السينما والفيلسوف .الفكرة واللقطة. إدجار موران وتونس والقضية الفلسطينية بقلم حكمت الحاج
الفيلسوف والمفكر الفرنسي الكبير إدجار موران.الأول من على اليمين في الصورة
سحرت السينما الفلاسفة بمختلف توجهاتهم فاهتموا بسحرها وبالعلامات التي تبثها في المحيط والذهن. وهكذا أحبّ جاك داريدا هذا الفنّ وسعى إليه بحثاً وتنقيباً، كما أن هنري برغسون وميشيل فوكو كذلك اهتمّا بشكلٍ أوضح بالأفلام السينمائية المشوقة. لكن أولئك لم يصلوا إلى الاهتمام المعرفي المفهومي بالسينما كموضوع للدرس الفلسفي ضمن الآليات المتفوقة على النحو الذي فعله الفيلسوف الفرنسي إدغار موران. فأعماله على غرار كتبه الشهيرة “نجوم السينما” و “السينما والإنسان الوهمي” و “السينما وفن التعقيد” هي كنز رائع لا ينضب من الأفكار والتأملات،
ودليل حقيقي لأولئك الذين يهتمون بتوسيع طبيعة التقدم البشري. فبالاعتماد على علم التحكم الآلي، نظرية المعلومات، ميكانيكا الكم، ولكن أيضًا بدمج كل العمل الذي قام به من قبل، بدءًا من العمل على الخيال في بحثه عن الأفلام وانعكاساته العميقة على الموت، يقوم إدغار موران برحلة فكرية شيقة ليزود القارئ ببدائل عن الافتراضات التقليدية السائدة في عصرنا.
لا تعتمد السينما على فلسفة الفن وحدها من أجل أن يعرف الناس مكانتها بين الفنون وأن يتم تفهمها من قبل الجمهور العريض، ذلك أنّها أغنى وأخصب من أن يعنى بها علم واحد أو فلسفة واحدة، بل لا بدّ أن يشترك في الاهتمام بها عدّة علوم، بعضها علوم بحتة كالفيزياء والكيمياء والبيولوجيا وعلم النفس السريري، وبعضها علوم إنسانية على غرار التأريخ والإدارة والاقتصاد الخ. ومع ذلك فجميع هذه العلوم تطرح أسئلة على الفيلسوف وتطالبه بإيجاد الحلول لها، وأغلب هذه المسائل تدخل في فلسفة العلوم التقليدية.
في مجال علم النفس، البحوث السينمائية المعتمدة عليه تصطدم بالتضاد بين الرغبة في الدقة العلمية التي يتطلبها الفصل التجريبي والعزل بين الظواهر، وبين الرغبة في الحفاظ على صفة الشمول المنطقية الملقاة على كل ظاهرة إنسانية، فهنا يصعب أن ننقل نتائج المختبر إلى إطار الحياة الواقعية، ولهذا نرضى بصيغة عامة.
لقد صار من الضروري إجراء بحوث في علم نفس الطفل في السينما عبر ثلاثة مجالات:
• المختبر
• غرفة الطفل
• صالة العرض
وربما كان بالإمكان أن نضيف إليها أيضا:
• الأسرة
• المدرسة
• الشارع (مكان اللعب)
إنّ علم الاجتماع السينمائي يطرح مشاكل مشابهة، وعندما يجري تنسيق الأبحاث فيه بدقة حتى نهايتها، فإنّه والحالة هذه لا تمكن العودة إلاّ إلى الفلسفة. وهذا ما هو واضح تماما في نتائج أبحاث “غيلبرت سيت”. ولكن الظاهرة السينمائية لا تلجأ إلى الفيلسوف فقط من خلال علم الجمال والعلوم الإنسانية، بل تطرح عليه مباشرة -وعلى نحو جديد- أشدّ مسائل الأنثروبولوجيا الفلسفية احتداما، ومنها مشكلة تريد السينما لها جوابا محدّدا وهي: ما هو معنى السينما بالنسبة للإنسان؟
بعض الفلاسفة يرى بغموض أنّ السينما هي مصدر الكوارث وعلامة على انحطاط البشرية الآن، وهنالك آخرون يرون في السينما خلاص الإنسانية لأنّها أداة ممتازة تجعل الإنسان يفكر في ذاته ويرى صورته ويجد نفسه.
إذن لعل السينما لا تستحق هذا التشريف ولا ذلك السخط. فما هو موقعها بالضبط؟
إنّ الإجابة المضبوطة المحدّدة لم تصلنا بعد، وإنّه يلزم قبل كل شيء ارتياد سبل جديدة للبحث والتمحيص، وعلى الفلاسفة أن يعتمدوا في مثل هذه البحوث على التحليل أكثر من التركيب.
إنّ أكمل وأنضج تفكير أنثروبولوجي يخص عالم السينما هو ما قدّمه المفكر “إدغار موران” في كتابه “السينما والإنسان الوهمي: دراسة في الأنثروبولوجيا الاجتماعية”، وأكثر الموضوعات أصالة فيه محاولة المؤلف أن يجد في تكوينات السينما وتركيباتها ما يناظرها من تكوين الإنسان وتركيبه، وذلك وفقا لأسلوب ديالكتيكي، وهو الفيلسوف الشيوعي الأرومة.
ومن أجل ذلك استعمل إدغار موران عددا من المقولات المألوفة في الأنثروبولوجيا، كالمشاركة والإضفاء والضمير السحري. وكشف عن وجود هذه المقولات في تطور الظاهرة السينمائية. فهذه الظاهرة في الواقع تعيد تاريخ الفكر نفسه من الضمير السحري وحتى الضمير العقلي. كما يعيد الطفل تاريخ النوع الإنساني برمته. ويخصّ المؤلف بالذكر مواصفات هذا الأسلوب الدياليكتيكي الذي هو ليس خطيا. وكذلك التدخل المستمر للبيئة.
وهذا ما جعل إدغار موران يرى أن «السينما هي صورة عن الصورة، تتقاطع مع الصورة الفوتوغرافية في كونها صورة للصورة المدركة، وتتميز عنها بكونها صورة متحركة، ولما كانت السينما هي عرض لعرض آخر وجب التفكير في متخيل الواقع أو واقع المتخيل وعيا منا بإمكانية اختزال الصورة في حضور غياب الموضوع».
وينبغي القول أنّ هذا الكتاب نافع فلسفيا إلى حد كبير، بحيث يتجاوز ما ينفع به كثير من النصوص التي كتبها فلاسفة مشهورون، وذلك عائد إلى اهتمام المؤلف اهتماما يندر مثيله بأنّ يشيد تفكيره على التجربة. إذ كانت له تجربة بعيدة المدى وشخصية في السينما. وهذا ما أفضى كما هو معلوم إلى أن يشترك في إخراج عدة أفلام، ذلك أنّه، والملاحظة هنا للناقد الكبير -ايميدي ايفري- لا يجوز للفيلسوف أن يكتفي تجاه سؤال تطرحه عليه السينما، أن يجيب بالاستناد إلى مبادئ يثق بها ويطمئن إليها هي مبادئه الفلسفية واعتقاداته، بل ينبغي له أن يَعْبُرَ ذلك إلى أفق آخر جديد فيطرح هو بعض الأسئلة لكي يتفهمها تفهما جديدا.
يُعرف الفيلسوف الفرنسي إدغار موران (من مواليد عام 1921، ومتزوج من السيدة صباح أبو السلام، مغربية من مراكش) بمواقفه المؤيدة لحق الفلسطينيين في إقامة دولة خاصة بهم. وقد قاده مقال كتبه في صحيفة “لوموند” وندد فيه بالسياسة الإسرائيلية، إلى المحاكم الفرنسية عام 2004.
كما دافع موران عن المفكر الإسلامي طارق رمضان الذي حوكم قضائيا في فرنسا على خلفية اتهامات له بقضايا اغتصاب. وقال في حوار له مع صحيفة فرنسية عام 2017 معلقا على قضية رمضان إنه يرفض الانضمام إلى “الإعدام الإعلامي دون محاكمة”، وقال أيضا إن رمضان “يبشر بإسلام أوروبي يقبل الديمقراطية والمساواة لصالح المرأة”، وإنه أظهر فكرا إنسانيا مطابقا لموقفه (أي لموقف موران). وكان أصدر إدغار موران كتابا مشتركا مع طارق رمضان بعنوان “خطورة الأفكار: تساؤلات حول كبرى القضايا المعاصرة”، وهو عبارة عن حوار بين المفكرَين صدر عام 2016.
وفي أبريل 2011، علق موران في مقال كتبه في صحيفة لوموند الفرنسية على ثورات الربيع العربي، قال فيه إن المفاهيم السياسية السائدة في العالم العربي سواء كانت بوليسية، أمنية، علمانية أو دينية تواجه رياح التغيير، وإن “الديمقراطيات الغربية دعمت الاستبداد في العالم العربي، والعرب الذين أنهوا الاستعمار السياسي ها هم الآن بصدد إزالة الاستعمار الفكري، لتبقى عملية إزالة الاستعمار الاقتصادي”.
هذا وكان استقبل رئيس الجمهورية التونسية الراحل الباجي قايد السبسي عام 2015 بقصر قرطاج الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي إدغار موران، وتناول اللقاء أهمية العمل على ترسيخ قيم الحوار والاختلاف وحقوق الانسان والتضامن والتواصل بين المجتمعات باعتبارها قيما كونية تنسحب آثارها على كل الحضارات والشعوب. وأكّد الفيلسوف إدغار موران في تصريح لوسائل الإعلام حينها أن تونس نجحت في “ملائمة القيم الإنسانية الكونية مع المحافظة على خصوصيات هويّتها”.
بقلم
جكمت الحاج
حكمت الحاج إعلامي ، شاعر وكاتب وناقد وناشر عراقي كبير
______________________
المقال منشور على صفحتي في موقع “الحوار المتمدن”:
عن موقع ” الحوار المتمدن” على الرابط المرفق أعلاه