الشعبوية الرقمية النيوليبرالية والشعبويات السلطوية بقلم نبيل عبد الفتاح


الثورات التكنولوجية من الأولى إلى الرابعة أثرت تاريخيا على السياسة فى عالمنا المتعدد فى الدول الأكثر تقدما فى شمال العالم وجنوبه. كل طفرة تكنولوجية تنعكس على السياسة والسياسيين بدءا من الصحافة الورقية والإعلام المرئى والمسموع، من حيث تدفق المعلومات، وأثره على تطور الوعى السياسى والاجتماعى للأفراد، وطبقاتهم الاجتماعية،
ومن ثم على مفاهيم الحريات العامة والفردية والوعى بمصالح الأفراد والطبقات الاجتماعية، والوعى بالمصالح الطبقية والفردية والتعبير عنها وتمثيلها حزبيا وفرديا. وأيضاً على المؤسسات السياسية والأحزاب والنقابات فى الدول الديمقراطية الليبرالية .
ترتب على ذلك تكيف المؤسسات والأحزاب مع هذه التطورات المتلاحقة . مع الثورة الصناعية الرابعة، تحول العالم الرقمى إلى مواقع وفضاءات للتأثير على السياسة والسياسيين، ومن ثم يوظف غالبهم وسائل التواصل الاجتماعى فى طرح وجهات نظرهم فى المشاكل والأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المختلفة، وفى الرد على خصومهم السياسيين، ويقوم الأفراد والمجموعات الرقمية والمعارضة بالرد عليهم، والسخرية والهجاء والنقد .
إلا أن الملاحظ أن هذا العالم الرقمى الموازى والمتداخل مع العالم الفعلى تحت هيمنة الشركات الرقمية الرأسمالية النيوليبرالية من خلال سيطرتها وامتلاكها للبيانات الضخمة Big Data، ومن ثم إمكانية توظيفها، وفق مصالح هذه الشركات الرقمية الكونية، وللشركات الضخمة كونيا، من حيث حجب وبث بعض المنشورات والتغريدات والفيديوهات الوجيزة جدا وغيرها من المواقع والمنصات الرقمية، وعلى تحفيز أنماط من استهلاك السلع والخدمات .
من هنا أثرت الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعى التوليدى، والبيانات الضخمة، على الدول والسيادة والنظام الليبرالى الديمقراطى ..الخ، وعلى الأفراد من خلال التحفيز على الاستهلاك المفرط وتسليع أنماط الحياة، وتحول حرية الاستهلاك وكأنها حرية الحريات فى الدول والمجتمعات الغربية الأكثر تقدما! وتأثرها على السياسات الضريبية وأنظمة التأمينات الاجتماعية، الصحة والمعاشات، وبدل البطالة .. الخ . من ثم أدت ثورة الاستهلاك المفرط إلى إلى ربط مفهوم الحريات الفردية والعامة بالقدرة الفعلية او المتوهمة من خلال الأقتراض على استهلاك السلع والخدمات .

فى ظل الرأسمالية النيوليبرالية بات تخفيض الضرائب وسعر الفائدة والتأمين الصحى والمعاشات أحد أبرز الموضوعات السياسية, وهو ما كرس ترامب برنامجه السياسى مع قضايا الهجرة، ورفض التحول الجنسى. فى السياسة الشعبوية النيوليبرالية لترامب سعى بغرائبيته وسلوكه غير المتوقع إلى تجاوز تقاليد وحدود توزيع القوة بين السلطات فى النظام الرئاسى، وتدخله فى بعض أعمال القضاء والهجوم على الصحافة والإعلام وفصل عديدين فى جهاز الدولة البيروقراطى الفيدرالى وتجاوزاته للتقاليد والأعراف السياسية والدبلوماسية إزاء بعض قادة الدول على نحو مافعل مع زيلينسكى وبعض القادة الأفارقة .
أثرت الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعى التوليدى على الشعبوية النيوليبرالية مع ترامب من خلال إنشاء موقع له للتعبير عن بعض غرابته وطرافة سلوكه غير المألوف وتناقضاته. وظف ترامب الذكاء الاصطناعى التوليدى فى اصطناع فيديو للقبض على الرئيس الأمريكى الديمقراطى الأسبق براك أوباما للسخرية منه !من هنا أثرت الثورة الصناعية الرابعة على الشعبوية النيوليبرالية وأيضاً بعض الشعبويات التسلطية فى جنوب العالم وبعض الدول العربية . ما مدى تأثير الثورة الرقمية، والذكاء الاصطناعى على الشعبويات الرقمية فى بعض البلدان العربية؟ وفى البلدان التى تسود فيها الشعبوية السلطوية، خاصة بعد الربيع العربي؟ هل تقتصر الشعبوية على بعض الأحزاب والقادة فى السلطة والمعارضة فى نظم ديمقراطية ليبرالية، أم هناك شعبويات وسط الجموع الرقمية الغفيرة وماهى سماتها؟

يمكننا التمييز بين الشعبويات السلطوية فى جنوب العالم من أعلى فى السلطة والمعارضة، وبين الشعبويات من أسفل وسط الجموع الرقمية الغفيرة، وذلك على النحو التالى:
شعبويات الجموع الرقمية الغفيرة عربيا: أدت الثورة الرقمية إلى بعض من الانفجارات الشعبوية للجموع الرقمية الغفيرة، وفى تنشيط عمليات التعبئة على الحياة الافتراضية من بعض الساعين الى القيادة وتوجيه الآخرين وبعضهم يقومون بتوظيف رهاب الأجانب «الاكزنوفوبيا»، والمهاجرين الطوعيين والقسريين بسبب الحروب الاهلية، او النزاعات الداخلية فى سوريا والسودان وليبيا.
الشعبويات الدينية من الجماعات الإسلامية السياسية والسلفية، التى تعتمد على التعبئة الدينية ذات السند السياسى والدعوات إلى أسلمة نظام الزى والمجال الخاص ليكون مدخلا لتديين المجال العام وترميزه بالحجاب والنقاب او السروال للرجال.
الشعبوية الدينية الرقمية العربية توظف وسائل التواصل الاجتماعى فى تديين الجدل العام، ونقض سياسات وقرارات السلطات الحاكمة، وتحويلها من الوضعى الى الميتاوضعى، من خلال النص المقدس، أو السرديات الدينية التأويلية والتفسيرية حول المقدس، لفرض الثنائيات الضدية ـ الحلال والحرام ـ على السياسات والقوانين والقرارات الحكومية والسلطوية ..
تميل الشعبويات الدينية العربية الى فرض السياجات الدينية على المؤمنين بها، وذلك لتعبئتهم والهيمنة على توجهاتهم العامة تجاه المختلفين مذهبيا عنهم ـ سنة وشيعة تجاه بعضهم بعضا ـ ومسلمين إزاء المسيحيين، وبعض بقايا اليهود فى المغرب، وتونس على سبيل المثال .
إثارة النزاعات الطائفية إحدى أدوات الشعبويات الدينية، وذلك فى مواجهة الآخر الدينى والمذهبى والأهم أنها أداة فى خلخلة التماسك والتكامل الداخلى والاستقرار السياسى للسلطة الحاكمة. وخلال بيئة الاضطراب الطائفى والدينى تشتعل البيئة الداعمة للشعبويات الدينية والمذهبية .
من أكثر الشعبويات الدينية فاعلية، واثارة الشعبويات الطائفية التى تركز على البنى الطائفية وتعتمد على تضخيم الواقعات اليومية الملحة ببعض الطوائف من ممثلى طوائف أخرى على المثال اللبنانى، وفى اليمن، وفى السودان من قبائل الوسط النيلى تجاه القبائل الإفريقية الدارفورية، وتجاه قبائل شمال كردفان، وقبلها مكونات الجنوب السودانى القبلية الإفريقية والاستعلاء عليها. من ابرز أمثلة الشعبوية الطائفية الاعتداءات على المدنيين العلويين، وكنيسة دمشق للروم الأرثوذكس، والقتال بين العشائر والدروز فى السويداء مؤخرا .
مرجع استمرارية الشعبويات العربية منذ دولة مابعد الكولونيالية تتمثل فيما يلى:
ـ هشاشة المؤسسات السياسية السلطوية، وضعف المعارضات السياسية وأحزابها فى صيغ المشاركة الشكلية فى تركيبة النظام السلطوي.
ـ نهاية السرديات الكبرى وعصر الأيديولوجيات الذى حسم مرحلة الحداثة لصالح مابعدها، او الحداثة العليا وفق مصطلح هابرماس، أو عصر السيولة، وفق زيجمونت باومان، وهو ما أدى الى تنشيط الشعبويات الدينية والمذهبية والطائفية السياسية العربية. استثمارًا لأنماط التدين الشعبى الوضعى وحمل بعضها على السرديات التاريخية حول الدين وتأويلاته فى تعبئة الجمهور من العوام والمتعلمين، وذلك لضعف ومحدودية معرفتهم بالأصول والمتون الدينية المقدسة او سردياتها التاريخية وتأويلاتها الموروثة، واعتمادهم على التدين الشعبى ومحمولاته الشفاهية ومروياتها وتداخلها مع الثقافة الشعبية وفلكورياتها.
من هنا تأثرت الشعبويات السلطوية، والشعبويات الرقمية برسائل التواصل الاجتماعى والذكاء الاصطناعى على نحو أدى إلى حالة من الفوضى الرقمية والتوهان التاريخى فى بعض الدول العربية.
بقلم
نبيل عبد الفتاح

نبيل عبد الفتاح كاتب ومفكر تنويري مصري ومستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية.مقيم في القاهرة .مصر
–
عن جريدة ” الأهرام ” بتاريخ الخميس 31 يوليو 2025 لباب ” مختارات سينما إيزيس الجديدة “



