القانون والحرية والنظام في عالم متغير بقلم نبيل عبد الفتاح
شكلت مسألة الحرية أحد أبرز مقولات، وتنظيرات، وإشكاليات الخطابات الفلسفية التاريخية والمعاصرة التى تغيرت، من مرحلة إلى أخرى من مراحل التغير والتحول الحضارى فى عالمنا، وذلك لأن شكل كل نظام اجتماعى، وبنية سياسية، تفرض محدداتها وبناء القوة داخلها، وتنظيمها الدستورى والقانونى على مقاربتها لمسألة الحرية والقانون. فى العلاقة الإشكالية بين الحرية، والقانون، كانت ولا تزال هى الأهم، ومقاربة هذه الثنائية، والإشكالية المركزية فى الفكر الإنسانى، خضعت ولاتزال لكل نظام للسلطة، من المجتمعات القديمة فى الحضارات المختلفة إلى الآن وغدا، حيث تفرض السلطة ذاتها على طبيعة الاستجابة للإشكالية. من البطريركية السياسية والطغيانية، فى الحضارات المختلفة إلى النظم السياسية الليبرالية عقب الدولة/ الأمة والتطور الرأسمالى، وتقدم هذه النظم الليبرالية التى شكلت أحد أبرز المراجع الفلسفية والسياسية والاجتماعية، والثقافية فى الفكر العربى الحديث تحت الكولونيالية، وبعدها، وإلى الآن
فى مقاربة هذه الثنائية الحرية، والقانون، هناك عديد من الفكر الرغائبى، والشعاراتى السائد، الذى يطرح هذه الثنائية، خارج التركيبات الثنائية المتضادة السياسية، والاجتماعية، والدينية، وغالبا ما تطرح من منظورات خطابية شعاراتية، خارج السياقات الموضوعية، ومن ثم لا تعدو كونها محضُ خطاب معارض فى الفراغ، فى ظل سطحية الأسس التى تنهض عليها هذه الخطابات دونما أسس فلسفية، وسياسية، وثقافية ذات عمق، ومتابعة للواقع الموضوعى. التحولات فى هذه الثنائية والإشكالية باتت أكثر تعقيدا وإثارة لأسئلة مختلفة فى النظم الليبرالية التمثيلية فى الدول الأكثر تطورًا فى عالمنا، خاصة فى ظل ثورة الاستهلاك المفرط، وعالم الثورة الرقمية، والذكاء الاصطناعى، والإناسة الروبوتية، وأزمات هذه الأنظمة.
ومن الحرى القول إننا لا نبحث فى الحرية فى ذاتها، وإنما الحرية بين الناس، وطبيعة النظامين السياسى، والاجتماعى،- والدينى- فى مجتمعاتنا العربية، وهياكلها، وسلطاتها، وقيودها على الحريات العامة، والعقل النقدى الحر، وأيضا توظيفها السياسى للدين، والتدين الشعبى فى التحريض على الحرية بشكل عام! لا يمكن تاريخيا مقاربة الحرية لاسيما فى النظم السياسية الديمقراطية التمثيلية، والتسلطية، دونما مقاربة علاقتها بالقانون.
الحرية كمفهوم فلسفى وسياسى لا يطرح فى تجريد وعمومية، وإنما فى سياقات موضوعية – سياسية واجتماعية ودينية واقتصادية، ودينية وثقافية-، وأيضا فى ثنائية إشكالية مع القانون، والنظام!.
إشكالية الحرية والنظام هى أحد أبرز إشكاليات النظم السياسية والتسلطية فى دولة ما بعد الاستقلال فى بعض الدول العربية، التى أخذت برأسمالية الدولة الوطنية، وركزت على فرض القيود على الحريات العامة، من خلال الأنظمة القانونية المنظمة للحريات العامة والشخصية التى تم إقرارها فى دساتيرها بعد الاستقلال. نصت هذه الدساتير على حريات الرأى، والتعبير، والبحث العلمى، والصحافة والإعلام، والتنظيم، إلا أن القوانين المنظمة لهذه الحريات قامت بفرض القيود الثقيلة عليها، على نحو أدى إلى تصفية فعلية للحقوق الدستورية للمواطنين.
فى مقابل المصادرة الفعلية للحريات العامة والشخصية، قامت بعض السلطات العامة العربية بالتركيز على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمواطن من خلال دعم السلع والخدمات المقدمة للمواطنين، خاصة الأغلبيات الشعبية، والفئات الوسطى من خلال الحق فى التعليم، والصحة والدواء المجانى، وبعض الحقوق الثقافية. لا شك فى أن الحقوق الاجتماعية والاقتصادية، أدت إلى بعض الدعم للأنظمة السياسية الاستبدادية والتسلطية، وباتت تمثل أحد مصادر الشرعية السياسية لهذه الأنظمة، مع الدفاع عن الاستقلال الوطنى، ومواجهة الاحتلال الإسرائيلى لفلسطين شعاراتيا -باستثناء مصر، وسوريا، والعراق، والأردن-، والزعامة السياسية التاريخية- الكاريزما الناصرية، وزعامة بورقيبة فى تونس، أو الدور التاريخى للحزب الحاكم، على نحو ما حدث فى التجربة البورقيبية، ودعم حقوق المرأة – أو الدور التاريخى لمقاومة الاستعمار الفرنسى على نحو ما تم فى المثال الجزائرى، أو دولة المخزن فى المغرب.
كانت التناقضات بين النصوص الدستورية المقررة للحريات العامة والشخصية، والقيود القانونية عليها، هى أبرز الإشكاليات بين الحرية، وبين القانون. إن إدراك القانون فى الوعى السياسى، والعقيدة السياسية لقادة بعض النظم العربية بعد الاستقلال، تمثل فى أنه إحدى أدوات النظام، الوظيفية، فى الضبط السياسى والاجتماعى، وهو ما يتناقض مع فلسفة القانون الحديث الذى يقرُ الحريات، وينظمها من خلال الدستور، والقانون، ولا يصادرها فعليا على نحو ما أدى إلى تطور النظم السياسية والاجتماعية الليبرالية الغربية، وساهم فى تطور الرأسماليات الغربية، وشكل مجموعة من الحوافز الفردية، والجماعية للإبداع والتقدم العلمى، والفكرى، والسياسى، وأدى إلى تفجير القدرات الفردية، والجماعية فى هذه المجتمعات المتقدمة.
القانون والحرية فى النظم الليبرالية، يهدف إلى تعظيمهما، وتنظيمهما، بين المصالح الاجتماعية المتصارعة، وبحيث لا تؤدى إلى الفوضى، ومن ثم تطورت الحقوق والحريات العامة، وتم دمج بعض الحريات الجديدة ، وتحويلها إلى حقوق لم تكن مقررة سابقا على نحو ما تشهده المجتمعات الأكثر تطورا فى عالمنا. هاجس الأمن، واستقرار النظام واستمراريته، كان ولا يزال شاغل بعض الطبقات السياسية الحاكمة عربيًا، ومن هنا تمت مصادرة حريات الفكر والتعبير والبحث الأكاديمى، وذلك تحت رهابُ المثقفين، واعتبارهم قوة قلق، تثير الأسئلة، وتحاول نقد السياسات العامة للنظام، ومن ثم كانت الصحافة والإعلام ما قبل الثورة الرقمية تحت سيطرة النظام، ومملوكة له! امتدت الضوابط إلى الحريات السياسية، والحق فى التنظيم السياسى، والمبادرات الفردية والجماعية، على نحو أدى إلى هيمنة ظاهرة موت السياسة فى العالم العربى.
أدت هذه الظاهرة إلى ضحالة وسطحية الفكر السياسى فى هذه المجتمعات – أيا كانت اتجاهاته الايديولوجية-، خاصة انفصاله عن الواقع الموضوعى فى كل بلد، ومصادرة المرجعية الغربية، من هنا ظهر فكر شعاراتى ليبرالى، دونما فلسفة ليبرالية فى تطوراتها الفكرية، ومدارسها!
وفكر يسارى، دون قراءة مصادره الماركسية وتطوراتها فى المدارس الماركسية، ورأينا ماركسيين لم يقرأوا ماركس، ولينين، وماوتسى تونج، وما بعدهم فى الفكر العالمى الماركسى! والاستثناءات قليلة من الليبراليين، والماركسيين، بل ولدى بعض القوميين المصريين، والعرب.
لا شك فى أن إشكالية الحرية والقانون، أدت إلى فكر قانونى ركز على أولوية الأمن القومى والوطنى فى مواجهة مفاهيم الحريات العامة، والشخصية. انفصل هذا الفكر القانونى العربى عن المرجعيات الفلسفية القانونية الغربية، وتطوراتها فى النظم الدستورية والقضاء الدستورى المقارن، لصالح فكر محلى يركز على مفهوم الضوابط والإجراءات المقيدة للحريات العامة، فى العالم العربى. مع الثورة الرقمية والمجال العام الرقمى الحر انفجرت مكبوتات الوعى الجمعى، وباتت الحريات الرقمية، وكأنها نقيض القانون والنظام، وتحولت ثقافة الفوضى، وكأنها هى التعبير الأسمى عن الحريات، وهو ما أثر على الواقع الفعلى الموضوعى وساهم فى تمدد وانتشار ثقافة اللانظام والفوضى فى غالب البلدان العربية.
بقلم
نبيل عبد الفتاح
نبيل عبد الفتاح كاتب ومفكر مصري ومستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية
***
عن جريدة الأهرام العدد الصادر بتاريخ الخميس 22 أغسطس 2024
لباب “ مختارات سينما إيزيس “