لكل سينماه. فيليب فوكون وصورة العرب في السينما الفرنسية بقلم صلاح هاشم
أتذكر في إطار قضية “العباية” النسائية – العباءة – المثارة حاليا للجدل في فرنسا – بعد منع ارتدائها نهائيا من قبل الطالبات في المدارس الفرنسية بقرارمن وزير التعليم الفرنسي جابرييل آتال، وإعتبارها رمز لإعتناق الدين الإسلامي، وهو أمر لايسمح به ، وغير مقبول،في مجتمع علماني وفرنسا الجمهورية – عندما طلب مني ذات سنة أحد مدراء المهرجانات السينمائية الكبيرة في مصر ، وكنت أعمل آنذاك مندوبا وممثلا لها في فرنساأن ارشح مخرجا فرنسيا معاصرا ليكون محلا لتكريم وحفاوة المهرجان..
ففكرت في التو في فيلم ” سامية ” و المخرج الفرنسي الكبير فيليب فوكون،الذي يعيش في مارسيليا،غير أن الظروف التي عاشتها مصر في فترة إنتشار وباء الكوفيدا، حالت تلك السنة دون حضوره..
إخترت فيليب فوكون بالذات مخرج فيلم ” سامية”عام 2000وأكثر من 15 فيلما، لأن العرب أوالمهاجرين العرب في فرنسا،أو الفرنسيين من أصل عربي، سمهم ما شئت،سوف تجدهم موضوعا وأبطالا لجل أفلامه، ومنذ أن شرع هذا المخرج الفرنسي الكبير (من مواليد مدينة وجدة المغربية في 26 يناير 1958) يخرج فيلمه الروائي الأول ” الحب ” AMOUR..
ولأن كل أفلامه كما كتبت ونشرت وحاضرت عنه من قبل، مثل فيلم”سامية” SAMI أوفيلم “فك الاندماج “DESINTEGRATION” وفيلم ” فاطمة ” عام 2015 وفيلم ” الحركيون ” 2022 ، تحكي عن طموحات واحباطات وآمال كبار كثيرة، للجالية العربية في فرنسا، واغلبها من الجزائريين او المغاربة ، وهي تتحطم وياللأسف ،على صخرة الواقع الفرنسي ..
ذلك الواقع، الذي فشل فشلا ذريعا، وعبر حكوماته المختلفة ومنذ فترة الستينيات ولحد الآن ، في عملية ” دمج ” المهاجرين العرب في اطار المجتمع الفرنسي المتعدد الاثنيات والثقافات ..
كما فشل في مواجهة وعلاج الآثار، التي ترتبت على الحرب الاستعمارية في الجزائر – جرح فرنسا الكبير الذي مازال يدمي – ونتائجها وويلاتها، كما يكشف فيليب فوكون في فيلمه الاثير (الخيانة LA TRAHISON)..
هذا الفيلم لذي نعتبره من أبرز الافلام التي تناولت علاقة السينما الفرنسية بالتاريخ الفرنسي، من خلال الحرب التي كان الكل في فرنسا -إعلاما وشعبا- يتجنب الحديث عنها، حتى صار أسمها ( حرب بلا إسم) ويعنى بها حرب الجزائر، حرب القتل والدمار والتشريد والتعذيب، كما نشاهد في فيلم ” الخيانة “..
فالعربي، ولنتحدث عن الحاضر الفرنسي الراهن، وبخاصة اذا كان من أصل جزائري أو مغربي، يشعر من خلال تعامل الفرنسيين معه بأنه أجنبي غريب منبوذ،والويل كل الويل، لمن يكون أسمه محمد أو مصطفى أو يكون أسمها فاطمة،عندئذ تغلق أبواب العمل والسكن في وجهيهما،وينظر اليهمابنظرةاستعلائية لاتخلومن اشمئزاز، واحتقاروبغض..
ومن هنا هذا السخط العارم، على المجتمع الفرنسي الحالي من قبل ابناء المهاجرين الذين ولدوا في فرنسا، والذين يصور فيليب فوكون مشاكلهم من خلال بورتريه لفتاة عربية مراهقة ، في فيلمه البديع ” سامية ” ،الذي يطرح سؤال الهوية..
فسامية تقف حائرة في المنتصف بين مجتمعين، المجتمع الفرنسي الخارجي الذي لايجد انها لاتصلح الا ان تكون مجرد عاملة تنظيف في فندق، اوعاملة في سوبرماركيت ويلفظها، ويظهر ذلك في أول مشهد من الفيلم ، حين يتحدد مصيرها بتعلم مهنة، ولايترك لها هامشا للاختيار..
والمجتمع العربي المحافظ التقليدي الديني المتزمت المتقوقع على ذاته، في انتظار العودة الى البلاد (الجزائر) ، ويعيش في وهم العودة ،التي لاتتحقق ابدا..
وهنا تشعر ” سامية ” بأنها غريبة، ومجرد ” خادمة ” جد مستلبة،و مكرسة فقط لخدمة الأخ الأكبر حارس القيم ،والتقاليد الرجعية المرعبة..
هذا الاخ الذي يصفعها بقسوة،ويضربها ويراقبها أينما ذهبت،ويقمعها، فتشعر بانها خرقة او ممسحة للكنس والغسيل والطبخ والاعمال المنزلية المهينة التي تحط من قيمتها،وبانتظارالاهانة الكبرى،حين تساق كما تساق الاغنام للذبح، الى عيادة أحد الأطباء، لكي يجري عليها ” كشف عذرية “،حتى تهنأ أمها الممتثلة ياعيني ويرتاح بالها !!..لكن ” سامية ” تقلب الطاولة، وتضرب كرسيا في الكلوب،وترفض أن يكشف عليها، لأن عذريتها هي أمر يخصها وحدها، إنها مسألة مبدأ،وشرف،وتكبر سامية في نظرنا في التو، وتشمخ هكذا بكرامتها..
سينما البحث عن الحقيقة
أفلام فيليب فوكون تستحق المشاهدة عن جدارة، ليس لأنها تعالج او تتطرق لموضوعات عربية، او تناقش قضايا تهم الفرنسيين كما تهم العرب، مثل قضية “حرب الجزائر” التي يناقشها في فيلمه الأثير “الخيانة”، من خلال منطق تأملي بديع، على عكس أفلام الحرب من انتاج هوليوود التي تنحو نحو الاثارة والصخب والعنف، بل لأن أفلامه، الى جانب ماتعرضه من ” تشريح ” للمجتمع الفرنسي، وبكل مافيه من تناقضات – يكون لها تأثيراتها على انتشارظاهرة ” الاسلاموفوبيا ” أو الخوف من الاسلام، والتي قد يؤدي احتقانها أو استفحالها كظاهرة الى خلق أو صناعة ” إرهابيين ” من الجيل الثالث الحالي من المهاجرين،كما يعرض فيليب فوكون لذلك في فيلمه البديع ” فك الارتباط ” ..
سينا فيليب فوكون ” سينما ” تنحاز الى الحقيقة، ولاتجامل، بل توظف السينما كأداة للتأمل والتفكير في مشاكل عصرنا ومجتمعاتنا كما يقول المخرج والمفكر الفرنسي الكبير جان لوك جودار، لتكون مرآة للـ ” الضمير “السينمائي، وتقربنا أكثر من إنسانيتنا..
ويتميز البناء الفيلمي عند فيليب او في أغلب أفلامه باللقطات القصيرة المركزة والطرح ” الفكري الفلسفي ” المتماسك الرصين، ويبدو ذلك جليا في فيلمه ” فك الاندماج ” الذي أعتبره أشبه مايكون بـ ” وثيقة اتهام ” للمجتمع الفرنسي الحالي، والفيلم من انتاج 2011 ..
خطاب الارهاب في فرنسا
حيث يقدم الفيلم في رأيي أفضل خطاب عن الارهاب في السينما الفرنسية ولحد الآن، ويشرح لماذا يتحول بعض ابناء المهاجرين الى ارهابيين،وهناك شهادة مرعبة لبطل الفيلم تكشف عن خيبة أمل ومرارة تجاه المجتمع الفرنسي ” الظالم “، كما يكشف الفيلم عن عملية اختراق للمجتمع الفرنسي من قبل الجماعات الجهادية الاسلامية الارهابية المتطرفة،ويبين ان تجنيد البعض، قد لايحتاج ان يكون القائم على هذا الأمر من أصحاب الذقون، بل يمكن أن يكون شخصا عاديا بملابس عادية، وبدون لحية وقد تبدو أفلام فوكون للبعض أحيانا بأنها أفلام ” صادمة ” تخبطك ، وتكتم على انفاسك وتمضي سريعا الى الهدف المنشود، من دون تباطؤ في السير،ومن ثم فإنها لاتترك لنا فرصة أحيانا كما ، يقول البعض من النقاد، بسبب ايقاعها هذا، لكي نتعاطف أو نتماهي مع أبطالها،كما في فيلم ” سامية ” مثلا..
الا اني لا أنحاز الى هذا الرأي تماما ، واعتبر ان الاقتصاد في الوصف والسرد،من أهم شروط السينما الجيدة،ويقربها أكثر – كما في أفلام فوكون – من روح الشعر..
ذلك لأن فوكون لايريد منا أن نحب أفلامه ، القريبة من روح السينما الوثائقية ، ونقبل عليها ،ونعجب بها وبابطالها (الغلبية العظمي من الممثلين في افلام فيليب فوكون هم للعلم من غير المحترفين ! مما يعطيها بعدا واقعيا أكبر ومصداقية أعمق)، بل يريد منا بالأحرى أن ” نفهم ” أفلامه، ونستوعبها، وندرسها، ونغوص أكثر وأعمق وأبعد في فكرها..
ومن هنا تمثل هذه الافلام لفيليب فوكون في رأيي وعن قناعة، ” إضافة ” حقيقية الى تيار السينما الواقعية الانسانية في فرنسا،من عند عرّاب و شيخ المخرجين الفرنسيين جان رينوار، مرورا بفرانسوا تروفو وآنياس فاردا وجان اوستاش وموريس بيالا وإيف بواسيه وروبير جيديديان وغيرهم
كما انها تبرز بعدا من أبعاد ذلك التنوع الفني الهائلDIVERSITE التي تتميز بهاالسينما الفرنسية العريقة، التي يجزم البعض مثل المخرج الفرنسي الكبيرالان رينيه، بأنها أهم سينما في العالم، وأعتقد أنه لم يجانبه الصواب..
صلاح هاشم.باريس
صلاح هاشم مصطفى كاتب وناقد ومخرج سينمائي مصري مقيم في باريس.فرنسا
**
عن جريدة ” القاهرة ” – رئيس التحرير طارق رضوان – بتاريخ الثلاثاء 5 سبتمبر 2023