الدولة القومية والحرية والرأسمالية الرقمية النيوليبرالية بقلم نبيل عبد الفتاح
إستهلال
في هذا المقال الرائع، يشرح لنا مفكرنا التنويري النبيل، كيف ستؤدي التكنولوجيا الرقمية التي ساعد الإنسان في خلقها، إلى إستعباد البشرية، وكيف سيخرج الذكاء الاصطناعي عن السيطرة، من خلال التطور التكنولوجي المتسارع، في جميع المجالات والتوجهات الرأسمالية الليبرالية الإستهلاكية للجماهير الغفيرة،كما حدث
مع الروبوت ” هال”، ومحاولته السيطرة على سفينة الفضاء في فيلم “أوديسة الفضاء 2001 ” للمخرج الأمريكي الكبير ستانلي كوبريك،و كيف ستكون نتيجة هذا التطور، الذي لن تنفع معه وصايا أو فلسفات أوسياسات وايديولوجيات وجكومات قديمة او حديثة، ونحن نقف على عتبة “لحظة التحول الكبرى”، ولاندري إن كنا سنعتمد وقتها ،على العقل الإنساني، أو ذلك ” العقل الروبوتي” الاصطناعي المتطور الجديد، الذي نحهل أهدافه وأحلامه، تدابيره ومخططاته،كما ذاك الـ ” هال ” الملعونـ في فيلم كوبريك، وماذا يريدلحظتها – اللعنة – أن يفعل بنا.
صلاح هاشم
***
شكلت مسألة الدولة وسلطاتها الثلاث ومؤسساتها السياسية والحريات واحدا من أهم الموضوعات الفلسفية والسياسية والقانونية والسوسيولوجية فى تاريخ الفكر الإنساني، ودارت عديد من الفلسفات حولها قبل الحداثة، ومابعد بعدها، وحتى لحظة التحول الكبرى التى تقف الإنسانية أمامها فى قلق وخوف وتمزق فى أنسجتها الحداثية وخطر داهم؛ فى ظل النيوليبرالية، وهيمنة الشركات الرأسمالية الكونية على عالمنا، ومعها مختبراتها حول تطوير الذكاء الاصطناعى التوليدي، وتطوراته فائقة السرعة، على نحو بات يمثل تهديدا للوجود الإنسانى مستقبلا ، ومعه الشركات التى تؤثر على الدول، والنظم السياسية الليبرالية، والتى قد يؤدى تطور الذكاء الاصطناعى فائق السرعة إلى توظيف بعض هذه الشركات الكونية الرقمية لإنتاجها فى هذا المجال فائق التطور والسرعة فى السيطرة الفعلية على عالمنا، وعلى الإنسان. مع هذه الأنماط الجديدة من الهيمنة، وحلول الروبوتات، والذكاء الاصطناعى فى مجالات الحياة المختلفة، لن تكون السيطرة الرقمية والروبوتية على المجتمعات الأكثر تقدما، تحت سيطرة الدول، ونخبها السياسية الحاكمة، ومن ثم كل ما يعرفه عالمنا من ميراث فلسفات، وأيديولوجيا، وسرديات سياسية وفلسفية لن تكون صالحة، لإعادة الضبط والسيطرة على ما يحدث من هذه التطورات، ولا يمكن وفق بعض كبار الخبراء فى الذكاء الاصطناعي.
فى هذا الصدد ذهب جيفرى هينتون البريطانى الكندى أستاذ الفيزياء فى جامعة تورنتو والحاصل على جائزة نوبل، الذى يعد الأب الروحى للذكاء الاصطناعي، إلى أن النتيجة الإجمالية لكل هذا ستكون أكثر ذكاء مننا وينتهى المطاف بالسيطرة علينا، وقال بعد ساعة من حصوله على نوبل إن التكنولوجيا التى ساعد فى خلقها «قد تؤدى إلى استعباد البشرية».
ثمة خوف وخطر محلق فى الآفاق يتمثل فى إمكانية خروج الذكاء الاصطناعى والروبوتات عن السيطرة، حتى فى حال وضع الضوابط القانونية، أو المواثيق الأخلاقية على هذه الشركات الرقمية العملاقة كونيا! لأن مجال البحث لن يكون مقصورا فقط عليها، وإنما سيتيح المجال لبعض من الأجيال الشابة ما بعد جيلى Z، وألفا لإمكانية اختراق هذا العالم الرقمى والروبوتي، والعمل من داخله، والإبداع خارج الأطر القانونية والأخلاقية، ومن ثم سيؤثر ذلك على الشرط الوجودى الإنساني، وعلى العمل كمفهوم وكفعل إنسانى وعلى مفهوم الحرية الإنسانية، وسيدفع شرائح جيلية متعددة إلى الخروج من أسواق العمل، إلى البطالة، ومن ثم إلى الاغتراب الإنساني، وإلى الحياة فى عالم هامشي، لا علاقة لهم بمجرياته، سوى محضُ الحياة ضد الحافة، للأكل، والشرب، والفراغ ،بينما الأجيال الأصغر سنا هى التى تعمل، وتفكر فى ظل هيمنة الروبوتات والعقل الروبوتى الذى يتجاوزالعقل الإنساني، ويوجهه وفق أهدافه –التى لانعلمها حتى الآن-، ويعتمد العقل الإنسانى على العقل الروبوتي.من هنا ستغدو مسألة الحرية الفردية، وحرية الفعل والإرادة الإنسانية تحت الرقابة والضبط الروبوتى وعقل الذكاء الاصطناعى التوليدى المتطور.
السيطرة الروبوتية على عالمنا تتم بتوجيه من الشركات الرقمية الكونية، ستعيد هندسة العالم، وأنماط الحياة فى كل المجتمع الإنسانية، ومن ثم فإن مفهوم الدولة القومية وسلطاتها ومؤسساتها، وما بعدها ستتغير، ومعها السيادة، وأدوار النخب السياسية الحاكمة، والبيروقراطية، لأن السياسات الروبوتية المسيطر على بعضها فى هذه المرحلة من العقل الإنساني، والشركات ومختبراتها، ستحل تدريجيا فى جميع مجالات الحياة – مع بعض الأعطاب – حيث دخلت فى مجال الطب والعمل ،بل فى السلطة القضائية والمحاماة. لا يقتصر استخدام الذكاء الاصطناعى على القضاة، أو المحلفين والقضاة فى نظام المحلفين – فى الولايات المتحدة على سبيل المثال فى القضايا الجنائية -، وإنما بات يستخدمه المحامون وشركاؤهم فى بحث وتحليل القضايا المختلفة، وفى إعداد صحف الدعاوي، وفى مذكرات دفاعهم المكتوبة، أو مرافعاتهم الشفهية أمام المحاكم. عندما يتمدد دور ووظيفة الذكاء الاصطناعى فى المجال القضائي، سيؤدى إلى تهميش، وتنميط العقل القانونى والقضائي، والدفاعى لدى جماعات المحامين، والأخطر جموده لصالح العقل الاصطناعى التوليدي. فى مجال التشريع، سيلجأ المشرعون إلى الذكاء الاصطناعي، فى إعداد مشروعات القوانين، وإلى استنباط النصوص الجديدة، من خلال مراجعات وتنقيح وتعديل النصوص القانونية السابقة على التعديلات والمشروعات بقوانين جديدة.
فى ظل الذكاء الاصطناعي، ستلجأ الحكومات ومستشاروها القانونيون إلى الذكاء الاصطناعى كآلية مهمة فى إعداد مشروعات القوانين المقدمة للبرلمانات، وفى إعداد السياسات العامة الاقتصادية والاجتماعية، بل وفى تحليل السياسات الخارجية. دخل الذكاء الاصطناعي، والروبوتات والمسيرات، وصناعة الطائرات، والصواريخ والدبابات، والعربات المفخخة، وفى عمليات التجسس.
إعداد الذكاء الاصطناعى عالم الجيوش، والتسليح، والخطط العسكرية، والمعلومات، وتحليلها، وبناء السيناريوهات المختلفة.يعتمد بعض السياسيين ورؤساء الحكومات على الذكاء الاصطناعي، مثل رئيس الوزراء السويدى أولف كريتسوسون الذى اعترف باستخدامه الذكاء الاصطناعى بانتظام للحصول على رأى ثان فى قراراته وفق تقرير نشرته صحيفة الجارديان .
الأمر لم يعد مقصورا على الدولة الديمقراطية الليبرالية، والدول الاستبدادية، والتسلطية فى جنوب العالم فقط، وإنما بات الذكاء الاصطناعى التوليدى جزءا من حياة الأفراد، والجماعات والأحزاب المعارضة، ومن ثم إمكانية توظيفه عل نحو مضاد ومختلف عن التوظيفات الأمنية لأجهزة الدولة المختصة المنوط بها الأمن. بات بإمكان الأفراد، خاصة الأجيال الأصغر سنا، بعد جيلى Z، وآلفا، أن يخترقوا هذه الأنظمة، والرقابة المضادة عليها، بل وإحداث اختراقات لها، والتلاعب بمعلوماتها! عالم يبدو وكأنه لا يزال تحت السيطرة، إلا أن إمعان النظر، يشير إلى أنه بات قريبا خارج السيطرة، من الدولة.
فى مجال الاقتصاد والشركات الكونية الضخمة من الرأسمالية الرقمية، إلى الشركات الكبرى المختصة فى إنتاج السلع والخدمات المختلفة، بات الذكاء الاصطناعي، والرقمنة، والروبوتات جزءاً أساسيا من توظيفاتها وسياساتها الإنتاجية، والخدمية، وقدرتها عبر الرقمنة والذكاء الاصطناعي، فى إعادة تشكيل السلوك الاجتماعي، والاستهلاكى للإنسان، الفرد، والمجتمعات، ومعرفة الدوافع والرغبات، والسلوك، وإعادة تشكيلهم، وفق سياسات الإنتاج والخدمات، بل وتشكيل الحواس، والرغبات الحسية لدى الإنسان! الشركات الرأسمالية الرقمية الكونية، وغيرها باتت مؤثرة وضاغطة على الدول والحكومات، وسياساتها وقراراتها، وأيضا على سلطاتها الثلاث، ومؤسساتها السياسية –من ثم لم نعد أمام الدولة القومية التى عرفناها منذ نشأتها، وتطوراتها مع الرأسمالية ، والثورات الصناعية السابقة.
بقلم
نبيل عبد الفتاح
نبيل عبد الفتاح، كاتب وباحث ومفكر تنويري مصري ومستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية
—
عن جريدة الأهرام بتاريخ الخميس 14 أغسطس 2025