نحن جميعا في خطر. الحوار الأخير مع بيير باولو بازوليني بقلم فوريو كولومبو. إعداد وترجمة صلاح هاشم
بيير باولو بازوليني
أفيش فيلم إنجيل متى لبيير باولو بازوليني
أجري الحوار التالي الصحافي الإيطالي فوريو كولومبو، مع المخرج السينمائي الأيطالي الكبير بيير باولو بازوليني، قبل أن ترتكب جريمة قتله البشعة بساعات، ونشر الحوار أولا في ملحق “توتوليبري”، ملحق جريدة الإستمبا الإيطالية اليومية، يوم 8 نوفمبر 1975 ، وهو يحمل عنوان ” نحن جميعا في خطر “..
ثم صدر في كتاب عن دار نشر ” افجاليانو ” في روما عام 2005، بعنوان ” الحوار الأخير مع بازوليني “، تأليف فوريو كولومبو ، وجيان كارلو فيراتي، وكان الأخير ، كتب تقديما للكتاب،بعنوان ” 16 عاما من الذكريات مع بازوليني 1959 – 1975″، ويتضمن الكتاب في نسخته المترجمة الى اللغة الفرنسية، التي ترجمنا عنها هذه المقدمة، والصادرة عن دار نشر ” آليا” في باريس.فرنسا عامي 2010 و2014 ، لكنها تحتل هنا الجزء الثاني من الكتاب،بينما يحتل الحوار مع بازوليني الجزء الأول الذي نكتفي هنا بترجمته وحده..
**
نحن جميعا في خطر
إستهلال
دار هذا الحوار مع بازوليني مساء يوم السبت الموافق 1 نوفمبر عام 1975 بين الساعة 4و6 مساء، قبل ساعات من قتل بازوليني، وأحب أن أوضح هنا أن العنوان ” نحن جميعا في خطر ” الذي يتصدر الحوار، هو من كلمات بازوليني، وليس من كلماتي، فما حدث هو أنه في نهاية الحوار، وكما يحدث عادة في الحوارات التي أجريتها مع بازوليني، تكون هناك إختلافات في الآراء و القناعات ووجهات النظر، لذلك طلبت من بازوليني في نهاية حوارنا هذا ، أن يختار عنوانا له، ففكر بازوليني قليلا، ثم قال أن الأمر ليس مهما، ثم غيّر موضوع الحديث، ثم أن شيئا ما ،جعلنا نتطرق الى الحديث عن الموضوع الأساسي ، الذي طالما يدور ” الجدل ” بشأنه ، في كل إجابات بازوليني عن تساؤلاتي..” دعنا نناقش البذرة، لب الموضوع، وأساسه، في العمق – هكذا قال -إنك لاتعرف حتى من يدبر أمر قتلك !، لذا دعنا نضع عبارة ( نحن جميعا في خطر )لتكون عنوانا للحوار..”..وهكذا كان.
الدق المستمر على مسمار يؤدي الى إنهيار بيت
* في كل كتاباتك ومقالاتك ياسيد بازوليني، تمنحنا دوما نماذج متنوعة، للأشياء التي تكرههاوتمقتها، بعد أن إخترت طواعية الإلتزام بالنضال، النضال وحدك، ضد الكثير من الأشياءوالمؤسسات،والقناعات،والأشخاص والسلطات،ومن دون الدخول في تعقيدات، بشأن ما أريد قوله هنا..أتحدث عن ” الوضع ” LA SITUATION وأنت تعرف بالطبع، ماذا أعني بذلك. أعني بإختصار ” المشهد العام ” الذي تناصبه العداء، وتناضل ضده، ومن أجل تغييره. والآن دعني أعترض على موقفك من هذ الوضع ، لأن هذا الوضع يا سيد بازوليني،وبكل مافيه عيوب، هو الذي سمح لك بأن تكون بازوليني المخرج السينمائي الكبير، و المتعدد المزايا، والمواهب والإهتمامات ،والذي نعرفه ؟أوليس الوضع، كما نعرف،هو الذي يملك ،ويتحكم في، كل الوسائط الإعلامية، من دور نشر، وشركات إنتاج سينمائي، ومؤسسات ومنظمات الخ؟
.والآن دعنا نتخيل، أنك أصبحت فجأء صاحب قدرات سحرية هائلة، وتستطيع بحركة واحدة منك فقط،أن تجعل كل الأشياء تختفي عن الأنظار، ويختفي معها كل الأشياء التي تمقتها وتبغضها وتكرهها، ألن تجد نفسك ،بعد إختفاء ذلك” الوضع “يا سيد بازوليني وحيدا، ومن دون ” وسائط “، أعني وسائط تعبيرية ، وعاطلا عن العمل؟
– أجل.فهمتك. لكني لن أسعد فقط، بتجربة تلك الطاقة السحرية الهائلة، بل سأؤمن بها أيضا، ليس بالمعني الإعلامي، بل بالمعنى الإيماني، إن صح التعبير، لأني أعرف أننا نستطيع ،بالدق المستمر على ذات المسمار ، أن نهدم بيتا. ولدينا مثالا من خلال تجربة لأربعة راديكاليين فقط ،أربع قطط إيطالية – من رجال السياسة الحقراء- إستطاعوا تغيير ضمير أمة، وأنت تعرف أنني لا أناصرهم ، ومع ذلك أجد نفسي أسير – ياللعجب -في الطريق لحضور موتمرهم..
الذين قالوا لا دخلوا التاريخ من أوسع باب
إن التاريخ يمنحنا العديد من الأمثلة ،التي تثبت صحة ما أقول، فقد كان ” الرفض “يمثل دائما عبر التاريخ، موقفا أساسيا، للكثير من القديسين والرهبان والمثقفين كذلك.
إن العدد القليل من الرجال، الذين صنعوا تاريخ العالم، كانوا في الأصل من الرافضين، هؤلاء الذين قالوا ” لا “وليسوا من التابعين، من حاشية وخدم، الأسياد والأعيان والكرادلة.
ولكي يكون ” الرفض ” فاعلا، ومؤثرا ،يجب أن يكون يقينا رفضا كبير وقاطعا وشاملا، وليس رفضا صغيرا، ومحددا، ومرتبطا فقد بعدة نقاط عبثية، فالمؤكد أن الشييء الذي أدى الى هلاك الضابط الالماني النازي ” إيخمان “- المسئول عن أفران حرق اليهود في معسكرات الاعتقال النازية ” الهولوكوست”- هو أنه لم يكن يملك القدرة على قول ” لا ” لقادته العسكريين في القمة، على الرغم من أنه كان يقوم – من وجهة نظره – بعمل إداري وبيروقراطي، وعادي جدا. بل وربما كان بإستطاعة ” إيخمان “، أن يهمس لبعض المقربين من أصدقائه، بأن ” هملر ” مثلا لم يكن يعجبه، بكل هذا القدر..
كان بإستطاعة إيخمان أن يهمس، كما يهمس هؤلاء االمثقفين، الذين يتعاملون مع أجهزة الإعلام، ودور النشر، ونواب القادة والمدراء السياسيين. أجل كان يمكن لإيخمان، أن يحتج، بأن هذا القطار أو ذاك ،من القطارات التي كانت تقوم بترحيل اليهود الى معسكرات الإعتقال، لم يكن يقف إلا مرة واحدة فقط في اليوم ،لكي يهبطوا منه لقضاء الحاجة، وإبتلاع قضمة خبز، وشربة ماء..
بينما كان من المفيد إقتصاديا،لو أنهم فكروا قليلا، أن يقف القطار أكثر من مرة في اليوم، غير أن إيخمان، للأسف، لم يحاول ابدا، عرقلة سير ماكينة الهلاك ” الهولوكوست، ، أو إيقافها.
والآن ،لدينا في الواقع ثلاثة تساؤلات. ترى ماذا نقصد بـ ” الوضع “؟ وماهي الأسباب التي تدعونا الى إيقافه أو تدميره ؟، وماهي سبل تحقيق ذلك ؟
* حسنا ، صف لنا إذن ياسيد بازوليني هذا ” الوضع ” من فضلك، أنت تعرف أكيد أن كلماتك ومداخلاتك ولغتك،يكون لها دوما تأثير شعاع الشمس، الذي يخترق حجب التراب، ليشرق علينا بنوره، ..ويالها من صورة جميلة حقا، غير أنها في الواقع، لاتسمح لنا للأسف، برؤية أو فهم ، الشييء الكثير من كلامك..
المأساة التي نعيشها اليوم في إيطاليا
– أشكرك أولا على تشبيه كلامي بصورة الشمس المشرقة.والآن أريدك فقط، أن تتطلع من حولك، لكي تتأمل في، وتعي حجم المأساة، التي نعيشها اليوم في إيطاليا..
عن أي مأساة أتحدث ؟.عن مأساة، أنه لم يعد لدينا بشر الآن ، لدينا فقط، “ماكينات غريبة” ،تصطدم ببعضها البعض، بينما ننشغل نحن المثقفون، بتصفح جداول مواعيد القطارات في العام الماضي، أو مواعيدها، منذ عشر سنوات مضت،، ثم تجدنا نضرب كفا بكف، ونردد ، إن عجبا، كيف لقطارين، في ميعادين مختلفين، أن يصطدما ،وبشكل مروع هكذا ؟، إما أن يكون سائق القطار قد جن،..أو أن في الأمر ، جريمة ما مدبرة ، بمعنى أن هناك مؤامرة..
نظرية المؤامرة ومسئولية مواجهة الحقيقة بمفردنا
و ” نظرية المؤامرة ” في رأيي ،هي الأرجح، إنها هي التي تجعلنا نهذي وبجنون. لأن ” نظرية المؤامرة” سهلة ، ومريحة جدا لنا، لأنها تجعلنا نتحرر في الواقع،من عبْ ء وثقل، المهمة الملقاة على عاتقنا، في مواجهة الحقيقة، بمفردنا..
وياسلام، لو كان أحدهم يدبر في الخفاء، داخل جحر او كهف، ونحن منهمكين في الحديث، خطة ما، لكي يتخلص منا.وياله من أمر بسيط وسهل..
لابد من المقاومة.أجل .سوف نفقد بالطبع في تلك المواجهات بعض الرفاق، لكننا سنعيد تنظيم أنفسنا، لكي نشن بدورنا، حربا شعواء على أعداءنا، ونتخلص منهم بدورنا، أو ..مارأيك في، أن.. نذبحهم.. واحدا بعد الآخر.؟
أنا أعرف، أنه في كل مرة يعرض فيها التلفزيون فيلم ” هل تحترق باريس “، سوف تراهم- المثقفون – يذرفون الدمع، ويرغبون – بجنون – في أن يعود التاريخ، الى الوراء، يعود جميلا كما كان ، فميزة الزمن، أنه ” يغسل ” الأشياء، مثلما يغسل المطر واجهات البيوتات والدور.
وياله من أمر أمر سهل حقا، أن أكون أنا في خندق أو جانب، وتكون أنت في جانب أو خندق آخر.
أنا لا أمزح هنا ، حين أحكي عن الدم، وعن الألم ، وعن الثمن الذي دفعه هؤلاء، حتى تتاح لهم فرصة، أن يختاروا، بأنفسهم، عندما تجد نفسك، تصدع دماغك من التفكير عند ساعة، أو دقيقة معينة في التاريخ.أجل.لقد كانت عملية ” الإختيار” في التاريخ، دوما وأبدا، مأساة.
في الماضي،كان من السهل على الإنسان العادي في إيطاليا، أن يختار- بفضل شجاعته وضميره – النضال ضد الفاشية، في حكومة سالو..وهكذا إستطاع رد االفاشيين في حكومة سالو ، ومقاومة ضباط هتلر النازيين.. لكن لقد تغير كل شييء الآن.
الآن ستجد أحدهم، يلجأ اليك، وهو يرتدي قناع صديق، ويتظاهر بأنه مؤدب ولطيف، ويقدم اليك نفسه، فيقول أنه ” يتعاون ” فقط مع التليفزيون، لأنه يريد أن يكسب لقمة عيشه، وهي بالقطع ليست ” جريمة “، ثم يأتي اليك آخر- أو آخرون – ويواجهونك،بكافةإطروحات الإبتزاز الايديولوجية، ويلوحون لك بلافتاتهم وشعاراتهم، فتشعر بأنهم قد صاروا، يشكلون تهديدا، وتجد نفسك تتساءل، حسنا.. إن كان الأمر كذلك، ترى ما الذي يفصلهم عن ” السلطة ” ؟
السلطة تعني نظام تعليم
* ماذا تمثل ” السلطة ” بالنسبة إليك ؟ مم تتكون ؟ وأين توجد ؟ وكيف يمكنك تفكيكها لنا ؟
– السلطة هي نظام تعليم، يؤدي الى تقسيمنا الى سادة وعبيد، حاكم ومحكوم، ولكن لاحظ أن نظام التعليم هذا، يفرض نظام تعليم واحد للجميع، منذ تشكل ما نطلق عليه، بالطبقات الحاكمة، وطبقة المحكومين الفقراء. ولهذا تجد الآن أن الجميع يريدون ويرغبون، في ذات الأشياء، ويتصرفون جميعا ،بنفس الطريقة، فلو وقع في يدي مجلس إدارة إستعملته، ولو دخلت في مناورة في البورصة، أدرتها بمعرفتي ، لكن لو كنت أقبض على قضيب من الحديد، فسوف أستخدمه في الحصول على ما أريد بالقوة والعنف. لكن لماذ أريد ماذا أريد ؟ . لأنهم قالوا لي أن ما..أريده هو ” حسن ” جدا لي، وسوف أسعد بإمتلاكه،والحصول عليه. وعندما أتحصل علي ما أريد، سأكون حسب تعليمهم، تحصلت هكذا على حقوقي، وهو شييء أشبه مايكون عندهم بإنجاز ” فضيلة ” ما ، ولا يهم وقتها ، أن أكون قد أصبحت رجلا عاقلا وطيبا ، وقاتلا وسفاحا ، في ذات الوقت
* لقد إتهموك بأنك لاتفرق بين ماهو ” سياسي ” ، وماهو ” إيديولوجي “، ولم تعد تجد فروقا عميقة – لاشك أنها موجودة بالقطع – بين الفاشيين وغير الفاشيين، وبخاصة عند جمهور الشباب
– ولهذا السبب كنت أتحدث عليك منذ قليل عن دفاتر مواعيد القطارات، هل سبق لك مشاهدة تلك العروض الفكاهية التي يضحك لها الصغار كثيرا عندما تعرض فيها العرائس الماريونيت لجسمها، فيكون الرأس في ناحية ، والجسم في ناحية أخرى ؟ أعتقد أن الممثل الفكاهي الإيطالي ” توتو نجح في أن يفعل ذلك بجسمه في ” نمرة ” فنية في أحد عروضه، وأنا أري “قطيع المثقفين” الإيطاليين الجميل هكذا أيضا، أجسامهم في ناحية ، ورؤؤسهم في ناحية أخرى. تقع أحداث كثيرة في ناحية، بينما تتطلع رؤؤسهم الى الناحية الأخرى. أنا لا أقول.. لاتوجد فاشية. أنا أقول، لاتحدثوننا عن البحر، ونحن في الجبل. أنا أتحدث هنا عن ” وضع ” و” مكان ” آخر مختلف. مكان يجلعنا نشعر فيه، بالرغبة في القتل. إن هذه الرغبة في القتل، هي التي توحدنا جميعا هنا في إيطاليا، مثل مجموعة من الأخوة المتضررين، بسبب ذلك الفشل الفظيع الكئيب، لنظام إجتماعي بأكمله..
وأنا أيضا ،أحب أن أعزل نفسي عن هذا القطيع القذر من المثقفين الإيطاليين، الذي أراه جيدا جدا، أرى أصحابه، جميعهم، أعرفهم واحدا واحدا، ولحد السأم، حتى صرت أردد على صديقي الكاتب الروائي الكبير ألبرتو مورافيا، أن الحياة التي أخترت أن أحياها وسطهم، سوف أدفع ثمها غاليا جدا ، في مابعد، فقد كانت هذه الحياة هي ” الهبوط الى الجحيم ” – جحيم دانتي – بعينه. ولكني عند عودتي – إن كتبت لي عودة- من الجحيم، الذي شاهدت فيه أشياء مختلفة ، وبكثرة. أنا لا أطلب منك أن تصدقني. أطلب فقط منك، تغيير موضوع الحديث بإستمرار، لنتلافى مجابهة “الحقيقة” ..
فشل النظام الإجتماعي الإيطالي
* وماهي الحقيقة في نظرك ؟
– آسف لإستخدام هذه الكلمة ” الحقيقة ” ، أردت أن أقول ” البراهين ” التي تؤكد على فشل النظام الاجتماعي الحالي. دعني أضع الأشياء في موضعها الصحيح..والحديث عن تلك المآسي التي نعيشها في الواقع، وأولها مأساة التعليم العام الإجباري والخاطييء، هذا التعليم الذي يدفعنا دفعا – مثل جيش غريب وجرار ومكفهر– الى داخل تلك الحلبة التي يمسك فيها البعض بالقوانين في أيديهم، بينما يقبض البعض الآخر فيها على قضبان الحديد. وهذا هو أول ” تقسيم ” كلاسيكي من نوعه، تقسيم ” البقاء مع الضعفاء ” ، لكن أنا أقول إننا جميعا ضعفاء وبالتالي فنحن جميعا ” ضحايا “، و ” مذنبون” في ذات الوقت، و نحن أيضاعلى إستعداد للدخول وعن طيب خاطر في لعبة المذبحة، وبشرط أن يكون التعليم الذي تلقيناه، يتلخص في ثلاثة أفعال : أن تملك ، وأن تسعي للحصول على هذا وذاك، ، وأن تدمرDERRUIRE..
* دعنا نعود الى بداية الحوار، و السؤال الأول الذي طرحته عليك. دعنا نتخيل أنك بقوة ساحر، ألغيت كل شييء. ألغيت الكتب، التي تعيش من دخلها، وألغيت القراء من المستهلكين الذين يشترونها، وحرمت الناس، من سوق “المنتجات الثقافية” التي يعيشون على إستهلاكها ، وأنت تعرف ماذا أعني ،فأنت مخرج سينمائي وصانع أفلام، وبحاجة الى جمهور كبير، بل لقد ثبت من نجاح أفلامك ، وشعبيتها، أنك أصبحت ” مادة للإستهلاك “، وهناك جمور ينتظر بشغف، خروج أفلامك للعرض التجاري ، لإستهلاكك أيضا، أسألك ياسيد بازوليني ، ماذا سوف يحدث، وماذا سوف يتبقى لك ، لو ألغيت بلمسة من سحر، هذه الماكينة الصناعية الكبيرة، بكافة تنظيماتها ومؤسساتها وتقنياتها ؟
سوف يتسع العالم ونجد أمامنا ” بريخت “
– سوف يتبقى لي كل شييء، أعني ..سوف تتبقي لي روحي، وحياتي، وأن أكون في العالم، لكي أرى وأعمل وأتنفس، وأفهم وكل شييء. وسوف يتبقى أيضا، لو ألغيت هذه الماكينة الصناعية الإستهلاكية الجبارة، مائة طريقة لرواية قصة، ومائة طريقة للانصات الى لغات أخرى، ومائة طريقة لإختراع لهجات، ومائة طريقة لإقامة عروض لمسرح العرائس..
وسوف يتبقى الكثير الكثير، لأشياء أخري كثيرة، وسوف يتبقى أيضا للآخرين الكثير، فبعضهم مثلا – إن كان متعلما، أو جاهلا مثلي – سوف يعارضني، أو قد يوافقني في الرأي، وسوف يتسع العالم، و تسعي كل الأشياء، الى الإنتماء إلينا، و سنحد أنفسنا لسنا بحاجة الى ” بورصة ” أو مجالس إدارات ، أو قضبان من حديد..لكي نعيش..
وفي ذلك العالم ،الذي من الممكن ،أن تكون أغلبية البشر- من ضمننا – قد حلمت به، سوف يتواجد باترون – صاحب عمل- تنهمر الدولارات من جيبوب، وأمامه تقف أرملة مسكينة تطالب بالعدالة، لها ولأولادها، كما في مسرحية من مسرحيات الشاعر الألماني العظيم برتولت بريخت، وبإختصار.. سوف نجد عالم بريخت أمامنا..
* يبدو لي أنك تشعر بالحنين الى هذا العالم
كلا.أبدا. أنا أشعر بالحنين الى الفقراء، الذين يكافحون من أجل إسقاط صاحب العمل، ويشعرون بأنه ليس من الضروري، أن يصبحوا هم أنفسهم باترونات، لقد كانوا مقصيين عن كل شييء ،ولم يستعمرهم أحد، وأنا أكره السود الذين يتمردون على صاحب العمل، لكنهم يشبهونه كثيرا في ذات الوقت، مثل رجال العصابات، الذين يريدون كل شييء بأي ثمن،.. هذا ” العناد ” الضار، الذي يدفعنا الى طريق العنف الشامل، والذي يدفع أي شخص يكون على وشك الموت في المستشفيات، الى الإهتمام بمعرفة حظه من البقاء على قيد الحياة ، بواسطة الأطباء، أكثر من إهتمامه – عن طريق الشرطة – بمعرفة آليات – ميكانيزمات – الجريمة..
لقد توقفت منذ زمن عن البحث والتفتيش عن سبب فشل النظام الاجتماعي الإيطالي ومن يقفون ورائه، ومن يكون الفاعل، والمذنب الأكبر، وأعتقد أننا قمنا بتعريف ، بما كنا نقصده بالـ- ” وضع ” LA SITUATION – الذي يشبه كثيرا وضع مدينة ما ، عندما تمطر السماء فجأة، وتغرق فتحات المجاري ،ويبدأ الماء في الإرتفاع..
ماء بريء، مجرد ماء مطر بسيط ، فلا هو يثور ،كما تثور مياه البحر ، ولا هو يؤذي ، كما تؤذي مياه تيارات النهر، التي تسبب الضرر، و هكذا تظل مياه المطر في المدينة – لسبب ما مجهول – تصعد ، ولاتهبط، بإستمرار..
إ‘نها ذات المياه، التي احتفلت بها، بعض الأغنيات الشاعرية الطفولية، لفيلم ” الغناء تحت المطر “، لكن مياه مطر هذه المدينة ، مدينتنا، كان من نوع خاص جدا، نوع لايهبط، بل يرتفع دوما ،ويؤدي الى الغرق ، وإذا كنا وصلنا معه ، الى هذه الدرجة من الخطورة ، فعلينا الآن أن لانضيع وقتنا، في لصق” إتيكات” بمسميات، هنا وهناك، لتعريف وتحديد الأشياء، دعونا الآن نقوم فورا، بتصريف مياه هذه المجاري القذرة، وإلا غرقنا جميعا..
* .. وعلينا الآن، لكي تنجح في مسعاك.. علينا أيضا أن نتحول- في رأيك – الى ” رعاة ” غنم صغار وسعداء، و يعشش الجهل في رؤؤسهم، بعد أن حرموا من ” تعمة ” التعليم الرسمي الإجباري العام..أليس كذلك ؟-
الهبوط الى الجحيم وحرّاس النظام
– هذا تفكير غبي، لوعبرت عنه، بهذه الطريقة. غير أن هذه المدرسة الإجبارية التي تتحدث عنها، مازالت تنتج ، ليس فقط رعاة غنم ، بل تنتج مصارعين أيضا، كما أن الجماهير تتكاثر، ومعها يرتفع الغضب، وينتشر اليأس..
دعنا نفترض أنها – فكرة أن نتحول الى رعاة غنم – كانت دعابة ، وهذا غير صحيح ..قل لي أنت ، كيف ترى الحل. إننا نسمعهم يقولون عني.. بازوليني يشعر بالندم ،لعدم قيام ثورة المحرومين الأنقياء المعذبين في الأرض، ثورة تحريرهم، التي ستجعلهم من أصحاب العمل، هم أنفسهم، في ما بعد..
نسمعهم يقولون، أن بازوليني يتخيل أن لحظة ثورية مثل تلك ، يمكن أن تحدث في التاريخ الإيطالي، وفي تاريخ البشرية جمعاء، وتاريخ العالم، وأن أفضل ما في فكري، يمكن أن يكون من وحي قصيدة ما، من قصائدي في المستقبل..و..
لكن، دعني أقول لك، إنني قد هبطت بالفعل الى الجحيم ، وأعرف أشياء كثيرة، لا تستطيع أن تهز شعرة، من شعر سلام البعض..
لكني أقول لكم حذار ، لأن الجحيم، سوف يهبط في قعر دوركم. حذار لأنه يستطيع أن يتنكر للدخول في لباس لايخطر أبدا على بالكم، ويستطيع أن يخترع الكثير من المبررات، والمؤكد بالفعل أن رغبته في ، وحاجته الى العنف، والعدوان، والقتل، قوية وحقيقية ، ويتقاسمها الجميع معه..
ثم لا تتركوا أنفسكم نهبا لـ ” الأوهام “، فأنتم بالفعل ، مع المدارس و والتلفزيون وصحفكم، الحراس الكبار، لـهذا ” النظام الاجتماعي المرعب” القائم على فكرة الملكية وفكرة التدمير..
وإليكم ،يا من تسعدوا بفكرة الثقافة الجماهيرية، القائمة على وضع إتيكيت جميل، على الجرائم التي ترتكب، بإسم الثقافة، إن عجزكم عن إيقاف حدوث أشياء بعينها، يجعلكم تبحثون عن السلام والأمن، من خلال لعبة ترتيب الأشياء، فوق أرفف، أو وضعها في أدراج..
* لكني أعتقد أن المنع يعني بالضرورة الخلق، إذا لم تكن من ضمن المدمرين، قل لي أنت ،ماذا سوف يكون مصير الكتب مثلا ؟ .أنا لا أريد أن أبدو هنا ،كمن يبكي تأثرا على ما وصل إليه حال الثقافة اليوم في إيطاليا، أكثر من تأثره لحال الأفراد من المواطنين..
ثم ماذا سوف يكون مصير هؤلاء الناس البدائيين، الناجين من الغرق، الذين تصورهم لنا في كتاباتك وأفلامك ؟.يجب أن نكون دقيقين، في إستخدام كلماتنا، ومثلا في مجال الخيال العلمي، كما في النازية ، كانت مسألة حرق الكتب، تمثل إشارة البدء في الإبادة، قل لي ، إذا أغلقت المدارس وأطفأت شاشات التليفزيون، من ياترى سوف يرعى الأطفال في الروضة ؟
– أعتقد أنني شرحت ماأعنيه بكلمة ” إغلاق ” في نقاش لي مع البرتو مورافيا، وأعني بها ” تغيير “. المطلوب تغيير حاسم، بمقدار درجة اليأس التي وصلنا إليها ،في توصيف الوضع الراهن، وقد إختلفت مع مورافيا وبعض المثقفين الإيطاليين ممثل ” فريبو “، وتبين لنا أن موضوع التغيير ، يتطلب مشاركة جميع الأطراف في نقاش جدلي عام، وإكتشفنا أننا لانرى نفس الأشياء، ولا نعرف نفس الأشخاص، ولا نستمع الى ذات الأصوات الخ..
من وجهة نظرك كما يبدو لي، لايمكن لحادث أن يكون قد وقع، إذا لم تكتب عنه الجرائد ،ويتم إخراجه في مقال جميل، وبعنوان يجذب الأنظار. لكن ماذا عن محتوى المقال. آه هناك شييء ناقص إذن ، ولابد لنا من جرّاح لتشريح المحتوى، والتأكد من أنه ليس سرطانا، بسبب شكل المقال، وفرحتنا فقط بشكله الخارجي.
. أعتقد أننا يجب أولا أن نرى ذات الأشياء. ثم كيف يمكن أن نطلق على مريض، أنه يشعر بالحنين الى الماضي، إذا كان المريض يريد أن يستعيد صحته السابقة على مرضه، حتى لو كان غبيا وتعسا، قبل أن يصاب بمرض السرطان ؟..
أجل . لابد أولا أن نبذل جميعا قصارى جهدنا ،لكي نري جميعا عندما نفحص ” الوضع ” نفس الشييي.نفس الصورة.
.أنا في الواقع أكاد أجن، عندما أستمع الى رجال السياسة في إيطاليا ، وهم يتحدثون عن بعض وصفات العلاج الصغيرة، للوضع القائم، فهم لايعرفون عن أي بلد يتحدثون، والمسافة التي تفصل بينهم، وبين بلدنا إيطاليا، أبعد من المسافة التي تفصل بين الأرض والقمر..وليس رجال السياسية وحدهم، بل أضم إليهم علماء الاجتماع ، و أيضا الخبراء في أي مجال، وأي فرع من فروع المعرفة..
* لماذ تعتقد يا سيد بازوليني ، أنك الوحيد الذي يفهم كل شييء، وأنك تفهم بعض الأشياء ،بشكل أكثر وضوحا من أي شخص آخر ؟
– يجب أن أتوقف هنا عن الحديث عن نفسي، بل لربما كنت تحدثت عن نفسي كثيرا في هذا الحوار، يعرف الجميع أنني أدفع ثمنا، لكل تجاربي، وثمنا لكل كتبي وأفلامي، من حياتي الشخصية، وربما كنت أنا المخطأ، لكني مازلت مصرا، على أننا نعيش جميعا في خطر..
* بازوليني ..إذا كنت ترى الحياة بهذا المنظار، لا أعرف إن كنت تقبل، أن تجيبني على هذا السؤال: كيف يمكنك تلافي هذا “الخطر ” المحدق بنا ؟
كان الليل قد هبط ، ولم يكن بازوليني أضاء نور الصالة، ولذا لم أكن قادرا على تدوين ملاحظاتي، وقرأنا معا جملة الملاحظات التي دونتها، ثم أنه طلب مني أت أترك له الأسئلة ،وقال :
– ” .. يبدو لي أن بعض الإجابات ،كانت مطلقة قليلا، دعني إذن أفحصها من جديد، وأترك لي بعض الوقت ، لكي أصل الى ” نتيجة “ما للحوار.لإن الكتابة عندي، أسهل من الكلام..في صباح الغد، ستجد بعض الملاحظات الإضافية بإنتظارك..” ..
في اليوم التالي ، وكان يوم أحد، كانت جثة بازوليني، مسجاة على طاولة ،في مشرحة شرطة مدينة روما.
بقلم
فوريو كولومبو
ترجم الحوار عن الفرنسية:
صلاح هاشم
صلاح هاشم كاتب وناقد سينمائي مصري مقيم في باريس.فرنسا