الحرية والقانون وثقافة اللغة الرقمية العارية بقلم نبيل عبد الفتاح
الحياة والوجود الإنسانى بات منشطرًا، بين تفاصيل الحياة اليومية الفعلية، وعلاقاتها، وأزماتها وتوتراتها وقلقها، وبين الحياة الرقمية. حالة من الانشطار والتداخل بين الفعلى والرقمى، بين الفوضى، والنظام والقانون، وتجاوزاته فى الحياة الفعلية، وبين حالة من الحرية والمراقبة والفوضى الرقمية العارمة، التى تبدو وكأنها حالة من الحريات واسعة النطاق، تتجلى فى تعبير غالبية الجموع الرقمية الغفيرة عن ذواتها، وأفكارها البسيطة أو الساذجة، أو حول المعتقدات، أو بعض الأفكار القليلة التى تبدو جادة! أشكال متعددة وبلا حدود للتعبيرات، والمقولات الأخلاقية، والدينية، والشعارات، والاستعلاءات والتنمر والتحرش، ونظريات المؤامرة !.حالة من السلوكيات ذات الطبيعة الاستعراضية تبدو فى خطابات الحكمة الساذجة، وخبرات الحياة، والنصائح، والاستعلاءات الفارغة على الآخرين، وتمدد لمفردات اللغة العنيفة، والسوقية والنابية المستمدة من ثقافة الخروج عما يطلق عليه الآداب والأخلاق والقيم فى كل مرحلة من مراحل تطور المجتمعات العربية. ثقافة الشارع وجنوحها اللاأخلاقى، ومفرداتها الجنسية الفاحشة، والمسبات الدينية، والنعوت الجنسية الخادشة، للحياء العام والفردى، يتم توظيفها فى التعبيرات الفردية فى نعت الآخرين، ومن يتم الاختلاف، أوالعداء او التنافس معهم، هى جزء لا يتجزأ من الثقافات الشعبية فى بعض المجتمعات العربية، وهى أحد تجليات بعض الاختلالات فى النظام الاجتماعى، والخروج على قانون الدولة وما يطلق عليه الأخلاق، والآداب العامة، وغياب الوعى الاجتماعى بالقانون، واحترامه وعدم المساواة فى التوازن بين المصالح المتصارعة فى دول فى تناقض مع منطق القانون منذ أن قال أرسطو: الدولة الوحيدة هى التى يتساوى فيها الجميع أمام القانون,وذلك فى 335ق م، ولاتزال صنّو القانون والثقافة القانونية الحديثة والمعاصرة فى الدول الديمقراطية التمثيلية. ثقافة الشارع تمثل أيضا الثقافة الشعبية الضد، للثقافة الشعبية والطقوسية والشكلانية الممارسة واللغة حول الدين وسردياته الوضعية، والأخلاق، والقيم فى كل مرحلة من مراحل تطور المجتمعات العربية سياسيا، واجتماعيا وتناقضاتها، وصراعاتها، وتوتراتها وقلقها ومخاوفها على اختلافها!. تتصاعد وتتمدد وتهيمن ثقافة الشارع العارية الضد، مع ازدياد الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية، وتراجع مستويات الوعى الاجتماعى، والدينى، والأهم أنها تشكل جزءا من السلوك والخطاب الشخصى إلى جانب التدين الجماعى الشكلى النقلى الشعبى والسلفى وتوظيفه سياسيا، وكلاهما يتم توظيفه من قبل الأشخاص والجموع الغفيرة بحسب الموقف الاجتماعى، من شجارات، وخلافات شخصية، وفى مواجهة الجيران، وزملاء العمل فى الوظائف العامة، والخاصة، وأيضا فى مجال العمالة اليومية والموسمية، وفى الأرياف والبوادى، والمدن المريفة وتنتشر الثقافة العارية فى غالب الطبقات الاجتماعية مع خلافات طفيفة خاصة مع الشعبوية الدينية او السياسية.
ثقافة الشارع العارية الضد، وسماتها اللغوية وأوصافها الجارحة، تفقد فى بعض الأحيان مع هيمنتها وتكرارها اليومى طابعها القدحى، وتغدو بذاءة وظيفتها، تفريغ طاقة الغضب والغل، أو الحقد، وغيرها من المشاعر السلبية المحمولة على الغضب والتنافس تجاه الآخرين.
لا شك فى أن ثقافة الشارع العارية الضد، تتغير من جيل لآخر فى مفرداتها، وأوصافها، إلا أنها تدور حول النعوت الجنسية الجارحة ووصف بعضهم لآخرين بالمثلية الجنسية فى بعض المجتمعات العربية، والمسبات الدينية، التى ترمى للحط من عقائد وكرامة الآخرين. الثورة الرقمية على بعض وسائل التواصل الاجتماعى، ساهمت فى توسيع عمليات انتقال ثقافة الشارع الجانحة العارية الى الحياة الرقمية، بل وأضافت الرقمنة حالة من الحرية واسعة النطاق وتوظيفها فى التغريدات والتعليقات على موقع «X» أكس وغيره، ولم تعد تشمل أوصافا سوقية وبذيئة من شخص لآخر، أو من شخص لجماعة أو شعب ما، أو عقيدة أو مذهب دينى، وانما امتدت إلى الحياة السياسية المحاصرة أو الميتة فى هذا المجتمع العربى، أو ذاك. تشمل ثقافة الشارع العارية الرقمية الضد -إذا جاز التعبير وساغ- لتشمل مسبات للزعماء، والقادة السياسيين، والملوك والمشايخ، والحكومات، والوزراء وكبار موظفى أجهزة الدولة من بعض المعارضات، أو من بعض المجموعات الرسمية الرقمية المنظمة، تجاه هؤلاء! فى ذات الوقت وصلت الأوصاف السلبية والبذيئة لتشمل شخصيات عامة، بالنظر إلى سلوكياتها الجنسية واللاأخلاقية.
تحول بعض ثقافة الشارع الرقمى العارية من النقد الموضوعى لقادة وأنظمة سياسية إلى دائرة السب والقذف. من هنا تباحثت الحريات الواسعة للتعبير عن الرأى الرقمى – كنتاج لغياب الحريات الفعلية فى بعض المجتمعات العربية ـ لا شك فى أن الثقافة الشعبية الرقمية العارية الضد، توظف الحريات الرقمية، دونما روادع قانونية، فى إدراك غالب الجموع الرقمية الغفيرة، وهو ما يعكس أيضا غيابها فى الحياة الفعلية، ومن ثم هى تعبير من تعبيرات ثقافة الفوضى الرقمية، وهيمنة الادعاءات، والأخبار والمعلومات الكاذبة، ونسبة آراء ومقولات لشخصيات شهيرة لم تقلها، أو نسج سرديات غير حقيقية عن بعض الشخصيات العامة والتاريخية والمعاصرة، والشهيرة!.
لا شك فى أن الحياة الرقمية، ومنشوراتها، وتغريداتها وفيديوهاتها، وصورها…إلخ، تشكل الــBig data ـ البيانات الضخمة ـ التى توظفها الشركات الرقمية، وتبيعها للشركات الكبرى لإعادة تشكيل الرغبات، والسلوك الاستهلاكى المفرط، وفى ذات الوقت تخضع الجموع الرقمية الغفيرة لأنظمة رقابية من الشركات الرقمية الكبرى، وأيضا لأنظمة رقابية من بعض أجهزة الدول الأمنية والاستخباراتية فى عالمنا، ومن ثم هى حريات رقمية تحت الرقابة، على نحو اتسع مع هذه الأنظمة، وبرامج الرقابات الأمنية والاستخباراتية والسياسية.
لا شك فى أن الثقافة الرقمية لغالبية الجموع الغفيرة على الحياة الرقمية بعضها يشكل خروجا على الأنظمة القانونية الفعلية، خاصة قانون العقوبات، والجرائم الخاصة بالسب والقذف، وخدش الحياء العام ـ المتغير فى دلالاته..إلخ ـ وجرائم الآداب العامة، والحض على السلوك الدعارى، على المستوى الأثارى، أو الاستعراضى المثير من خلال بعض الأفلام القصيرة عن السلوك العارى، أو جرائم الحض على الكراهية الدينية أو العرقية، والعنصرية، أو جرائم النصب الرقمية والجرائم المصرفية، خاصة العملات الرقمية وغيرها..إلخ. بعض الجرائم الرقمية المستجدة تتطلب سياسة جنائية وعقابية مختلفة عن النظم القانونية العقابية والإجرائية الوضعية التى تنهض على سياسة جنائية للحياة الفعلية، ومن ثم ستظل هناك فجوات بين ثقافة الفوضى الرقمية، واللا نظام، وبين السياسات التشريعية الوضعية فى الدول العربية، وهو ما يكرس استمرارية ثقافة اللا نظام الرقمية التى تتمدد عربيا، بل وتنفجر على نحو متسارع.
لا شك فى أن إقرار الحريات العامة والشخصية فى الدساتير والقوانين العربية، تؤدى إلى تنظيم هذه الحريات على نحو إيجابى، وفعال، وإلى تطوير الوعى القانونى والاجتماعى، وتسهم فى تعزيزها، وتفجير الطاقات الفردية والجماعية، فى إطار علاقة القانون، ومشروعات التنمية المختلفة. التنمية النيوليبرالية بكل مشكلاتها، لا يمكن أن تنتج بعض الإيجابيات دونما تعزيز الحريات العامة والشخصية، وتنظيمها بفعالية على نحو يؤدى إلى بعض الانجازات رغم مشكلات السياسات الاقتصادية النيوليبرالية فى عالمنا العربى.
بقلم
نبيل عبد الفتاخ
كاتب وباحث ومفكر مصري ومستشار مركز الأهرام الدراسات السياسية والإستراتيجية
***
عن جريدة ” الأهرام ” الصادرة بتاريخ 29اغسطس 2024