جان لوك جودار : لماذا سراييفو ؟ من أجل فلسطين بقلم صلاح هاشم
كان المخرج والمفكر السينمائي الفرنسي العظيم جان لوك جودار- من مواليد 1930 وتوفي عام 2022 – الذي اخرج أكثر من 35 فيلما في حياته، مناصرا للقضية الفلسطينية ، في ما أطلقوا عليه في الغرب “النزاع العربي – الإسرائيلي”، وعودة الشعب الفلسطيني تحت الإحتلال في إسرائيل الى أرضه ،و حصوله على حقوقه المشروعة في تأسيس دولة فلسطينة، بعد مرور 65 عاما على النكبة،كما كان قبلها أيضا مناصرا لقضية شعب الجزائر ، وحصوله على الإستقلال من فرنسا، ومدافعا عن هنود أمريكا الحمر – سكان أمريكا الأصليين ، وكاشفا عن المآسي التي إرتكبت بحقهم، وذلك في العديد من أفلامه ” الثورية “. كما في فيلم ” هنا وهناك” – ICI ET AILLEURS -عن فلسطين وحركة ” المقاومة ” من إنتاج 1976 ” وفيلم “موسيقانا ” من إنتاج 2004عن الحرب في سارييفو.لماذا سارييفو؟ .من أجل فلسطين..
فلم يكن جودار – الذي عالج في جل أفلامه موضوعي ” الحب ” و ” الحرب ” كما يقول صديقه الناقد السينمائي جان ناربوني – JEAN NARBONI – في العدد 791من مجلة ” كراسات السينما – LES CAHIERS DU CINEMA- الذي صدر بعد وفاته.لم يكن بيكاسو السينما المعاصرة – والمعلم والمجدد، وأشهر مخرج ومفكر سينمائي في العالم فحسب.بل كان مثقفا ملتزما أيضا، إشتهر بمناهضته العلنية للصهيونية ودفاعه عن القضية الفلسطينية، ومناضلا و مناصرا لجركات التحرر في العالم، ضد الفاشية، والحكومات الإستبدادية، ومشاركا في المظاهرات التي تطالب بوضع نهاية للحرو ،والظلم والإستغلال والعبودية، والإبادة الجماعية المنظمة ،وهو الذي قال أنه : ( إذا كانت الصورة الفوتوغرافية هي الحقيقة، فإن السينما هي 24 صورة للحقيقة في الثانية )..
موسيقانا. سراييفو ومأساة فلسطين
يحكي جودارفي فيلم ” موسيقانا ” عن فلسطين، من خلال حكايته عن مدينة سراييفو في فيلمه،ومأساة الحرب، إذ يعود في فيلمه الي المدينة التي كان زارها من قبل اثناء الحرب، يعود اليهامن جديد، لكي يتفقد أعمال البناء والعمران، ونهوض المدينة ساراييفو من كبوتها، وهي تتطهر من أدران الدمار والخراب الذي لحق بها،بعد انتهاء الحرب الاهلية الدموية، وقد قامت لكي تعيد تشييد ذلك الجسر فوق نهر موستار، الذي كان يربط بين ضفتين، وعالمين متنازعين، وكان الجسر كما هو معروف، يمثل رمزا قبل نشوب الحرب، لقيم التسامح والتآلف والسلام والمحبة،مابين البشر،علي اختلاف عقائدهم،ودياناتهم، من أهل المدينة.ويكشف لنا جودار في فيلمه عن تضافر الجهود في عملية ترميم جسر موستار بمشاركة عالمية، تطلبت خبرات و مجهودات فائقة في جمع أحجار الجسر، وانتشالها من قاع النهر،ثم ترتيبها وترقيمها، قبل ترميمها،واستخدامها ذات الاحجار مرة اخري، في تشييد الجسر من جديد، في سراييفو الحزينة. غير أن ترميم الجسر،كما يشرح لنا جودار في فيلمه، اذا كان ينفع مع الحجر، لاينفع مع البشر، فلا يمكن ترميم ضحايا الحروب، الذين رحلوا عن عالمنا، وأعادتهم الي الحياة من جديد، بعدما صارت الحروب آفة عالمنا في كل مكان. في سراييفو والعراق وفلسطين..
ولذلك يكرس جودار فيلمه، لكي يكون درسا سينمائيا بليغا،في تحليل وتشريح عالمنا المعاصربأزماته ومشكلاته وتناقضاته وحروبه، ويقسم فيلمه الي ثلاثة اجزاء أو ممالك، يطلق عليها تباعا ، ” الجحيم” ثم ” المطهر” ثم ” الفردوس”، عوذلك علي نسق قصيدة ” الكوميديا الالهية ” للشاعر الايطالي العظيم دانتي اليجيري
يقصفنا جودار في ” الجحيم” –الجزء الاول-ويستغرق عرضه بين7و8 دقائق، بصور الحروب المرعبة، ومن دون ان تخضع هذه الصور، لاي ترتيب زمني او تاريخي، فنشاهد طائرات ودبابات وسفن، تقصف وتدمر.ونروح نتأمل في المنظر الطبيعي، الذي تحول الي أرض خراب بفعل الدمار، ومشاهد تنفيذ احكام الاعدام في البشر، وخروج السكان والحشود البشرية، وهروبها من النيران.ويمزج جودار في هذا الجزء، بين الصور بالابيض والاسود والصور الملونة الوثائقية المأخوذة من أرشيف الحروب وكوارثها، وتصاحب الصور 4 جمل مكتوبة علي الشاشة، واربع قطع موسيقية علي البيانو في الخلفية، وتظهر لنا في ذلك الجزء، صورة هذا ” الوحش” الرهيب الذي يسكن داخلنا..
ثم يحكي جودار في ” المطهر”الجزء الثاني من الفيلم، ويستغرق عرضه حوالي الساعة، عن مدينة سراييفو في الحاضر، وبمناسبة دعوته للمشاركة في لقاء من لقاءات الكتاب الاوروبي، كان عقد في المدينة.وكان موضوع اللقاء يدورحول ” ضرورة الشعر”، فينتهز جودار فرصة اللقاء، ويدعو الشاعرالفلسطيني الكبير محمود درويش، للظهور والتمثيل في الفيلم، لكي يناقش من خلال حوار صحفية اسرائيلية معه،وكانت حضرتلتغطية اللقاء.يناقش معها في اطار الحديث عن ” ضرورة الشعر، وضرورة وجود الانا و” الآخر”وضرورة وجود الصورة ونقيضها، ضرورة وجود اسرائيل،وضرورة وجود فلسطين ايضا، وحقها المشروع في الوجود والحياة..
سوف ندفن أيامنا في رماد الأساطير
ويلخص لنا جودار في الفيلم قضية فلسطين بضربة معلم في صورتين، اذ يرينا اليهود في صورة،وهم يعبرون البحر الي الشاطيئ الفلسطيني. إلا ان هذه الصورة وحدها هكذا في المطلق، لاتقول شيئا. لابد إذن من الصورة ونقيضها. ثم يرينا جودار صورة اخري للفلسطينيين وهم يخوضون في مياه ذات البحر،هربامن بطش اليهود ،فيغرقون فيه.ويقول جودار عن الصورتين في محاضرة له مع الطلاب الذين يدرسون السينما في ” اكاديمية الفنون” بالمدينة،أن الباب الذي دخل منه اليهود الي فلسطين،هوذات الباب ، الذي شهد خروج ونزوح الفلسطينيين الكبيرعن بلادهم، ويقول معلقا :
(هكذاعبراليهودالبحر،ودخلواالسينماالروائية،بينما عبرالفلسطينيون البحر، ودلفوا الي السينما الوثائقية ) كاشفا بذلك عمن يكون” الجلاد “في القضية، ومن يكون “الضحية”، جامعابين مشاعرالإحساس بالذنب ومشاعرالغفران،في لقطةواحدة من فيلمه..لقطة واحدة ينهي بها جودارالجدل القائم،معلنا عن موقفه من قضية الشعب الفلسطيني، وانحيازه الي حقوقه الشرعية، في الوجود والحياة.ويقول جودارانه عثر علي صورة الفلسطينيين المذكورة في كتاب ” فلسطينيون ” للكاتب الفلسطيني الياس صنبر،الذي يحتوي علي مجموعة كبيرة من الصور التاريخية للحياة في فلسطين قبل ” النكبة”، وبعد اخراجهم بالقوة من بلادهم ووطنهم.ويظهرفي الفيلم الكاتب الروائي الاسباني الكبير خوان جويتسلو، لكي يردد مقاطع من كتابه ” حالة حصار”، الذي كتبه اثناء تواجده في حصار سراييفو، كما يحضر ايضا “هنود امريكا الحمر”في الجزء الثاني من الفيلم كـ “معادل موضوعي”، لمأساة الفلسطينيين، وغربتهم في وطنهم، تحت الاحتلال.وتهبط جملة علي الشاشة، حين يظهر الهنود الحمر في سراييفو، هكذا فجأة بملابسهم التقليدية، لقطة تقول ” سوف ندفن أيامنا في رماد الاساطير..”
وينهي جودار فيلمه، في الجزء الثالث بعنوان ” الفردوس”، ويستغرق عرضه حوالي 10دقائق، ينهيه بفتاة تتجول داخل الفردوس، أو ” جنة ” جوادر، وكما يتمثلها، علي شكل حديقة غنّاء ، بجوار شاطيء بحيرة ، من نوع البحيرات التي تظهر في الصور التي تمجد الطبيعة.” جنة” نروح نتمشي فيها علي مهل، مثل تلك الفتاة، بين الزهور، واشعة الشمس الذهبية، تتخلل اوراق وفروع الشجر، ونحن نستشعر سعادة، لاندرك كنهها، ثم اذا بنا فجأة، نعثر علي جندي مشاة أمريكي، من قوات المارينز البحرية يجلس هناك، ولاتسل ماذا يفعل “الجندي الأمريكي ” هنا، فهو حتما كما يقول لنا جودار، سوف يكون هناك لحراسة ” جنة ” جودارفي المستقبل، وشوارعها..
اجل امريكا ” شرطي العالم “، سوف تكون ايضا هناك، في ” جنة” جودار، وربما ايضا – والله أعلم – في ” جنتنا”، واذا كان لابد من شرطي، لحراسة شوارعها، طرقاتها ومسالكها، فسوف يكون بالقطع امريكيا..
ويقول جودار إن البعض قالوا، حين أظهر صورة ليهودي في معسكر اعتقال، وكتب تحتها” يهودي”، ثم اظهر صورة اخري لجثة ، بجوار أسلاك المعسكر، وكتب تحتها ” مسلم ” في الفيلم، وكان جوداركشف عن الصورتين، ليوضح ان السينما لايمكن ان تقوم وتكتمل، الا من خلال عرض الصورتين معا، والكشف عن التناقض بينهما، وذلك في نطاق شرحه، لمعنى وأهمية أن تظهر السينما الصورة وعكسها،او الصورة والصورة المناقضة لها في السينما.
قالوا إن ياله من شيء مقرف حقا، لأن تاريخ فلسطين، ليس تاريخ “هولوكوست” تاريخ اليهود وهلاكهم.وتساءلوا، كيف يجرؤ جودار، علي وصف ماوقع للفلسطينيين علي يد اليهود ، وصفه بذلك الهلاك “الهولوكوست” الذي وقع لليهود علي يد النازي، ولاسبيل في رأيهم للمقارنة.لكن جودار كما يضيف، لم يحرك ساكنا، بل رد علي هؤلاء بقوله:” لقد كتبت كلمة ” مسلم ” تحت جثة اليهودي، لأن حرّاس معسكرات الإعتقال النازية، كانوا يهينون اليهود، ويطلقون عليهم وينادونهم باسم ” يامسلم ” آنذاك. ثم ماذا يريد اليهود، أو لم تكن “هوليوود ” تدعي بـ “مكة” السينما في العالم..؟..
فيلم ” موسيقانا ” لجان لوك جودار، الذي الذي لايسرد علينا قصة ، ولايوجع دماغه في تلخيص أحداثها، ينتمي الي النوع السينمائي الخالص المصفي، مثل قصيدة من قصائد الزن ZEN اليابانيةالصغيرة التي تنطق بالحكمة، ومن دون ” تصريحات” فجة، او” هتافات” مزعجة.قصيدة فلسفية تطرح عدة تساؤلات، ثم تمضي في سلام مثل قارب، وتتركنا مأخوذين ومدهوشين، بفنها وسحرها، وهي تدلف الي مياه.. بحر السينما الكبير..
بقلم
صلاح هاشم
صلاح هاشم مصطفى كاتب وناقد سينمائي مصري مقيم في باريس.فرنسا
رئيس تحرير موقع ” سينما إيزيس الجديدة “
***
عن جريدة ” القاهرة ” .رئيس التحرير طارق رضوان. العدد 1213 الصادر بتاريخ الثلاثاء 17 أكتوبر 2023