مهرجان ” كان “. أطلس السينما المعاصرة بين التاريخ والسياسة بقلم صلاح هاشم
صلاح هاشم
مهرجان ” كان “
أطلس السينما المعاصرة بين التاريخ والسياسة
الفصل الأول
الإستجواب
ماذا يعني مهرجان ” كان ” السينمائي بالنسبة لك ، وبدءاً من أي عام بدأتَ تذهب إلى كانّ، وماذا ترك من انطباع أو صورة، من دورتك الأولى، تحتفظ بها في ذاكرتك الشخصية؟..
هذا هو السؤال الأول، في رسالة وصلتني منذ يومين من ناقد لبناني ، ضمن مجموعة من الأسئلة على شكل “إستجواب”، وكان فكر بعد الاعلان عن إلغاء الدورة 73 لمهرجان ” كان “، التي كان من المنتظرأن تعقد في الفترة من 12 الى 23مايو،أن يكتب سلسلة حوارات مع بعض الصحافيين والنقاد العرب ” ومن ضمنهم كاتب هذه السطور، الذين غطوا وتابعوا دورات مهرجان ” كان ” منذ فترة طويلة،وكتبوا مثلي عن أفلامه وأحداثه للعديد من الصحف والمواقع والمجلات والدوريات العربية
واشتمل الإستجواب على الأسئلة التالية:
1- ماذا يعني مهرجان ” كان ” السينمائي بالنسبة لك، و بدءاً من أي عام بدأتَ تذهب إلى كانّ، وهل من انطباع أو صورة من دورتك الأولى تحتفظ بها في ذاكرتك الشخصية؟
2 – هل تغيّر مهرجان كانّ كثيراً منذ أول مرة شاركت فيه؟ إلى الأفضل أو الأسوأ؟
٣ – اذا بدأتَ جملتي بـ”كانّ ليس فقط أفلاماً، ولكن أيضاً”… ، كيف تُكمل هذه الجملة، وما الذي تحب أن تضيفه اليها ؟
4- كانّ مهرجان فيه الكثير من الضغط والإرهاق. كيف توزّع وقتك وجدول عملك عادةً، لتستطيع الخروج بأفضل حصيلة في ظلّ كلّ هذا؟
5 – كم فيلماً تشاهد عادةً في اليوم؟ وما هو أكبر عدد من الأفلام شاهدته في يوم واحد؟ وهل هذا النوع من المشاهدة المتتالية منصف للفيلم؟
6 – إلامَ تسنتد لاختيار الأفلام التي تريد مشاهدتها؟ اسم المخرج؟ ما سمعت عنها؟ توقيت العرض؟ القسم الذي تُعرض فيه؟
٧ – هل توافق أنّ أهم أفلام العام تُعرض عادةً في مهرجان كانّ؟
8 – هل في بالك لقاء ،ترك فيك أثراً عميقاً، يمكنك أن تشاركه مع القراء؟
٩ – هل من فيلم أغضبك فوزه بـ”السعفة”؟ وفيلم أسعدك فوزه بـ”السعفة”؟ وهل تولي عادةً أهمية للجوائز، أم أنّ هذا شأن ثانوي بالنسبة اليك؟
١٠ – ألم تمل من العودة مراراً إلى كانّ كلّ عام؟ هل شعرتَ يوماً بالتكرار وفكّرتَ بعدم العودة؟
11 – هل من دورة حفرت في ذاكرتك أكثر من غيرها؟
١٢ – هل كنت فضّلتَ أن يُعقد مهرجان كانّ افتراضياً هذا العام، بدلاً من أن يُلغى؟ أرجو توضيح السبب في الحالتين؟
هنا سوف يجد القاريء إجابة على السؤال الأول،ليس فقط في ” الإستجواب” بل والعديد من التساؤلات الأخرى، التي يمكن أن تكون قد طرأت أيضاعلى ذهن البعض، ومن دون أن يسألوا..
حيث أن مهرجان ” كان ” السينمائي العالمي
***
يعني الكثير والكثير بالنسبة لي، كناقد سينمائي مصري، ضمن ثلاث مؤسسات سينمائية كبيرة، كان لها أكبر الأثر في حياتي، وسيرتي المهنية الطويلة ، الا وهي أولا قاعة عرض ” سينما إيزيس ” في حي السيدة زينب بالقاهرة، التي كنت أشاهد فيها- ولم أبلغ بعد السادسة من عمري- الأفلام الأجنبيةفي فترة الخمسينيات..
مثل فيلم ” كوفاديس ” و ” السيرك” و” الأشقاء الشجعان” و ” الرداء” و” عوليس ” و ” كازابلانكا” و” وحش البحيرة السوداء” و” دراكيولا” و “شمشون ودليلة ” و” فيرا كروز” و ” القرصان الأحمر ” و ” طرزان ” وأفلام شارلي شابلن، وحتى “المسلسلات السينمائية” القديمة التي كانت تعرض في سينما إيزيس على شكل حلقات ( 30 دقيقة للحلقة ) مثل مسلسل ” شازام ” و ” كابتن مارفل ” وأفلام شابلن القصيرة القديمة، واعتبر قاعة سينما إيزيس بمثابة ” المدرسة ” التي تعلمت فيها عشق السينما وحب الحياة والأفلام، والنهل من بهجتها.وكنت اخرج مع الأطقال الأشقياء من حينا العريق ” قلعة الكبش “- بجوار مسجد أحمد بن طولون- في السيدة زينب بعد مشاهدة الفيلم ، لنعيد تمثيل بعض مشاهد أفلام ” الوسترن ” و ” الكاوبوي ” و ” طرزان ” و ” كابتن مارفل” ونتشاجر مع أطفال حي ” طولون” المجاور لحينا..
ثم ” السينماتيك الفرنسي ” دار الأفلام أو الأرشيف السينمائي لصاحبه هنري لاجلوا العظيم،الذي كان يقع في حي ” التروكاديرو” في باريس،وصرت أتردد عليه منذ أن هبطت الى باريس في بداية السبعينيات، وشاهدت فيه روائع الأفلام الكلاسيكية القديمة مثل فيلم ” المدرعة بوتمكين “للروسي ايزنشتاين و ” ميلاد أمة ” للأمريكي جريفيث، وأعظم الأفلام في تاريخ السينما الصامتة مثل ” محاكمة جان دارك ” للدانمركي كارل دراير، وحتى ذلك الوقت ،كنت اقرأ عن هذه الأفلام فقط في الكتب..
ثم يأتي ثالثا دور مهرجان كان” السينمائي،”كوكب” السينما،وأكبر تجمع للسينمائيين من ممثلين ومخرجين ونجوم ومنتجين وموزعين ونقاد من أنحاء العالم، انه ” الكعبة ” الفنية الثقافية الفكرية، إن جاز التعبير- ولم لا ؟ – التي يحج اليها، كل من يعمل في المجال السمعي البصري الاعلامي العالمي(أكثر من 6000 صحفي كل سنة ) و” أطلس ” السينما العالمية، من دون جدال، حيث يحتل مهرجان ” كان ” المرتبة الثالثة في المكانة والضخامة والأهمية، كحدث اعلامي دولي، بعد ” الدورة الاوليمبية” ،و نهائيات ” كأس العالم في كرة القدم..
ولابد هنا من التذكير بأن مهرجان ” كان ” تأسس أصلا ومنذ دورته الأولى عام 1946 ليكون ” تظاهرة سينمائية عالمية” ضد الفاشية، ومن أجل توظيف النجوم، لخدمة ” سينما المؤلف”- السينما التي يصنعها المخرجون بكامل حرياتهم، وتكون ممارسة لقيمة “الحرية “في أعلى أشكالها- والدفاع عن ” حرية التعبير ” والإبداع في العالم.بدأت اتابع مهرجان ” كان ” منذ عام 1979 لمجلة اسبوعية عراقية كانت تصدر من لندن، وكانت هذه هي المرة الأولى التي أحضر فيها المهرجان وكان لها بالطبع أكبرالأثر في نفسي، فقد شاهدت فيها مجموعة من الأفلام التي الروائع التي لاتنسى، مثل فيلم ” القيامة الآن ” للأمريكي فرانسيس فورد كوبولا الذي حصل مناصفة مع فيلم ” الطبلة ” للألماني فولكر شلندورف على ” سعفة ” كان ” الذهبية.ثم بدأت أتابع دورات مهرجان ” كان ” بإنتظام ومنذ عام 1981 لمجلة ” الوطن العربي ” الاسبوعية اللبنانية، التي كانت تصدر من باريس في فترة الثمانينيات لصاحبها اللبناني الأستاذ وليد أبو ظهر، وكانت أول مجلة إسبوعية عربية تهاجر الى باريس، ويترأس تحريرها وقتذاك الصحافي د.نبيل مغربي. و كان يكتب للمجلة قامات فكرية وابداعية كبيرة، من أمثال الشاعر نزار قباني والشاعر محمود درويش والكاتب والمفكر السياسي اليساري المصري البارز لطفي الخولي والكاتب الكبير يوسف إدريس، وشيخ النقاد السينمائيين- بالنسبة لجيلي من الكتاب والنقاد المصريين – د.صبحي شفيق وغيرهم ، وكانت ” الوطن العربي ” جامعة صحفية كبيرة، و” خلية نحل ” إعلامية، تخرج وعمل فيها مجموعة كبيرة من أبرز الكتاب والرسامين والشعراء والنقاد والصحافيين في الوطن العربي، من أمثال غسان الإمام وفؤاد حبيقة وجورج البهجوري والياس ديب ود.غالي شكري و شربل داغر وعباس بيضون وانعام كجي جي وطلال طعمة ومحمد رضا وقسمت طوران، وكنا نلتقي فيها بكبار المثقفين و المفكرين والكتاب العرب من أمثال محمود أمين العالم وأمير اسكندر ومصطفى مرجان وأحمد عبد المعطي حجازي وغيرهم، وكانت الحياة في المجلة في ( 33 ) شارع ماربوف في قلب شارع الشانزليزيه، أشبه ماتكون بموقع تصوير فيلم من أفلام ” الموجة الفرنسية الجديدة، في عرض الطريق ، كما في فيلم ” على آخر نفس ” لجان لوك جودار، والحركة في المكان – مصحوبة بصياح، ونداءات وأحاديث وذكريات عزيزة لاتنقطع، ولاعجب فقد كنا في قلب باريس ،عاصمة السينما في العالم، وفرنسا وطن السينما في العالم أيضا بلا جدال. وأتذكر انني التقيت في “التاباك” TABAC– مقهى ومنصة صغيرة لبيع الدخان،المواجه للمجلة، وأكثر من مرة بالممثل الفرنسي الكبير لينو فينتورا، وكان يقف في طابور شراء السجائر، فكنت كلما التقيته- كنت أخجل من أن أزعجه- كنت أهز رأسي له محييا فقط، كما التقيت في ذات الطابورالمخرج الفرنسي الكبير فرانسوا تروفو( 400 ضربة ) والذي كان مكتبه، في شركة الانتاج التي يملكها وتمول له أفلامه، يقع على بعد خطوات من مجلة ” الوطن العربي “.ولاشك أن تلك المناخات الثقافية والفنية والفكرية التي كنا نعيشها في المجلة وفي قلب عاصمة النور باريس، عاصمة السينما في العالم ومن دون جدال، هي التي شكلت وجداننا،وصقلت مواهبنا وقدراتنا الابداعية ،لنتواصل من خلال الانفتاح على السينما- حضارة السلوك الكبرى كما أحب أن أسميها- وكل المعارف الجديدة، مع أجيال من القراء وعشاق السينما في العالم العربي والعالم، وبفضل ذلك ” الشغف المعرفي ” الكبير، ولاشك أن الحديث عن ذكرياتي عن دورة المهرجان عام 1981 التي حضرتها وبشكل احترافي، بمعنى أني كنت الصحفي الوحيد المعتمد لمجلة ” الوطن العربي “- يعتمد المهرجان صحفي واحد فقط لكل مطبوعة- لكن هناك العديد من الاستثناءات بالنسبة لبعض الصحف والدوريات الكبرى مثل جريدة ” اللوموند ” الفرنسية ..
الفصل الثاني
مهرجان ” كان ” ضد الفاشية ومع الديمقراطية والعالم الحر
( سوف يكون مهرجان كان في المستقبل صورة نموذجية للمجتمع الدولي، الذي لايتحدث فيه الناس مع بعضهم البعض إلا بلغة واحدة مشتركة هي لغة السينما )
الأديب والشاعر والمخرج الفرنسي الكبير جان كوكتو
**
ان مالا يعرفه البعض، وقبل الإجابة على بقية الأسئلة التي وردت في “الإستجواب”، أن مهرجان “كان” السينمائي ،كان في قلب السياسة منذ نشأته، وضد الفاشية، وهو يوظف نجوم السينما، لخدمة سينما المؤلف، والدفاع عن حرية التعبير والإبداع في العالم، بل وربما كان، كما يروج البعض في الخفاء مجرد ” واجهة ” سينمائية فقط، لكنها تخفي خلفها، منظمة فرنسية فوضوية سرية، للدفاع عن الحريات الأساسية في العالم من خلال السينما.؟.
مهرجان «كان» ضد الفاشية
قد لا يعرف البعض أن مهرجان “كان” الذي يعتبر الحدث الإعلامي الثالث في العالم بعد نهائيات كأس العالم في كرة القدم والدورة الاوليمبية، ارتبط بالسياسة منذ نشأته، بل لقد ولد في أحضان السياسة والدبلوماسية، ليكون “أداة” وسلاحا في الأساس، لمقاومة الفاشية، ومحاربة النازية: كمذهب سياسي عنصري للحكم، يعلي من قيمة الجنس الآري..
ولد “مهرجان كان” في فينيسيا ايطاليا الفاشية، التي كان ينظم فيها منذ عام 1895 مهرجان باسم “بينالي الفن”، وفي عام 1932 انضمت إليه تظاهرة جديدة باسم “الموسترا” الدولية للفن السينمائي (مهرجان فينيسيا الحالي) لتكون مهرجانا سينمائيا بمسابقة بين الأفلام. لكن في عام 1938 فاز فيلم “آلهة الإستاد” للمخرجة الألمانية ليني ريفنستال بجائزة مهرجان “الموسترا”، فاحتجت وفود الدول الديمقراطية الحرة المتواجدة في المهرجان، لأن فيلم ليني هو فيلم عنصري وقح، ويروج بشكل فاضح للأيديولوجية النازية الهتلرية، ويعد نموذجا لأفلام البروباجندا النازية الفاشية الدموية الرخيصة، وقررت دول العالم الحر مثل امريكا وفرنسا وانجلترا مقاطعة المهرجان عندئذ، وعدم حضور دورة عام 1939 ، إذا لم يغير مهرجان فينيسيا من سياساته. وعندئذ خطرت علي بال فيليب ارلينجر المسئول عن الجمعية الفرنسية للعلاقات الثقافية الخارجية وممثل فرنسا في المهرجان، فكرة إقامة مهرجان بديل لدول “العالم الحر” في فرنسا، علي أن يقام المهرجان الوليد الجديد، إما في مدينة “بياريتز” الفرنسية أو في قرية فرنسية صغيرة على البحر اسمها “كان”.تقع في أقصى الجنوب..
الأسطول الأمريكي في خليج ” كان “
واستقر الرأي في النهاية علي تلك القرية الصغيرة للصيادين في الجنوب وتقرر بالفعل أن تبدأ الدورة الأولي لمهرجان “كان” السينمائي الدولي يوم 1 سبتمبر عام 1939، وبدأ نجوم السينما الأمريكية يتوافدون علي مدينة “كان” في نهاية شهر أغسطس لحضور الدورة الأولي، غير أن جيش هتلر قام بغزو بولندا يوم 28 أغسطس ، وأعلنت الحرب العالمية الثانية يوم 3 سبتمبر، فألغيت الدورة الأولي للمهرجان لحين إعلان انتهاء الحرب في الثامن من مايو 1945، وحينذاك افتتحت الدورة الأولي لمهرجان “كان” – (مهرجان الفيلم الدولي) – في العشرين من سبتمبر 1946 واستمرت حتي الخامس من أكتوبر، وعرض فيها فيلم “روما مدينة مفتوحة” للايطالي روسوليني، وهو من أقوي الأفلام السياسية في تاريخ السينما العالمية، وفاز في الدورة بجائزة المهرجان الكبري فيلم “معركة السكك الحديدية” للفرنسي رينيه كليمان. لكن وبسبب نقص في الموارد المالية ألغيت دورتي المهرجان لعامي 1948 و1950 ، وانتظمت من بعدها دورة المهرجان سنويا منذ عام 1951 ولحد الآن..
ومنذ بداياته الأولي وظروف نشأته، كان المهرجان تابعا لوزارة الخارجية الفرنسية التي كانت تضع بمعرفتها قائمة بالدول المشاركة، وكان لها الكلمة الأخيرة، وحق التدخل لتجنب حضور أفلام تلك الدول التي تتعارض سياساتها مع سياسة فرنسا الخارجية الدولية. وبعد أن انتهت الحرب لم تعد حدود “العالم الحر” كما كانت عليه، واعتمدت فرنسا علي “خطة مارشال” لكي تعيد بناء واعمار فرنسا من جديد، وكان المهرجان بحاجة ماسة إلي حضور الأمريكان بأفلامهم ونجومهم، فلم يكن من الممقول أن تقوم لآي مهرجان سينمائي دولي قائمة، او أن يحظي بأية شهرة ما، في حال غيابهم..
ولذلك نجد أن “الحضور السينمائي الأمريكي” وبخاصة في دورات المهرجان الأولي بعد الحرب مباشرة بدا طاغيا وكاسحا، حتى انه في دورة المهرجان لعام 1949 شاركت أمريكا ب12 فيلما في المهرجان، وشارك الاتحاد السوفيتي بفيلم واحد يتيم فقط، بل لقد سمحت إدارة المهرجان وقتذاك للأسطول السادس الأمريكي بان يرسو في خليج “كان” علي بعد اقل من ميل من قصر المهرجان الجديد، وأن تظهر سفنه في الأفق..
الروس في “كان” ضد “الصين” المحررة
ومنذ عام 1951 بدأت سلسلة من الاحتجاجات- في إطار الحرب الباردة بين أمريكا والاتحاد السوفيتي- علي السياسات الفرنسية غير المعلنة التي تتحكم في المهرجان. من ذلك مثلا احتجاج الوفد السوفيتي في نفس العام علي فيلم “أربعة في سيارة جيب” لليوبولد لينتبيرغ الذي يصور قوات الاحتلال في ألمانيا ومن ضمنها “الجيش الأحمر” الروسي، علي اعتبار أن الفيلم المذكور يطعن في “كرامة الشعب السوفيتي القومية”! كما تدخلت الإدارة السياسية الفرنسية في شئون المهرجان، ومارست ضغوطها لإقصاء فيلم “الصين المحررة” لسيرجي جيراسوموف لأنه يمجد حكم الرئيس ماوتسي تونج، ولم تكن فرنسا اعترفت رسميا بالصين بعد، فقامت صحافة الدول الشرقية بالهجوم علي المهرجان، واعتبرته مهرجانا مارشاليا (امريكيا) خالصا، وسوقا حقيقيا للسينما الأمريكية، وغادر الوفد السوفيتي المهرجان وظل مقاطعا له حتى عام 1954..
كما أن المهرجان ظل بأمر من الدبلوماسية الفرنسية يمنع مشاركة دولتي الصين الشعبية والمانيا الديمقراطية بأفلامهما في المهرجان حتي فك الحصار علي الصين ودعوتها للمشاركة في المهرجان عام 1957 ثم ألمانيا الديمقراطية عام 1965..
حرب الجواسيس
واستغلت أمريكا لفترة مهرجان “كان” للاقتراب من “الستار الحديدي” والتجسس على روسيا، فكانت ترسل ضمن أعضاء وفودها إلي المهرجان جواسيس لا علاقة لهم من قريب او بعيد بالسينما، وكان “البيت الأبيض” يختارهم بنفسه، ولم يكن هؤلاء الجواسيس يهمهم أمر السينما، بل لقد كانوا يجهلون كل شيء عنها..
وفي فترة الخمسينيات أثناء هيمنة “الماكارثية” نسبة الي السناتور ماكارثي- ومحاربة الشيوعية في أمريكا، كان هؤلاء الجواسيس لا يتجسسون علي أعضاء الوفد السوفيتي فحسب، بل كانوا يتجسسون ايضا علي أبناء جلدتهم، من الأمريكيين المتعاطفين مع الأنظمة التقدمية والشيوعية في العالم، ومراقبة تحركاتهم في إطار “النشاطات المعادية لأمريكا” كما كان يطلق علي أي نشاط مخالف أو معارض للمكارثية أنذاك..
وفي ظل تلك أجواء اعترض الممثل الأمريكي ادوار.ج. روبنسون عضو لجنة التحكيم في دورة المهرجان لعام 1953 علي فيلم اسباني بعنوان “مرحبا مستر مارشال” لأنه يحط من شأن بلاده أمريكا ويجعل المتفرجين يتهكمون ويضحون على غباء السياسات الامريكية، وطالب بأن يحذف المهرجان آخر لقطة في الفيلم، كما هدد بالاستقالة من لجنة التحكيم إن لم يرضخ المهرجان للأمر، فكان أن احتج العاملون في نقابة الفنيين الفرنسيين الشيوعيين علي الممثل عضو لجنة التحكيم ذاك، واتهموه بأنه “عميل جبان” يشتغل لحساب لجنة النشاطات المعادية لأمريكا، ومن سوء حظه أن الجمهور أعجب كثيرا بالفيلم ، كما أن لجنة التحكيم منحته جائزة أفضل فيلم ذو ” حس فكاهي ” في المهرجان..
ايف مونتان ممثل شيوعي ! و كان “منطقة حرة”
وفي نفس السنة إتهم الأمريكان أيضا المخرج الفرنسي هنري جورج كلوزو بأنه قصد من وراء الشركة التي أظهرها في فيلم “ثمن الخوف” بطولة ايف مونتان، وهي شركة ” ثازارن اويل كومباني أي (شركة البترول الجنوبية) التهجم على امريكا، كما اتهموه بأنه منح بطولة الفيلم لممثل فرنسي شيوعي (ايف مونتان). ويتضح من ذلك ان المهرجان وحتي ذلك الوقت، ظل بعيدا عن الدور “المثالي” جدا الذي تمثله الأديب والمخرج السينمائي الفرنسي الكبير جان كوكتو – مخرج “الحسناء والوحش” للمهرجان، وكان كوكتو شغل منصب رئيس لجنة التحكيم 3 مرات في المهرجان من قبل، ويتلخص هذا الدور في أن يصبح مهرجان “كان” بمثابة منطقة حرة FREE ZONE منطقة حرة لا تخضع مطلقا للسياسة، وأن يصبح المهرجان أيضا “صورة مصغرة وحسب قوله: “لما سوف يكون عليه العالم، حين يتواصل فيه البشر مباشرة مع بعضهم البعض، ويتحدثون بنفس اللغة. لغة السينما. لغة الصورة” وليس بخطاب الايديولوجية.”..
وكانت لائحة المهرجان حتى ذلك الوقت أي في فترة الخمسينيات تتضمن ذلك البند الخامس الشهير، الذي يقضي بأن تمنح إدارة المهرجان “حرية قص وحذف مشاهد بأكملها من الفيلم، أو حتي سحبه من المهرجان، إذا ارتأت احدي الأمم المشاركة في المهرجان انه يتعرض لها بالهجوم والطعن”. وخلال تلك الفترة الحرجة ، كان مهرجان “كان” في إطار الظروف السياسية الدولية المتوترة القائمة آنذاك والحساسيات والأعصاب المشدودة ورفض الأفلام بحجة أنها “دعاية خالصة” وبروباجندا للأنظمة، كان المهرجان في إطار تلك الظروف مهددا بالشلل والتوقف التام..
وحفاظا علي “المصالح السياسية الفرنسية” كان جهاز الرقابة يتدخل في أعمال المهرجان ومن ذلك انه في عام 1953 ، طالبت الرقابة المخرجين الفرنسيين آلان رينيه وكريس ماركر أن يحذفا بعض المشاهد من فيلمهما “والتماثيل تموت أيضا” من النوع الوثائقي لأنه مناهض للامبريالية، فرفضا، وسحبا الفيلم من المسابقة.
وفي عام 1956 تدخلت الرقابة مرة ثانية ومنعت عرض فيلم آلان رينيه الوثائقي”ليل وضباب” الذي يحكي عن معسكرات الاعتقال النازية في ألمانيا بأمر من “جهات عليا”، ثم تدخلت للمرة الثالثة في فيلمه الروائي الطويل هيروشيما حبي” وحذفت منه عام 1959 بعض المشاهد حتي لا يغضب الآخرون أي “الأمريكان” من الفيلم..
«كان» و انتفاضة 68
لكن في فترة الستينيات ومع رغبة الجنرال ديغول في الاستقلال عن دوائر القرار الأمريكية، وتوجيه السياسة الخارجية لفرنسا بشكل مغاير (وكان الجنرال انتخب رئيسا للجمهورية الفرنسية عام 1958 ،وهي السنة التي حصل فيها الاتحاد السوفيتي ولأول مرة – كانت المرة الأخيرة أيضا – علي الجائزة الكبري للمهرجان بفيلم “عندما تمر طيور البجع” لميخائيل كالاتوزوف) انتهزت إدارة المهرجان الفرصة، وبسرعة شرعت – على خطى ديجول – في الابتعاد عن أمريكا، وخلق نوع من التوازن والمساواة في حجم المشاركة الأمريكية والسوفيتية في المهرجان، وراح روبرت فافر لو بريه المندوب العام للمهرجان يختار الأفلام بنفسه من جميع أنحاء العالم..
غير ان المهرجان لم يحقق أي “نقلة نوعية” ويمكن أن تعتبر بمثابة “انقلاب” حقيقي إلا في أعقاب ثورة الطلبة عام 1968 فقد ولد مهرجان “كان” جديد عندئذ، مهرجان لا علاقة له البتة مع مهرجان “كان” القديم كما عهدناه. وبدأت صفحة جديدة في تاريخه. وكانت ثورة الطلبة في فرنسا عام 1968 انتقلت أو بالاحري هبطت آنذاك من باريس، وامتدت تأثيراتها في كل اقاليم وأنحاء فرنسا وأثرت أيضا في مهرجان “كان”، مما جعل من يوم 18 مايو عام 1968 يوما مشهودا في تاريخ المهرجان، حين طالب المخرجون المجتمعون في احدي قاعات المهرجان ومن ضمنهم المخرج والمفكر السينمائي الكبير جان لوك جودار – الذي يشارك بفيلم جديد له بعنوان “وداعا للغة” في الدورة 67 للمهرجان” – وفرانسوا تروفو ولوي مال ورومان بولانسكي وكلود ليلوش وغيرهم… طالبوا ادارة المهرجان أن يسدل الستار علي أعماله، وأفلامه، وأن يغلق أبوابه وقاعاته بالضبة والمفتاح، تضامنا مع أحداث “الانتفاضة الشعبية” التي تشهدها البلاد، وأن يتوقف المهرجان تماما وينهي أعماله ، فرضخت الادارة لمطالبهم وتم ايقاف المهرجان..
وقائع سنوات الجمر والانفتاح على سينما الجنوب
وكان السينمائيون الفرنسيون وقفوا قبلها بشهر” وقفة رجال” مع “هنري لانجلوا” مؤسس وصاحب السينماتيك الفرنسي الشهير. دار الأفلام.”أرشيف الفيلم الفرنسي” حين أرادت الدولة عزل لانجلوا، وتعيين رئيس جديد للسينماتيك من طرفها، وبدأت الدولة تتدخل في سياساته، عندئذ قام المخرج الفرنسي الكبيرجان رينوار ليزعق زعقته الشهيرة : “إن سقط السينماتيك، فسوف تسقط يقينا “آخر قلعة فنية فرنسية، ضد “رعب” السينما الامريكية التجارية الذي يريد أن يحولنا الي مسخ في بلادنا”. وقد تميزت الحقبة التالية – في فترة السبعينيات – بانفتاح أكبر لمهرجان “كان” علي السينما في العالم. حيث لم تعد الأفلام المختارة عندئذ تخضع لتحكم الدولة الفرنسية وتدخلاتها السياسية. وفي عام 1970 توج مهرجان «كان» فيلم ” ماش” للأمريكي روبرت التمان الذي ينتقد حرب أمريكا علي الفيتنام بسعفة “كان” الذهبية، وتميزت تلك الحقبة أيضا في تاريخ المهرجان في فترة السبعينيات بإنشاء تظاهرة “سينما الجنوب” لعرض الأفلام القادمة من دول العالم الثالث، وحصول فيلم “وقائع سنوات الجمر” للجزائري محمد الأخضر حامينا عام 1975 علي سعفة “كان” الذهبية. وكان حصوله علي تلك الجائزة كما قال في تأثر بالغ “أكبر دليل على ألاعتراف بوجود سينما العالم الثالث”..
جيل جاكوب يحقق “نقلة نوعية” للمهرجان
ويعتبر الكثير من المؤرخين السينمائيين ان التحاق الناقد السينمائي لمجلة الاكسبريس”جيل جاكوب” للعمل بالمهرجان والمشاركة في ادارته عام 1978 بمثابة قفزة نوعية جديدة للمهرجان كانت منتظرة منذ زمن.. حيث كشفت توجهات المهرجان في فترة الثمانينيات عن رغبة حقيقية في اظهار السينما كـ”ساحة للتبادل الثقافي السلمي بين شعوب العالم” كما كشفت عن رغبة حقيقية ايضا في العودة الي أصل فكرة إقامة المهرجان التي انبثقت عام 1939 للتفاهم والتبادل والتعاون بالسينما بين شعوب العالم الحر، والوقوف ضد النازية والفاشية والعنصرية. كما كشفت تلك التوجهات الجديدة بعد انضمام جيل جاكوب الي المهرجان عن تحول “البعد الدبلوماسي” في المهرجان القديم الي هدف معلن من أهداف المهرجان الجديد الأساسية، الا وهو: “المشاركة الفعالة” و بكل الوسائل المتاحة، لتحرير وإطلاق حريات المخرجين المؤلفين المبدعين – والشعوب أيضا – في العالم..
وهذا هو الهدف الأسمى ومنذ ذلك الوقت للمهرجان. ومنذ حصول فيلم “الرجل الحديدي” الذي يفضح النظام الشيوعي في بولندا لأندريه فايدا عام 1981 علي سعفة “كان” الذهبية، يمكن القول بأن مهرجان صار مهرجانا سينمائيا متخصصا في الكشف عن حال وأوضاع الحريات في العالم. في عام 1997 كشف المهرجان مثلا عن وضع الحريات في الصين، بعد أن قام النظام الصيني بمصادرة جواز سفر المخرج زانج يي مو ، ومنعه من السفر الي المهرجان لحضورعرض فيلمه. وفي عام 2006 قام النظام بمنع المخرج لو يي من تصوير أي فيلم في الصين لمدة خمس سنوات، لأنه جرؤ علي المشاركة بفيلمه “شباب صيني” في مهرجان “كان” من دون الحصول علي موافقة أولية من السلطات الصينية المعنية..
وقد أصبح مهرجان “كان” ومنذ عام 1981 يختار الأفلام التي تهمه، حتي لوكانت حكوماتها تقف ضدها، وهي تشد شعرها، وتعترض علي مشاركتها، بل لقد صار المهرجان لايتورع عن تهريب الأفلام مع أصحابها إلي المهرجان، ولتذهب الحكومات “الزائلة” الى الجحيم .. ويبقى الفن. وهكذا فعل المهرجان مع فيلم “يول” او “التصريح” للمخرج التركي الكبير ايلماظ جوني، فلم يقم بتهريب الفيلم فقط، واحضاره الى المهرجان، بل قام بتهريب مخرجه ايضا الذي كان يقضي فترة عقوبة في أحد سجون تركيا لكي يحضر الي المهرجان، ويتسلم جائزة السعفة الذهبية التي فاز بها فيلمه “التصريح” مناصفة مع فيلم “مفقود” للفرنسي من أصل يوناني كوستا جافراس..
صار مهرجان “كان” في عهده الجديد متخصصا في تهريب الأفلام والمخرجين والدفاع عن حرية التعبير والحريات الأساسية في العالم والحيلولة ضد تأميمها ونهبها من قبل الحكومات الديكتاتورية، وصارت توجهات “كان” منسجمة مع التوجهات السياسية الجديدة لفرنسا، وأبسط مثال علي ذلك اختيار فيلم “فهرنهايت 11-9 الوثائقي الطويل للأمريكي مايكل مور عام 2004 وعرضه في المهرجان. فلو كانت فرنسا انضمت الي قوات الحلفاء في حرب بوش علي العراق، وأرسلت جنودها الي هناك، وهذا لم تفعله، لما كان من الممكن اختيار الفيلم، ولكانت الإدارة السياسية الفرنسية وقفت حائلا دون عرضه. إن ذلك يعني أن المهرجان يظل هكذا محافظا علي حريته، طالما كانت فرنسا غير معنية بقصة الفيلم..
مولد سيدنا «كان»: مزار سينمائي للاحتفال بـ” أخوة الإنسانية
لقد صار مهرجان “كان” كما يقول تيري فريمو المندوب العام المسئول الآن عن اختيار أفلام المهرجان: “صار المكان الوحيد الذي تجتمع فيه كل أمم العالم أجمع، علي ذات الأرض السينمائية لفترة 11 يوما. صار شيئا أشبه ما يكون، ليس بمنظمة سرية فوضوية للدفاع عن حريات السينمائيين المبدعين وشعوب العالم، بل بمنظمة “الأمم المتحدة” العالمية في السينما”. هذه المنظمة أو الأمم المتحدة العالمية في السينما التي كنا ومنذ عام 1982 نحرص على حضور دوراتها، ومشاهدة أفلامها، ومعايشة أجوائها واحتفالاتها كل سنة، في ماهو أقرب ما يكون الى “حج” الى مزار قطب صوفي في بلاد السند أو الهند .. فليس هناك ماهو أعظم من ذلك الكرنفال السينمائي الفني السياسي العظيم .. الذي يقام في حضن البحر المتوسط الكبير .. للاحتفال بـ “أخوة الإنسانية” من خلال السينما .. والاختلاط في موكب “المولد” الكبير، بالحشد الانساني..