فيلم ” الأوراق الميتة ” لآكي كوريسماكي: في زمن الحرب لا خلاص إلا بالحب . بقلم صلاح هاشم
من هو هذا الـ ” آكي كوريسماكي” الذي خرج فيلمه ” الأوراق الميتة ” – الحائز على جائزة لجنة التحكيم في مهرجان ” كان ” 76 – للعرض في فرنسا، والذي إختاره النقاد ، من خلال إتحاد جمعيات النقاد السينمائيين في العالم ” الفبريسي” ، ليكون أفضل أفلام العام 2023 عن إستحقاق وجدارة، كما إختارته إدارة مهرجان القاهرة السينمائي ليعرض على الجمهورفي الدورة القادمة 45 من المهرجان في نوفمبر؟..
فيلم ” الأوراق الميتة ” هو الفيلم الروائي الطويل الـ 19 من إخراج آكي كوريسماكي المخرج الفنلندي الشاعر العظيم، الذي يعتبر أحد روّاد ما أطلق عليه الناقد الفرنسي الكبير ميشيل سيمون “حداثة السينما المعاصرة” في كتابه ” كوكب سينمائي صغير”..
الحب في زمن الحرب
يحكي فيلم ” الأوراق الميتة ” عن الحب في العاصمة الفنلندية هلسنكي، من خلال لقاء بين عاملة في سوبرماركيت، وعامل لحّام كهربائي بسيط مدمن على الشراب، في تلك العاصمة الباردة الموحشة الكئيبة،ويفتح كوريسماكي فيلمه في أول لقطة على العاملة التي تلتقط عند خروجها بعد إنقضاء ساعات العمل وهي لاتدري أنها تحت مراقبة أحد رجال الأمن والحراسة، تلتقط من صندوق القمامة بعض الأطعمة التي ماتزال صالحة للأكل، ثم تمضي الى منزلها، وتقوم بتسخينها، وعندما تفتح الراديو نستمع معها الى نشرة الأخبار، التي لاتحكي إلا عن الحرب التس تشنها روسيا على أوكرانيا، ومشاهد الدمار، وقصف السكان الأوكرانيين الآمنين العزل، مما يبعث على الأسى والألم والحزن،ونتعرف من خلال المشهد على تلك العاملة التي تعيش وحدها في شقة صغيرة، وتعاني من الوحدة، والبرد،وإنقطاع التواصل في تلك المجتمعات الغربية الرأسمالية الإستهلاكية الأنانية، والحاجة الماسة الى الحب في زمن الحرب..
في هذا الفيلم ” الأوراق الميتة “- THE DEAD LEAVES– الذي شاهدناه في مهرجان ” كان ” 76 وأعجبنا به كثيرا، وصفقنا له طويلا، وكان يستحق الفوزبسعفة ” كان ” الذهبية، بل وكل الجوائز،يحكي كوريسماكي كعادته وفي كل أفلامه عن حال الهامشيين المعذبين، من العمال البسطاء، من طبقة البروايتاريا الرثة، بلا عمل أو سكن، في مجتمعات الإستهلاك الغربية، ويصل فيه كوريسماكي في رأينا ،الى قمة فنه، وربما كان يضع أيضا من خلال فيلمه ذاك ” وصيته الأخيرة” كمبدع سينمائي فنلندي عالمي كبير..
كيف ؟..
من خلال ” التكثيف ” الحاد في فيلمه ، والإقتصار على تصوير ماهو جد ” ضروري ” من عناصر الفيلم، ليقدم في النهاية عصير سينما، في ما هو أقرب الى عمل الفنان الرسام، مثل الهولندي فان جوخ، وكأنه يرسم لوحة، ويضع ضربة فرشاة الألوان في محلها، وموقعها بالضبط ، من دون إطالة أو ثرثرة ، ورغي وحكي فاضي ، في سيناريو عقيم،وإستعراض عضلات إخراجية، كما في جل أفلامنا المليئة بالعويل والمظاهرات والصراخ ،والخطب العصماء، وتصبح هكذا، أقرب الى فن الراديو ، منها الى فن الفيلم، فن ” الإقتصاد” عن جدارة..
وكذلك من خلال ” الإحالات ” أو ” الإشارات ” المستحدثة في فيلمه الى فن السينما، من عند إسم الفيلم بداية، الذي يحيل الى أغنية فرنسية شهيرة بنفس العنوان من تأليف الشاعروكاتب السيناريو الفرنسي العظيم جاك بريفير، وتلحين جوزيف كوسما، وغناء الممثل والمغني الفرنسي إيف مونتان، ترسم بكلماتها وموسيقاها أجواء النوستالجيا أو الحنين، في خلفية الفيلم، وكما في الإشارات التي يتضمنها الفيلم، مثل أفيشات الأفلام المعلقة على مدخل قاعة السينما ،التي يلجأ إليها الحبيبان في الفيلم، للمخرجين المشاهير الكبار.مثل أفيش فيلم ” الإحتقار ” لجان لوك جودار، وتطل منه بريجيت باردو علينا، بل وكما حتى في الفيلم، من نوع أفلام السخرية والتهكم، من أفلام الرعب للأمريكي جيم جامروش، الذي يشاهده الحبيبان العاشقان داخل قاعة العرض ويعجبان به..
كما يتسامق كوريسماكي بفيلمه وفنه الى القمة، من خلال إبداع هذا العمل السينمائي، الأقرب مايكون – بقوة التركيز- الى قصيدة سينمائية، من قصائد الشعر العظيمة عند كافافي أو بريخت أو بابلو نيودا أو ناظم حكمت، لتلخص فلسفة حياة كاملة، وهي تجسد ” روح ” الشعب الفنلندي، و تقف في خندق البؤساء المقهورين المظلومين، يفتخر بعزهم، ويشيد بكرامتهم، وهو يطمح في نهاية مسيرته السينمائية الكبيرة، أن يكون ” الأوراق الميتىة “، الوصية الأخيرة لمخرج سينمائي ، و” حكيم ” من عصر مضى، وكان يا ما كان بحار، زرع حديقة على شاطيء البحر، فلما أثمرت، إنطلق في رحاب الله.
كوريسماكي والواقعية الفنلنديةالجديد ة
يعتبر آكي كوريسماكي أشهر مخرج في ” السينما الفنلندية” المعاصرة، إنه ” جان رينوار” فنلندا، كما إعتبرالمخرج الفرنسي فرانسوا تروفو، أن جان رينوار،هو الاب الروحي للسينما الفرنسية.اشتغل كوريسماكي فى حقل البناء كعامل بسيط – ” فاعل ” بالبلدي، قبل أن يكرس حياته للسينما،وصنع الأفلام..
ويحب آكى كوريسماكى أن يردده دائما عن السينما التى يضنع ، أنها سينما تنتمى بتوجهاتها إلى مذهب” الواقعية الجديدة ، فى ايطاليا ، الذى ارسى قواعد المخرجان الإيطاليان الكبيران فيتور ريودى سيكا، كما فى فيلمه ” سارق الدراجة ” ، والعملاق روبرتو روسولينى بأفلامه، مثل فيلمه ” التاريخي ” الأثير ” روما مدينة مفتوحة “. إلا أن هذه الواقعية الجديدة، التي تتضامن مع الفقراء والبسطاء في عالمنا فى افلام كوريسماكي المتميزة ،وتحمل بصمته وأسلوبه، كما يطلق عليها بنفسه “هي واقعية ملونة، بمعنى التفاؤل،والبهجة، والانفتاح على الحياة أكثر، وعدم فقدان الأمل، وعدم الاستسلام لكآبة الحياة، بالأبيض والأسود، بواقعيتها المكفهرة المعتمة،و يطلق كوريسماكى على افلامه أفلاماً ” رومانتيكية ” لانها تتوسل إلى رؤية” نبتة أمل” فى مستنقع الحاضر، وتتمسك بطوق نجاة صغير، حتى وهى تغطس رويداً فى بحر الحياة المتلاطم ، بمشاكلها وتناقضاتها ، وتلفظ أنفاسها الأخيرة . ويحب كوريسماكى أن يخرج المتفرج بعد مشاهدة فيلمه ، وهو أكثر حبورا وسعادة ، على الرغم من أنه لا يكف عن الترديد دوما، بأن السينما يجب أن تكون صاحبة موقف انسانى واخلاقى.ولايمكن فى مواجهة الواقع الاقتصادى الرأسمالي الأوروبى المتردى ، وبما فيه من أزمات وكساد وبطالة ، أن يقنع المخرج السينمائى بالقعود، بل يتحتم عليه، أن يساهم أيضاً فى الحرب المعلنة على البطالة ، بعنصر الخيال ، وابتكارته المدهشة،فى افلام تواجه مشاكل الحاضر،وتخاطب فينا ضميرنا الإنساني.
ستجد فى فيلم كوريسماكى دوما ، ابطالا على شاكلة الناس العاديين، فى أفلام السينما الواقعية العظيمة،التى صنعها فرانك كابرا فى امريكا ، وصلاح ابو سيف فى مصر، وفيتوريو دى سيكا فى ايطاليا ، وكما تعاطفت مع بطل فيلم ” سارق الدراجة ” من أفلام ” الوقعة الجديدة ” بعد الحرب العالمية الثانية في إيطالياللمخرج الأخير ، وتأسيت لحاله ، سوف تتعاطف مع العاشقين في فيلم ” الأوراق الميتة ” ، الذي يطور من محاولات فن السينما ، للإمساك بنبض الواقع الآنى – الآن – ومشاكله وتناقضاته ، بمنحى و” حس ” فكاهى جديد – تطوير فى الأسلوب والأداء – يذكرك فى تقشفه، واعتماده على “التلميح السينمائى” الذكى ،و”الاقتصاد “فى استخدام الحركة واللون والكلمة والايقاع – عناصر الفيلم المحكى – من دون افراط أو استعراض..
يذكرك بأسلوب المخرج الفرنسى روبيربرسون، فى استخدام “مفردات اللغة السينمائية “بأقل قدر، والتقليل إلى اقصى حد ،من الإبهار،وإن كنت من عشاق السينما السينيفيليين العتاولة، فسوف تتبين تأثير أفلام السينما الصامته وأفلام شارلي شابلن وبستر كيتون في كل أعمال كيروسماكي، و كذلك في وصيته الأخيرة في هذا الفيلم : إن في مواجهة الحرب والدمار، لاخلاص إلا بالحب ..
بقلم
صلاح هاشم . باريس
صلاح هاشم مصطفى كاتب وقاص وناقد سينمائي مصري مقيم في باريس.فرنسا.مؤسس ورئيس تحرير موقع “سينما إيزيس” الجديدة
***
عن جريدة ” القاهرة “. العدد 1214 بتاريخ الثلاثاء 24 أكتوبر 2023