله ومآثره على جيل بأكمله، جيل الستينيات في مصر، الجيل الذي أتشرف بالإنتماء إليه، وإستطاع بفضل الجمل، الذي فتح لنا أبواب النشر والرعاية والإحتضان،أن يمثل “ظاهرة ثقافية” مهمة، إن لم تكن أو بالأحرى كانت ” ثورة ثقافية ” بالفعل ..في أعظم الفترات الثقافية التي مرت بها مصر، بل والعالم ، وأعني بها ” ثورة الطلبة عام 68″فلولا وجود هذه الرجل أستاذي وأستاذ جيل كامل من المبدعين الذين ملأوا حيانا ثقافة وإبتساما، لما كانت تحققت..
بفضل أقواس قوس قزح الإبداعية النارية، التي إنطلقت آنذاك في سماء مصر،وكانت تضم كوكبة من الكتاب والمفكرين والفنانين العظماءمن أمثال الشاعر الكبير عبد الرحمن الإبنودي، والمخرجة الكبيرة عطيات الإبنودي، والقاص محمد البساطي والمخرج الكبير محمد كامل القليوبي والشاعر أمل دنقل والناقد والمخرج السينمائي سيد سعيد وغيرهم كثر..
ممن وضعوا بصماتهم التي لاتمحى على واقع الحياة الأدبية والثقافية والفنية في مصرفي تلك الفترة،في حضور الآباء المؤسسين: من أمثال اساتذتنا الكبار يحيى حقي في مجلة ” المجلة ” في صحبة الناقد الكبير بدر الديب، و الفيلسوف والمفكر والناقد محمود أمين العالم ، والكاتب المسرحي الكبير سعد الدين وهبة في مجلة ” السينما ” ، في صحبة النقاد د.صبحي شفيق وفوزي سليمان ، ود.رشاد رشدي في مجلة ” المسرح “، في صحبة د. أنجيل سمعان ود.فايز إسكندر، ود. مجدي وهبة، والأستاذ أحمد عباس صالح في مجلة ” الكاتب ” – مجلة المثقفين العرب—في صحبة د.فاطمة موسى، أفضل من كتب عن روايات نجيب محفوظ بشهادة منه، وكانت تدرس لنا مادة ” الرواية ” في آداب إنجليزي جلمعة القاهرة، والناقد إبراهيم فتحي ود.صبري حافظ، ومجلة ” الفكر المعاصر ” ورئيس تحريرهاالفيلسوف المصري زكي نجيب محمود، وبحضور قامات مصرية أدبية وفنية كبيرة من أمثال نجيب محفوظ ويوسف إدريس وألفريد فرج ، وكنا طلبة في الجامعة في تلك الفترة – مجانية التعليم – التي فتحت فيها الجامعة ابوابها لأبناء الفقراء والغلابة :
من سمنود – الشاعر والروائي محمد ناجي- ومن قلعة الكبش في السيدة زينب – القاص صاحب الحصان الأبيض ، وأنور إبراهيم من عابدين ،وعبد العظيم الورداني من العمرانية في مجاهل الجيزة – و نحن نريد أن نتعلم ونقرأ وندرس، ونشاهد أفلام ” الموجة الفرنسية الجديدة بنهم – جودار وتروفو وشابرول وآنياس فاردا، والموجة التشيكية الجديدة وعن الحفل والضيوف وميلوش فورمان ،ومغامرات شقراء، ولاركيتا لازاروفا ، وأفلام الواقعية الإيطالية عند روسوليني وفيسكونتي وفيتوريو دو سيكا ، وأنا مانياني ومارشيلو ماستورياني وصوفيا لورين..المتوهجة بعطائها السينمائي الباهر ..
وكنا نريد أن نبتلع العالم، و نحن نتسكع وندور في شوارع القاهرة الساحرة سيرا على الأقدام في الليل ، مع عبده جبير وكبيرنا يحيى الطاهر عبد الله ، ونذهب في آخر الليل، لنتعشى عند غالب هلسا في شارع جامعة الدول العربية من الأحياء القاهرية الراقية، أو عند شاعر العامية أسامة الغزولي في المنيل، ونلتقي عنده يالشاعرين الصديقين محمد سيف ونجيب عز الدين، أو الكاتب المسرحي الكبير محمد الفيل في عابدين، وكل هؤلاء كانوا طلبة تجمعهم كلة الآداب قبل أن يصبحوا في مابعد كتابا كبارا ومن الحكواتية العظام وكنا نحفظ أشعارهم ونرددها على مقاهي القاهرة وسط البلد..
وكنا نكتب بحرية على الجدران: نحن جيل يا سادة بلا أساتذة، لا يسوع ولا ماركس. ومع ثورة الطلبة في العالم ، وموسيقى البيتلز ، وبنحب أم كلثوم، وضد الحرب في فيتنام، ونحن نعيش أجواء النكسة وهزيمة 67 ، ووقتها لم يكن أحد منا يفكر آنذاك، عندما نتخرج ماذا سوف نفعل ياترى، وأية وظيفة ياعم سنشغل، كنا جوعى مثل كلاب قرية “محب “الضالة، في رواية ” الخوف” لعبد الفتاح الجمل، ونريد أن نبتلع العالم بنهم، ونقرا لهربرت ماركوس، و برستد ” فجر الضمير” “وصلاح عبد الصبور، وهرمن هسه ،وإبسن ، ونترجم أشعارا لطاغور، وهوشي منه،و نقرأ ” نحو رواية جديدة لآلان روب جرييه ، وتشيكوف وكافافي وشكسبير ونيكوس كازانتزاكيس وإيفتوشنكو ، ونقف وراء الفيلسوف الفرنسي الوجودي جان بول سارتر، وهو يحاضر لنا في جامعة القاهرة في مدرج 78 ، نفس المدرج الذي كان أستاذنا العظيم د.صقر خفاجة يدرس لنا فيه مادة للاتيني، ويحكي عن مغامرة أوليس عند عودته بعد نهاية حرب طروادة الى إيثاكا ، ووقائع ملحمتى الأوديسة والإلياذة ، وكان المدرج يقع على بعد خطوتين من فسم صحافة، حيث إعتاد طالب إسمه سامي السلاموني في القسم ،أن يكتب مجلة بعنوان ” الغد” ،ويعلقها على الحائط ، وكنا نقرأ فيها آنذاك مقالات رائعة عن السينما..
أدب الستينات : جيل يصرخ أين الأمل ؟
وكانت الثقافة هكذا في “فترة التكوين” بالنسبة لشلة آداب القاهرة ، وجمعية ” آمون ” الأدبية– أهداف سويف ومحمد ناجي وعبد العظيم الورداني وسامي الرزاز وزين العابدين فؤاد ومحمد الفيل وبعض الطلبة المنتسبين من الكبار مثل الشاعر والمناضل نبيل قاسم وغيرهم – في تلك الفترة ، هي الهواء الذي نتنفسه، وكسرة الخبز التي نتقاسمها..
وقد حكي استاذي د.غالي شكري عن هذا الجيل الأدبي الذي أنتمي إليه، وأحتضنه ورعاه الراعي الصالح وهو من صنع الجمل قبل أي من كان، في مقدمة لكتاب، يقول فيها :
( ..عرفت صديقي الكاتب الشاب صلاح هاشم في أواخر الستينيات، ضمن الموجة الهادرة من الأدباء الجدد ، الذين ولدوا فينا غداة الهزيمة في العام 1067، وربما كنت شخصيا، مسؤولا من الناحية التاريخية على إطلاق صفة ” أدب الستينيات” على هذا الجيل الجديد الوافد على العمل الثقافي السياسي، من بين جدران الجامعة، متمردا على أسباب الهزيمة، صارخا في وجوه الجميع : أين الأمل ؟. كنت في ذلك الوقت رئيسا للقسم الثقافي بمجلة ” الطليعة ” التي تصدر عن مؤسسة الأهرام، وهنا أحب أن أسجل من الناحية التاريخية كذلك، أنني مسؤول عن إحتضان ذلك الجيل، سواء بنشر إنتاج قطاعات واسعة من مبدعيه، أو بتقييم وتقويم هذا الإنتاج، في محاور خاصة من ملحق ” الطليعة “، أو في توثيق ولادة الجيل ونموه ، في تحقيقات وشهادات واقعية .كان صلاح هاشم واحدا من هذا الجيل، يكتب القصة القصيرة بإتقان وحرارة تجمع بين أصالة التراث القصصي في مصر الحديثة، ومعاصرة التجديد في الآداب الغربية التي كان يقرأها في الانكليزية، فهو أحد خريجي قسم اللغة الإنكليزية بكلية الآداب،ولكن ماكان يميز صلاح هاشم هو معايشته الحارة والغنية للتجربة الإنسانية في بلاده، فلم يستغرقه الإغراب والتغريب، ولم يجنح إلى الغموض والتجريد، بل كان ذا صوت خاص فريد، في إلتقاط الزوايا والشخصيات والمواقف والجزئيات والتفاصيل والدقائق الصغيرة، في حياة الشعب الذي ينمتي إليه.عشر سنوات مرت دون أن أرى صلاح هاشم. كنت قد غادرت مصر، وإنقطعت عني أخباره. وبالرغم من متابعتي لما يكتبه الجيل الذي احببته داخل مصر، فإنني لم أقرأ شيئا لصلاح هاشم. لذلك كانت مفاجأتي كبيرة ، حين التقيته في باريس، فأخبرني أنه ترك الوطن منذ سنوات، وأنه يعمل في الصحافة. وتصادف وجودي في هيئة تحرير مجلة ” الوطن العربي ” التي شاركت في تأسيسها، وواكبت نشأتها وتطورها بالعاصمة الفرنسية، وكان من ضمن المبررات التي سقناها للصدور من باريس، هو العناية بالمهاجرين العرب الى الغرب، الذين تزايدوا عاما بعد عام، حتى أصبحوا ظاهرة إجتماعية واضحة في المجتمعات الغربية، من طلاب وعمال وأساتذة جامعات ورجال اعمال وعاطلين عن العمل ولاجئين سياسيين..
حياد الفن وموضوعية الباحث الإجتماعي
لذلك خصصنا زاوية بعنوان ” العرب في العالم ” تستكشف ملامح الوجود العربي المتعاظم وأريافه ومعامله وجامعاته، وقد إختار صلاح هاشم أ ن يشارك في هذه الزاوية، بالرغم من أنه مؤهل بالطبيعة والتكوين والموهبة، للمشاركة في الزوايا الثقافية والفنية..
وبالتجربة اليومية، برهن صلاح، على أنه أخلص محرري هذه الزاوية، حتى كادت تقتصر على نشاطه، من باريس الى واشنطن، مرورا بمختلف المراكز والمواقع الغربية المزدحمة بالعرب.برهن أيضا ، أنه لم يتنازل قط ، عن شخصيته المميزة ، كفنان أصيل سواء في لغته أو حواره ، أو رسمه للشخصيات ، أو في عينه التي ترى ما لاتراه العدسة..
ولكن صلاح هاشم في هذا الكتاب، الذي يضم خلاصة كشوفه للعرب في الغرب، يكشف لنا عن عن وجه آخر له، ربما كان حافيا عنه هو شخصيا، هو وجه ” الباحث الإجتماعي الذي تعنيه الظاهرة الإنسانية، كمفردات في سياق اجتماعي شامل، تعبر عنه ” العينة ” المختارة، بكثافة وعمق. لذلك جاء كتاب ” سندباديات في شوارع أوروبا وأمريكا الخلفية مع المهاجرين العرب ” الذي صدر في 3 أجزاء عام 1981 عن دار الآفاق الجديدة في لبنان – دون أن يقصد صاحبه قصدا مسبقا، مادة غنية، لكل تحليل مقبل لظاهرة الهجرة العربية الى الغرب، إنه مجرد ” خامة “، ما كان يمكن أن يجمعها بهذا الإتساع والتركيز معا ،بغير فريق عمل، ولكن صلاح هاشم حصل عليها بمفرده، وصاغها في حياد الفن، وموضوعية الراصد الإجتماعي،، وهي بقدر ماتمنحنا صورة باتورامية للواقع العربي في الغرب، فأنها تضع أيدينا على جذور الهجرة في الأرض الأصلية ، الأرض العربية..)..
وهنا ينتهي كلام د.غالي شكري عن الجيل الأدبي الذي أحبه هو أيضا، كما أحبه وإحتضنه ورعاه أستاذي الأديب الكبير عبد الفتاح الجمل، الراعي الرسمي لجيل بأكمله..
زمن الحضور المعاش وظلال عدوان 5 يونيو
وفي مقال للناقد عبد الرحمن أبوعوف بعنوان “مقدمة في القصة القصيرة” في كتابه “بانوراما نقدية في الأدب والفن والسياسة” الصادر عام 2008 عن الهيئة العامة للكتاب.يقول في صفحة 40 في ما يخص زمن الحضور المعاش وظلال عدوان 5 يونيو على الإبداع القصصي والجيل الأدبي الذي أفرد له عبد الفتاح الجمل صفحات ملحقه الأدبي في جريدة المساء وكان الراعي الرسمي له ومنذ منتصف الستينيات، “الراعي الصالح “كما تحب عائشة المراغي أن تطلق عليه، يقول الناقد الكبير أبو عوف :
( ..إن المحاولة القصصية الحالية والتي تهتم بحريات غير محددة، لم تعرفها المراحل السابقة لأنها تغوص بجرأة في هوة ،يختلط فيها الكلام والسكوت والحياة والموت، فحضور الواقع المصري الذي أعقب هزيمة 5 يونيو ،بقتامته وصمته واستفزازه.. كان الإطار والجو الذي تنفست فيه إمكانات الإبداع المختزنة لدى جيل أدبي كامل.. ودراسة هذه القضايا تصبح أكثر وضوحا واكتمالا ،عندما نناقش التجربة الجريئة بكل سلبياتها وإيجابياتها التي يقدمها من كتاب الأجيال السابقة والمعاصرة كل من نجيب محفوظ ويوسف إدريس وبعض من كوكبة الكتاب الجدد أمثال محمد روميش ومحمد البساطي وجمال الغيطاني وإبراهيم عبد المجيد وإبراهيم أصلان ومجيد طوبيا وعبده جبير ويحيى الطاهر وضياء الشرقاوي وصلاح هاشم وعبد الحكيم قاسم وبهاء طاهر وحسني عبد الفضيل… إلخ، وليس لترتيب الأسماء أية علاقة بالتقديم أو التأخير..”.
بقلم
صلاح هاشم
كاتب وناقد مصري مقيم في باريس.فرنسا
***
عن جريدة ” القاهرة ” العدد1228 الصادر بتاريخ الثلاثاء 30 يناير 2024