جابر عصفور ” دفاعا عن العقلانية” والعقل الحر بقلم د. نبيل عبد الفتاح
الصورة الأكثر شيوعا عن جابر عصفور في إطار حركة الفكر العربى المعاصر، تتمثل في كونه ناقدًا أدبيا كبيرًا موهوبًا، وأستاذًا بارزًا للأدب العربى، وذلك منذ أطروحاته الجامعية اللامعة الصورة الفنية فى التراث النقدى والبلاغى، وقراءة فى التراث النقدى، وبعدها عديد الكتب، ومنها زمن الرواية، وذاكرة الشعر، وفى محبة الأدب، والنقد الأدبى و الهوية الثقافية ، والرواية والاستنارة، وعوالم شعرية معاصرة، وتحولات شعرية، وتحديات الناقد المعاصر، وقصيدة الرفض، وزمن القص، وغيرها من الممارسات النقدية التى تزاوج ما بين التنظير والتطبيق النقدى.
منجز جابر عصفور النقدى، وفي الترجمة يكفيه ليكون واحدا من الكبار الذين أسهموا في تطوير الدراسات النقدية وإضفاء الحيوية والإبداع عليها، وذلك فى دأب واجتهاد وإخلاص، وخاصة فى تكييف النظريات الحداثية المعاصرة ذات المرجعيات الغربية- لتغدو قادرة على إنارة الأعمال السردية الروائية والقصصية- والشعرية المصرية والعربية فى اقتدار، وهو ما لم يستطع عديدون من النقاد المدرسيين أن ينجزوه، من ثم شكلت كتبه ومقالاته أهمية خاصة فى النقد العربى المعاصر.
كان يكفيه دوره البارز كناقد مبدع وحصيف وصناع . إلا أنه فيما يبدو لى أن صورة الناقد ودوره لدى الجماعة الأدبية ظلمت جابر عصفور المفكر العقلانى الشجاع، وكتاباته التى رفعت راية العقلانية فى مواجهة الفكر التقليدى والموروث النقلى المضاد للعقلانية الذى يُعادُ بثهُ وترويجه كجزء من الإيديولوجيا الدينية حول الإسلام العظيم، الذي حاول ولا يزال منظرو وحركيو الجماعات الإسلامية السياسية، والسلفيات الراديكالية أن يضفوا بعضًا من القداسة عليه حماية لهم من النقد التاريخى، وذلك على الرغم من أنه يُمثل إنتاجا وضعيًا وتاريخيًا بامتياز.
الخطاب الحداثى ل جابر عصفور عن العقلانية يستمد جذوره من التواشج بين العقلانية الأوروبية كمركز للحداثة، وبين التراث الكلامى الإسلامى الاعتزالى القرن الثالث الهجرى والرشدى- نسبة إلى ابن رشد فى القرن السادس الهجرى- الذى أدى إلى تحول علم الكلام إلى فلسفة، فضلا عن المقاربات العقلانية فى الفكر المصرى الحديث، وخاصة لدى أستاذنا العميد طه حسين. إن نظرة طائر على مؤلفات جابر عصفور المفكر تشير إلى إنتاجه الغزير المؤنق فى لغته المتميزة وسلاستها ودينامياتها، وإنتاجها للمعنى، والجدة فى المقاربة لموضوعاته على الرغم من أن بعض الكتب نشرت منجمة قبلاً حول قضاياها، من مثيل التنوير يواجه الإظلام، ودفاعا عن التنوير، وهوامش على دفتر التنوير، وأنوار العقل، وآفاق العصر، وضد التعصب ، ومواجهة الإرهاب ، والتنوير والدولة المدنية، وتحرير العقل، ومعركة الحداثة ، وقاطرة التقدم. العناوين كلها تشير إلى هموم مفكر مصرى وعربى، اشتبك مع سلطة منظومات الأفكار السلفية والنقلية المعادية لسلطان العقل الناقد، وتحملها جماعات سياسية، ترمى إلى فرض سيطرتها على العقل والروح والإنسان فى بلادنا، وفرض هندساتها على نظام الحياة سعيا وراء الوثوب إلى السلطة السياسية.
ثمة ثلاثة كتب تكتسب أهمية خاصة فى المسار الفكرى ل جابر عصفور هى نقد ثقافة التخلف، وعن الثقافة و الحرية ، ودفاعا عن العقلانية الذى صدر أخيرا، ويعد من أهم الكتب التى صدرت هذا العام 2020 الثلاثية السابقة هى ممارسة نقدية لمجمل القضايا التى يثيرها الواقع الموضوعى وإنتاج العقل النقلى المسيطر وجماعاته السياسية، وظواهرها، التى تعبر عن حالة التردى التاريخى والاضطراب الفكرى، وسطوة الظواهر الميتاتاريخية بما تنطوى عليه من أشكال للتدين المهجنة بالتأويلات الشعبوية، والموروث الشعبى الوضعى، والنزعات الاتكالية.. إلخ.
الكتاب يؤصل لتأسيس العقل والعقلانية فى إطارها الحداثى، وإلى جذور العقلانية الإسلامية، وارتباطها بالتجريب، فضلا عن طلائع المنويين الإسلاميين من الطهطاوى، إلى محمد عبده، وعبد المتعال الصعيدى، ومحمود شلتوت، خاصة أن الأستاذ الإمام محمد عبده اعتبر أن الأصل الرابع من أصول الإسلام هو عدم التكفير، وهو ما ناهضته التيارات السياسية والسلفية التى رفعت التكفير كسلاح فى مواجهة المخالفين لها. ثم تركيزه على الميراث التحررى السياسى والدستورى بعد ثورة 1919، ودستور 1923، ودور الجامعة وثورة العقل الجامعى ابن الانفتاح على الغرب وحركة البعثات لأوروبا على نحو ما قام به طه حسين فى الشعر الجاهلى، إلى ضرورة عقلنة الدولة.
من أهم أقسام الكتاب تحولات عقد السبعينيات فى القرن الماضي، وتوظيف السادات للحركة الإسلامية سياسيا كسند للشرعية وأداة للتبرير، وللتعبئة الاجتماعية.. الخ ثم التناول الرصين لقضية نصر حامد أبو زيد ودلالاتها، ورمزيتها على هيمنة العقل النقلى السلفى، واستخدام سلاح التكفير ضد سلطان العقل الناقد علي نحو أدي إلي إنتاج العقل المعتقل اذا شئنا استعارة الكاتب البولندي تشيسلاف ميلوش، نوبل في الأدب 1980، الذي ادي الي تراجع الفكر الإبداعي ووصل ما انقطع علميا وفكريا مع مدارس الفكر الكوني وعوالمه الأكثر تطورا.
كتاب مهم ورصين يمثل مرافعة عن العقل الحر الناقد الذي يرتكز علي مواصلة الموروث الاعتزالى والرشدى، وعقل الحداثة ، وإرثنا المعاصر فى هذا المجال.
د.نبيل عبد الفتاح
عن جريدة ” الأهرام ” بتاريخ الخميس 24 ديسمبر 2020
د.نبيل عبد الفتاح كاتب ومفكر مصري .مركز الأهرام الاستراتيجي