فيلم عن الوجود الإيزيدي في العراق بقلم يوحنا دانيال
يعتبرالمخرج السينمائي العراقي باز شمعون من أوائل الذين اهتموا بقضية الإيزيديين في العراق. وهذا يتجلى في آخر وأطول أفلامه، الذي عمل عليه منذ عام 2007 إلى 2017 وجاء عنوانه “73 درجة مئوية”
بوستر الفيلم
في إشارة إلى عدد النكبات والمجازر التي تعرض لها الإيزيديون في تاريخهم الطويل. هذه الإثنية المسالمة التي تشترك مع الأكراد في اللغة وتختلف في الدين، لكن بعضهم يرفضون اعتبارهم من الأكراد، رغم أن الكثير من أفراد الطائفة أعضاء في الأحزاب الكردية وفي قوات البيشمركة.
يأخذ فيلم “73 درجة مئوية” ثلاثة مسارات درامية، أكبرها وأهمها هو المسار الإيزيدي، ثم مسار ضحايا الإرهاب في العراق من الأطفال الإيزيديين والشيعة والأكراد السنّة، وأخيرا هناك المسار الشخصي الآشوري المسيحي، الذي يتعلق بالمخرج باز وأبيه المناضل اليساري القديم دنخا شمعون، الذي نجت أمه الحبلى من موت محقق في مجزرة الآشوريين في الثلاثينات من القرن الماضي في قرية سمّيل، بالتجائها إلى عائلة إيزيدية كما يرد على لسان الأب.
المخرج العراقي باز شمعون
وفي الفيلم يتداخل المساران الأول والثاني سينمائيا بانسجام في معظم الأحيان، ثم يكملان بعضهما البعض في النهاية. وربما يصعب على المشاهد غير العراقي فهم المسار الآشوري الثالث، لأنه لا يبدو من صلب الأحداث المعاصرة الواردة في الفيلم، لأن القضية الآشورية تعود إلى الثلاثينيات من القرن الماضي، مع المجازر التي ذكرناها سابقا. لكن المخرج باز يفسر الأمر، بأنه محاولة مشروعة منه لضمّ الهمّ المسيحي الآشوري إلى باقي الهموم في الفيلم،
لأن المسيحيين تمّ طردهم من مدنهم وقراهم التي احتلها “داعش” وهكذا يحاول تناول جرائم الإرهاب والدواعش تجاه جميع مكونات المجتمع العراقي. يبدو المسار الإيزيدي رائعا ومتكاملا في حد ذاته، وكأنه يستحق أن يكون فيلما منفصلا ومستقلا. وربما هذه كانت النية أصلا عند المخرج، ويشهد على ذلك عنوان الفيلم وأحداثه أيضا. اذ يصور لنا باز الطقوس الإيزيدية، والأماكن المقدسة عندهم، ببراعة وجمال واحترام وفهم عميق. وللحق،
هذه أول مرة أشاهد هذه الطقوس الجميلة العفوية. كما صور لنا غناؤهم الديني وأناشيدهم، وطقوس الحزن التي جرت في أعقاب عملية إرهابية كبيرة في عام 2007 ارتكبها متطرفون إسلاميون من أتباع الدولة الإسلامية في العراق، أدت إلى مقتل أكثر من 300 شخص وجرح ضعف عددهم من الإيزيديين الأبرياء.
وأخيرا يصور لنا طقوس الزواج لإحدى الضحايا موضوع الفيلم، وهي الفتاة آسيا كمال، التي صادفها باز وهي مصابة بالتفجير وقد فقدت العديد من أفراد عائلتها في 2007 ثم صادفها من جديد بعد تهجير الإيزيديين في 2014 وقد أصبحت شابة جميلة وتزوجت من ابن عمها.
عقليات متناحرة متوارثة وبالعودة الى أبطال الفيلم؛ الأطفال آسيا الإيزيدية وريّان الكردي وعلي الشيعي، وهم ضحايا أعمال العنف والإرهاب، نجد انهم يعكسون أنماطا تربوية وعقلية متوارثة ترفض الآخر وترفض بعضها البعض، وهذا ما نكتشفه عند تواجدهم مع بعضهم للعلاج في ألمانيا. لكن بعد اهتمام ورعاية كبيرة من شخص إيزيدي في منزله في ألمانيا، يبدأ الحاجز بينهم في الانهيار. وربما يعود سبب هذا السلوك الانعزالي، لأنهم أصلا لا يعرفون بوجود الآخر في المجتمع وفي الوطن. وإذا عرفوا بوجوده، فإن الآخر يتم تصويره كخصم أو مجرم أو عدو.
يحاول باز بصبر، ان يصور معاناتهم جراء إصاباتهم القاسية، إذ أن أحدهم فقد رجله بالكامل، والآخر فقد بصره ويده، لكن الإصابات تمتد إلى دواخلهم، في هيئة غضب وكراهية عمياء لكل شيء، خصوصا عند الولدين ريان وعلي، المتنافران دوما. وهذه إشارة رمزية واضحة، إلى دور الذكور في الصراعات والحروب الأهلية العنيفة في العراق، على عكس الإناث اللواتي يصبحن ضحايا وسبايا نتيجة هذه الحروب.
ورغم أن الفيلم في متنه ومعظمه تسجيلي، يحاول نقل وقائع وحقائق عن الإيزيديبن وحياتهم ومعاناتهم، وعن ضحايا الإرهاب و”داعش” في العراق، لكنه لا يتوقف عند ذلك. إذ يبرز فيه خيط روائي واضح وجميل، يشد المشاهد في حكاية البطلة آسيا، التي نراها في البداية تعاني من إصابات جسدية بسبب التفجير الإرهابي الكبير، وإصابات نفسية عميقة جراء فقدانها العديد من أفراد عائلتها. لكنها بعد سنوات النزوح نراها فتاة جميلة وقد تزوجت من ابن عمها الشاب، وشفيت من جراحها الجسدية والنفسية. الشيء نفسه يحصل في حكايتي ريان وعلي، إذ يصبح ريان عازفا وعاشقا للموسيقى، وعلي مقاتلا في الحشد الشعبي ضد “داعش”. ورغم قلة التفاصيل في حكايتيهما، فإن الفيلم يحاول أن يزرع الأمل بعد كل هذه المصائب. يقول باز أنه يصنع سينما حقيقية، تهتم بالإنسان أولا، وبما يدور حوله من أحداث تؤثر على حياته ومصيره،
لكن في النهاية على السينما أن تعرض بطولات الناس العاديين الحقيقيين. هذا المزج بين الوثائقي والروائي ممتع وصادق، وشاهدناه في أفلام وثائقية وروائية أخرى، ويحاول أن يشق طريقه سينمائيا. في النهاية، تمنيت لو ان مثل هذه الأفلام تعرض في دور السينما وعلى شاشات التلفزيون، ويشاهدها الجمهور العريض بدل اقتصار عرضها في المهرجانات لجمهور نخبوي.