ثورة الذكاء التوليدي والروبوتات والسياسة المتغيرة بقلم نبيل عبد الفتاح
فى عصر السرعة الفائقة، تبدو التغيرات فى السياسة، والاجتماع الإنسانى ناعمة فى تمددها ، وتغير كل ما ألفته أجيال الحداثة، وما بعد بعدها ، وفى عالم الإناسة الروبوتية وآثاره التحولية إلى مابعده .غالب المفاهيم والنظريات والفلسفات فى العلوم الاجتماعية، وبعض الطبيعية فى تغير، وتندثر مصطلحات، وتتدفق على نحو متلاحق مصطلحات جديدة، وظواهر غير مألوفة فى السياسة، والثقافة، والقيم السياسية والاجتماعية، والرؤى للذات الفردية، وللجماعات والمجتمع، والنظرة للعالم ، والحياة والشرط الإنسانى، والمعنى فى الحياة.
بات الذكاء التوليدى، وعالم الروبوتات، يتداخل فى الحياة الإنسانية من مفهوم السياسة، والدولة القومية، ومؤسساتها، وسلطاتها إلى الحروب وأصبحت الحرب السيبرانية وتحولاتها علامة تحول من التجسس على المعلومات، والأسرار، والشخصيات، وأنظمة التسليح وأسرارها، من خلال المركبات الجوية غير المأهولة (Unmanned Aerial System) (UAS) التى تشمل الطائرات وكل أنظمة التحكم والاتصال، أو ما يطلق عليه Drone الدرون، وهى تسمية شائعة، وأيضا الصواريخ فائقة التدمير للمنشآت على نحو ما حدث فى ضرب إسرائيل وأمريكا المواقع النووية الإيرانية الثلاثة، وفى اغتيال السيد حسن نصر الله فى الضاحية الجنوبية وثلاثة مستويات قيادية فى حزب الله. التغيرات فى الحروب وحسمها عن طريق الذكاء التوليدى، والطائرات المسيرة «الدرون»، هى علامة على تحولات فى أنظمة التسليح، والحروب، وسيتزايد بقوة حضور الذكاء التوليدى، والروبوتات فى الحروب القادمة على نحو يقلص نسبيا من دور أنظمة التسليح، والجيوش التقليدية. ستتزايد أدوار حروب العصابات، على نحو ما تم من المقاومة الفلسطينية فى حرب العامين ويزيد فى قطاع غزة، لاسيما فى القادم من الصراعات فى الدول الإفريقية، وأمريكا اللاتينية ..الخ.تأثيرات ثورة الذكاء التوليدى، والروبوتات باتت تمثل فجوات بين القادة العسكريين والاستراتيجيين فى الدول الأكثر تقدما فى عالمنا، ومن ثم أجيال (Z)، وألفا وبيتا فيما فى العقود المقبلة من العسكريين، الذين سيمثلون نقلة فى التفكير العسكرى، والتخطيط للحروب، وفى الأداء القتالى. من ناحية أخرى سيلعب الذكاء التوليدى دوره فى تحليل الأنظمة المعلوماتية والعسكرية للخصوم، وفى كيفية التعامل المضاد معها هجومًا ودفاعًا، وأيضا فى تطوير الأنظمة التسليحية. من هنا سيؤثر ذلك على هيكل الأعمار، والأجيال داخل الدول العظمى من الولايات المتحدة، لأوروبا الغربية والناتو والصين، وروسيا، وسيمتد ذلك إلى الجيوش الأخرى فى جنوب العالم.
الذكاء التوليدى، والروبوتات، سيحدث تغييرًا فى المؤسسات الأمنية داخل دول العالم المتقدمة، والمتوسطة، والمتخلفة. لم تعد أنظمة المراقبة مقصورة على المتابعة الشخصية للشخصيات التى تمثل تهديدًا للأمن الداخلى السياسى، والجنائى، ولا المتابعة الرقمية للهواتف النقالة، ولا برامج التجسس وبرامجها الرقمية، ولا كاميرات الرصد فى المنازل والشوارع، ومؤسسات الدول والشركات، والمطاعم، والقطارات والسيارات… إلخ،
وإنما يلعب الذكاء التوليدى والرقمنة دورًا فى تطوير تقنيات مكافحة الجرائم، ورصدها وتوثيقها، وربما سيلعب أدوارًا فى التحقيقات السياسية والأمنية، والجنائية، وفى التوثيق وتحليل الوقائع التى تشكل جرائم دولة من الداخل أو الخارج، أو جرائم جنائية من مثيل السرقة، والنصب، والقتل والضرب، والرشوة، والاختلاس، والاتفاق الجنائي… إلخ.
ثمة إمكانية محتملة لأن تقوم برامج الذكاء التوليدى، والروبوتات بتوقع أنماط الجرائم وأسبابها فى ضوء البيانات الضخمة وتحليلها وبناء السيناريوهات حول أنماط الجرائم وأماكنها، وإجراء التحقيقات مع المتهمين، فى ضوء المعلومات حول الجرائم المرتكبة أيا كانت! قد يبدو ذلك محض تصورات متخيلة الآن ، إلا أن سرعة تطور الذكاء التوليدى تشير إلى إمكانيات تحققه بسرعة. من ثم ستؤدى هذه التحولات إلى تغييرات واسعة فى السياسة الأمنية، والجنائية، وأيضا فى المسئولية الجنائية فى حال الأخطاء التى قد يقع فيها الروبوتات، أو برامج الرقابات الرقمية، ومن ثم هل تقع المسئولية على الروبوتات أو البرامج، أو الشركات الرقمية المنتجة لها! أم على الدولة، ووزارات الأمن الداخلى أو الاستخبارات. سيؤدى ذلك إلى نظريات جديدة للمسئولية القانونية، وقوانين الإثبات، وقوانين العقوبات والإجراءات الجنائية.
لاشك فى أن هذه التحولات المتسارعة فى الذكاء التوليدى ستتطلب إعادة النظر فى سياسات التعليم الشرطية والأمنية، وفى برامج التدريب والتكوين لرجال الشرطة، وللأجهزة الأمنية أيا كان مجال اختصاصها . ثمة أفكار جديدة حول برامج المراقبة الرقمية، وانتهاك الحق فى الخصوصية، لاسيما فى ظل تمدد الرقابات الرقمية لتفاصيل الحياة اليومية، خاصة فى ظل عمليات التصوير بالهاتف المحمول للأفراد، وذلك فى مساحات واسعة من تفاصيل الحياة الفردية، والاجتماعية. من ثم تثور مسألة تحديد المسئولية عن انتهاكات الخصوصية، والحريات الفردية. تشير التحولات التقنية نحو مرحلة ما بعد الإنسان إلى اتساع الفجوات الجيلية بين أجيال Z وألفا، وبيتا – جيل 2025 – فى التفكير والتكيف مع الذكاء التوليدى، وفى التعليم، والثقافة التوليدية، على نحو يؤدى إلى تمردها على الأجيال السابقة، فى الأسرة، والعمل، والنظام.
مفهوم السياسة الحداثى، وما بعده فى طور التآكل، ومن ثم سيشمل مفهوم القومية، والسيادة وستغدو السيادة ليست مرتكزة على الجغرافيا السياسية والحدود، والاستقلال، وإنما السيطرة على البيانات الضخمة، والمعلومات، والأهم العقل السياسى الرقمى القادر على التعامل مع التغيرات الرقمية والاجتماعية والاقتصادية، من خلال تطوير السلطات السياسية، والأهم مع الأجيال الجديدة. عالم مختلف تماما يتشكل بسرعة فائقة، ولا تزال هناك نخب سياسية أسيرة لسياجات فكرية وسياسية موروثة من نهاية الحرب الباردة، بينما ثورة الذكاء التوليدى يفكك موروثات ما قبله!
نبيل عبد الفتاح
كاتب وباحث ومفكر تنويري مصري ومستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية

**
عن جريدة ” الأهرام ” بتاريخ 2 أكتوبر 2025 لباب ” مختارات سينما إيزيس ” المخصص لنشر مايعجبنا من المقالات والأبحاث والدراسات في جميع نواحي المعرفة
–
تعليق:
مقال رائع يطرح فيه مفكرنا التنويري الكبير نبيل عبد الفتاح في عصر السرعة، التطورات التي تلاحقنا بسرعة الضوء القائق ، وعصر الروباتات والذكاء الاصطناعي ،وكذلك تساؤلات الوجود الكبرى، ويجعلك وأنت تقرأ تطوف معه وتصحبه في ترحاله، حتى يتحول المقال الفطن، و بقدراته الاسترجاعية التخيلية، الى فيلم سيتمائي مثل فيلم ” متروبوليس ” للألماني فريتز لانج، الهارب الى هوليوود من يطش وجحيم النازية،و يذكرك أيضا بإحدى روائع أحد أهم أفلام ” الخيال العلمي ” الطليعية، التي قدمت صورة للمستقبل القريب جدا، وأعني به رائعة المخرج الأمريكي الكبير ستيفن سبيلبرغ IA ، حين تتحكم فينا ماكينات الذكاء الاصطناعي، وبخاصة حين يتم اختراع روبوت متقدم ، من ” ميكا ” أي آلة ، الى ” ريال ميكا ” أي آلة تحس وتشعر وتحب في الفيلم، وأكثر شبها بالإنسان الحقيقي،
بينما نحن نعيش في “الدولة المتوسطة”محلك سر، ونحلم برغيف عيش نظيف، و وطن نستطيع أن نسير فيه فقط على الرصيف ، ومن دون أن يزعجنا أحد ،ونحلم فقط ،في زحام الحشد الإنساني، بأدني نوع ممكن من الحياة الكريمة.. يا حسرة .
شكرا استاذ نبيل عبد الفتاح بلبلنا المغرد
صلاح هاشم مصطفى
كاتب ومخرج سينمائي مصري مقيم في باريس فرنسا.مؤسس ورئيس تحرير موقع ” سينما إيزيس ”




























