صلاح هاشم يكتب من باريس لجريدة ” القاهرة ” في مصر عن حصاد العام السينمائي 2023 وسحر السينما الأسيوية الخفي ( 1 من 2 )
حققت السينما الاسيوية المتطورة، في ايران والصين وتايوان وكوريا واليابان في السنوات الأخيرة طفرة هائلة، وحصدت بافلامها الجوائز، في المهرجانات السينمائية الكبري مثل ” كان ” و” فينيسيا ” و” برلين ” و” نانت. سينما القارات الثلاث “, ومع ذلك تخلو بلادنا ،من اية مهرجانات مخصصة لهذه السينما، التي لاتكف عن اعطائنا الدروس، لنا ولغيرنا،هي تسحرنا بفنها الاخاذ..
حتي ان احد النقاد، اعترف لي حديثا في مهرجان ” كان ” الأخير، بأنه سيكف نهائيا عن مشاهدة الافلام الفرنسية،الغارقة في النرجسية المقيتة،والمريضة، في بعض انتاجاتها، وليس كلها، بداء الثرثرة، والكلام و” الرغي ” ،والكثير من الادعاء الفارغ، والحذلقات الفنية الاستعراضية المبهرة، علي مستوي الشكل، مثل هذا الفيلم الفرنسي “الوجودي” الاصطناعي المركب الممل ” تشريح سقوط ” الذي خطف سعفة ” كان ” 76 الذهبية،ووجدت أنه لايستحقها بالمرة..
وقال لي صديقي، أنه يريد ان يتفرغ لمشاهدة افلام السينما الاسيوية فقط، والبحث في اسباب ظاهرة ” الافتتان بالسينما الاسيوية “في فرنسا، والاعجاب الجم بافلامها، وبخاصة بين النقاد الفرنسيين والاوروبيين.وكنت من واقع متابعاتي ومنذ زمن لمهرجان “القارات الثلاث.افريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية” في نانت، الذي يخصص قسما كبيرا لهذه السينما، شاهدت العديد من الافلام الاسيوية الرائعة، واعجبت بها، وكنت اتساءل دوما: لماذا لاتتعلم سينماتنا العربية من تلك الافلام، التي بدأت تغزو اوروبا وامريكا والعالم، ولماذا لانستقدم افلامها ونعرضها في بلادنا، ورحت ابحث في سر سحر السينما الاسيوية الخفي.تري هل يمكن ان تكون بديلا ملهما لنا ،عن افلام هوليوود التجارية، التي تغرق اسواقنا واسواق العالم، ونتعاطف معها بطبيعتنا اكثر.
أكيرا كيروساوا وتأثير السينما اليابانية على جيل كامل
لاجدال في ان الافلام الاسيوية من جهة اثرت في السينما الامريكية والاوروبية الحديثة, وبخاصة في افضل نماذجها الفنية المتطورة، وكان اجمل تقدير لهذه السينما والتقاليد الفنية التي ارستها، من خلال اعمال كبار المخرجين، من امثال اكيرا كيروساوا، واوزو، وميتسوجوتشي من اليابان، وساتيا جيت راي من الهند، ان المخرجين الامريكيين كوبولا وجورج لوكاش ومارتين سكورسيزي، شاركوا في انتاج فيلم ” احلام ” للياباني اكيرا كوروساوا، بعد ان فشل معلمهم، وبشهادتهم ،فشل ان يجد ممولا لفيلمه ذاك في اليابان..
كما اثرت افلام السيف، والكونج فو، وافلام المخرج الصيني جون وو من هونج كونج، في مخرجي الموجة السينمائية الامريكية الحديثة , كما في اعمال كوينتن ترانتينو، حتي ان فيلمه ” اقتل جيم ” كان بمثابة ” تحية ” الي هذه السينما، التي تأثر الي حد كبير بحركيتها و ديناميكيتها، وبهرته ،بحيويتها الفائقة..
ونفس الشييء مع المخرج الامريكي جيم جامروش، الذي يبدو متأثرا بفلسفة الزن اليابانية، وكان فيلمه ،الذي يعرض لقاتل اجير امريكي اسود، يربي الحمام فوق سطح بيت ، ويدرس في كتاب تعاليم فلسفة الزن ليصير بوذيا ، ويقتل كما يصلي في معبد، وكما يتصادق في حب مع احد الباعة الجائلين، ويحارب رجالات المافيا الاوغاد ، الذين تورط معهم في جريمة..
وكان ان سارعت هوليوود الي استقدام “جون ووو” من هونج كونج، وبسرعة صارالدجاجة التي تبيض ذهبا، واخرج عدة افلام في هوليوود، حصدت مئات الملايين لاستوديوهاتها، مثل فيلمه ” الوجه المزدوج ” face-off بطولة جون ترافولتا.كما ان العديد من المخرجين الاوروبيين، مثل الالماني فيم فندرز، لايخفون اعجابهم وتأثرهم بافلام السينما اليابانية, فقد تأثر فندرز مثلا بالمخرج الياباني اوزو، واخرج فيلما تسجيليا عن اوزو في اليابان، وكان عرض فيم فندرز في هذا الإطار فيلمه الأخير ” يوم رائع ” – A PERFECT DAY- الذي شاهدته في مهرجان ” كان ” وأعجبت به كثيرا وحصل على جائزة في مسابقة الأفلام الروائية في المهرجان، في حين ذهبت جائزة السعفة الذهبية لفيلم فرنسي ممل وثرثار وعدمي ،من النوع ” الوجودي ” – تشريح سقوط ” الذي خرجت منه بعد نصف ساعة، ومنحته اكثر مما يستحق، على أمل أن أخرج منه بشييء، ولم يحدث.
أين يكمن سحر السينما الاسيوية الخفي؟
ولهذا الاعجاب والافتتان بسحر السينما الاسيوية الخفي في اوروبا وامريكا والعالم اسبابه بالطبع، ومن ضمنها اعتمادهذه السينما اولاعلي تطوير التقاليد السينمائية التي ارساها المخرجون القدامي، واهتمامها بذاكرتها وتاريخها، ونهلها من تلك التقاليد الفنية الغنية ،علي مستوي طريقة السرد، والتعامل مع الموروث الحكائي والفني الشعبي، في فنون الادب و الموسيقي والرقص والغناء والمسرح كما في ” مسرح النو ” في اليابان، واستحضارها في السينما.بالاضافة الي ان لهذه السينما الاسيوية زمن خاص، وايقاع خاص, ونفس شعري مميز يقربها في اعمال بعض المخرجين الاسيويين من امثال التركي ايلماظ جوني، كما في فيلمه الاثير ” القطيع ” ،والياباني ميتزوجوتشي كما في فيلمه الساحر ” حكايات القمر الشاحب بعد المطر ” ، والايراني عباس كيرستامي كما في فيلمه ” عبر اشجار الزيتون ” ، والهندي ساتيا جيت راي كما في فيلمة ” ثلاثية أوبو “, والياباني اكيرا ميروساوا كما في فيلمه الاثير ” راشومون ” ..
يقربها من روح الاساطير, والحكواتية العظام، والادب الروائي العالمي في افضل نماذجه, عند ادجار الآن بو وتولستوي وتشيكوف ومحفوظ. انها ببساطة تحكي لنا رواية الارض، وتطرح فلسفة حياة كاملة , وتجعلنا نفكر في المصير الانساني، ويقينا ان مايمنحها عظمتها وتألقها، اضافة الي حركيتها الفائقة، والمنظر الطبيعي الساحر للبيئة والطبيعة والمكان، تركيزها علي الانسان، و الوجه الانساني. وجه “الآخر” الذي لا لانعرفه ، فتجعلنا نتواصل معه، وتقربنا من خلال ذلك التواصل،وكمرآة لحركة الحياة والواقع وصيرورته في تلك المجتمعات الاسيوية..
تقربنا اكثر من انسانيتنا، وتتسامي بارواحنا، في قلب حضارة الاستهلاك المادية الانانية في الغرب، التي تقتل الروح. وعلينا الآن, وأكثر من أي وقت مضي ، ان نحاول استيعاب الدرس الاسيوي ، ونتعلم من السينما الايرانية والتركية والصينية واليابانية التي حققت طفرة هائلة في السنوات الأخيرة ،وندرسها ايقاعا وتاريخا وتكوينا، لنعرّف باضافاتها ومدارسها، ونخرج من عزلتنا..
بقلم
صلاح هاشم- باريس
صلاح هاشم مصطفى كاتب وناقد ومخرج مصري مقيم في باريس.فرنسا.مؤسس موقع ” سينما إيزيس ” الجديدة عام 2005 في باريس فرنسا ويعني الموقع بفكر السينما المعاصرة وفنون الصورة ويطرح ” رؤية ” للثقافة والحياة
***