أين المثقف مابعد ” الكولونيالية ” والحرب الباردة ؟ بقلم نبيل عبد الفتاح
منذ انفجار الربيع العربى المجازى، وفشل مراحل الانتقال السياسى، وضعف أداء النخب السياسية والجماعات الثقافية التى ظهرت خلاله، يطرح سؤال أين النخب وأدوارها وخبراتها السياسية؟ أين المثقفون ووظائفهم التاريخية منذ قضية درايفوس التاريخية مرورا بتطور فرنسا وأوروبا الحديثة والمعاصرة، وحتى مراحل التحرر الوطنى، والاستقلال، وما بعد الكولونيالية لمثقفى الجنوب والعالم العربي؟ أين هؤلاء فى ظل الثورة الرقمية؟ هل هناك عقل رقمى نخبوى فى مواجهة أو بالموازاة مع عقل الجموع الرقمية الغفيرة ؟
بعض الإجابات الشائعة تركز على حالة السياجات السياسية وقيودها على العقل العربى المعتقل فى ظل إغلاق المجال العام السياسى، وضغوط العقل الدينى النقلى، وجماعات الإسلام السياسى التى قفزت من بين القواعد الاجتماعية العريضة إلى السلطة وفشلها، والقيود التى فرضتها على الحياة العقلية، والإبداع والهندسة الدينية للحياة الشخصية والجماعية والسلوك الاجتماعى وأقنعته وازدواجيته، ولغة الحياة اليومية، وفق تفسيراتها السياسية المتشددة للنصوص الدينية، وللسرديات التأويلية الوضعية لها والمتناقضة مع غالبها! هذا النمط من الإجابات يحملُ نسبيا بعضا من الإجابات الجزئية المحدودة على الأسئلة السابقة، إلا أنها تحملُ بعضا من الضباب السببى والتحليلى، والابتعاد والانفصال وعدم متابعة لبعض من التحولات الكبرى التى تمت فى عالمنا، وإقليمنا العربى، وعلى رأسها الانفصال عن التحولات الرقمية، وأيضا عدم دراسة التغيرات فى وضعية المثقفين فى المجتمعات الغربية ـ فرنسا وألمانيا وإيطاليا وبلجيكا..إلخ، التى عرفت المثقف وادواره ـ إجابات تبدو فى بعضها ساكنة، وقديمة، وعامة لا تجيب فقط على هذه الأسئلة، بل وتصلح للإجابة عن غالب الأسئلة السياسية، والاجتماعية المثارة حول تخلفنا التاريخى المركب، ومن ثم لا تجيب غالبا على شيء!. أسئلة، وإجابات تتناسل من حالة الانفصال المزدوج بين العقل العام، وبين دراسة واقعه الفعلى، والرقمى، وبين تحولات عالمنا فائق التطور، والتحول فى الشمال، وآسيا الناهضة.
تراجع دور المثقف، والخطاب حول نهايته بدأ منذ انهيار الإمبراطورية الماركسية السياسية، ونهاية السرديات الكبرى ـ وفق ليوتار ـ، والتحول إلى النيوليبرالية، وهيمنتها على عالمنا، ومعها الإمبراطورية الأمريكية، وصعود بعض الدول الآسيوية الناهضة، تكنولوجيا وعلميا واقتصاديا.
بعض الفكر الفلسفى والسوسيولوجى الغربى، ظل يتابع هذه التحولات الكبرى، وتحليلها، من خلال بعض المقاربات القديمة، والجديدة إلا أن تراجع الفكر الماركسى واليسارى ـ عقب نهاية الحرب الباردة- أثر جزئيا وسلبا على بعض من أثر البحوث على الحياة الفكرية والسياسية والاجتماعية والثقافية، وفى محدودية بعضها لصالح الدور الكبير للبحوث العلمية والتكنولوجية والذكاء الاصطناعى فى التأثير على مسارات السياسات النيوليبرالية، فى تطبيقاتها العملية، وعلى ثورة الاستهلاك المفرط وتشكيلها للإنسان المُستهلك، والمنهك وراء رغباته ودوافعه، وتفكيره فى استهلاك السلع والخدمات، ومن ثم انشغال العقل بعالم الاستهلاك، والخدمات وإنتاج العقل المُستهلك! من خلال أدوار وتأثير الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعى.
لا شك فى أن التحول إلى النيوليبرالية، مع الرقمنة أدى إلى عديد الانعكاسات على أفق التفكير، ومفاهيم السعادة، والحرية، والسياسة، والعدالة والزمن المتسارع بوتائر فائقة، على نحو أثر على عقل العوام الرقميين ومن ثم على فاعلية الأحزاب السياسية، وعلى مدى قدرتها على تمثيل المصالح الاجتماعية والاقتصادية، والتعبير السياسى عن قواعدها الطبقية من خلال النماذج والنظم السياسية الديمقراطية! ولجوء الشباب إلى الحياة الرقمية لممارسة الضغوط على صناع السياسات والقرارات وعلى المعارضات السياسية.
الأخطر أن الرأسمال الخبراتى السياسى للطبقات السياسية الحاكمة، والمعارضة فى المجتمعات الديمقراطية الغربية، اتسم ببعض من الهشاشة، والضعف، على نحو ما ظهر، ولا يزال فى مواجهة بعض المشكلات والأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية الداخلية، وفى التعامل مع بعض الأزمات الدولية، وتأثير السياسة الأمريكية، ومصالحها الكونية والوطنية على بعض من قرارات السياسة الخارجية للمجموعة الأوروبية، وهو ما ظهر فى الحرب الروسية الأوكرانية، وأيضا فى حرب الإبادة الإسرائيلية على السكان المدنيين فى قطاع غزة! والدعم والمساندة العسكرية، والاستخباراتية، والاقتصادية والسياسية للعدوان الإسرائيلى الكولونيالى على القطاع، بدعوى زائفة، هى حق الدفاع الشرعى للاحتلال عن نفسه !، ونسيان حق المقاومة المشروعة، وتقرير المصير للفلسطينيين إزاء المستعمر الاستيطانى باسم الأساطير التأويلية السياسية التوراتية!. الأهم هذا الانحياز الأعمى لبعض الفلاسفة -هبرماس مثلا-، والأكاديميين الغربيين، ومؤسساتهم الجامعية والبحثية لإسرائيل، ومعهم الغالبية الساحقة من أجهزة الإعلام المرئية والمسموعة، والصحف والمجلات، إلا فيما ندر من آراء ومقابلات رافضة للمذبحة والإبادة الجماعية، والتجويع، وقتل الأطفال والنساء والشيوخ، وتحطيم المستشفيات، وبعض مراكز العبادة المسيحية والإسلامية، وحالة الحصار والعقاب الجماعى للقطاع!
لا شك فى أن الحرب الغاشمة على القطاع، كشفت أيضا عن نهاية الدور النقدى التاريخى الحداثى، وما بعد الكولونيالى للمثقف الغربى، فى السعى والبحث عن الحقيقة، فى ذروة الأزمات الكبرى، واتخاذ المواقف النقدية الشجاعة فى مواجهة السلطة السياسية، ومواقف الجموع إزاءها، وتفكيكها، وهدمها الخلاق، واتخاذ الموقف المناصر للشعوب المحتلة، وحقها فى الدفاع الشرعى ضد المحتل، وتقرير مصيرها، والأهم الدفاع عن الوجود الإنسانى فى ذاته ـ أيا كان عرقه، وديانته ومذهبه، وأرضه، وتاريخه وقوميته وحضوره على الجغرافيا السياسية لأقاليم العالم..إلخ، وعن حريته واختياراته. الأدوار ما بعد الكولونيالية للمثقف، تراجعت لصالح أدوار خبراء المناطق فى الولايات المتحدة ومراكز البحث والجامعات وامتدت إلى أوروبا، وحلول خبير المنطقة بديلا عن المستشرق الكلاسيكى فى دراسة العالم العربى، من هنا تراجع أيضا دور المستشرق، وبعض أدوار القلة منهم، خاصة بعضا من جماعات الاستشراق الألمانية، والنمساوية، والفرنسية! من ثم ظهرت تحيزات بعض خبراء المنطقة السياسية لصالح دعم إسرائيل وحربها الإبادية للشعب الفلسطينى خشية على مصالحهم وأوضاعهم داخل مراكز البحث والجامعات، والخوف من فصلهم ودفعهم للاستقالة. أدت الحرب على قطاع غزة إلى أفول تيار السلام الإسرائيلى الداعم لحل الدولتين، والدولة الواحدة ذات القوميتين، والتى كان يدعمها اليسار الإسرائيلى، وحزب راكاح قبل وبعد اتفاقية كامب ديفيد! تراجع اليسار الإسرائيلى، كنتاج لتحولات المجتمع السياسى، والدينى الإسرائيلى نحو اليمين، واليمين المتطرف، ومعها تراجعت بعض الأصوات النقدية للسياسة الإسرائيلية الاستيطانية تجاه الشعب الفلسطينى، وباتت محدودة الأدوار، والأصوات، والتأثير السياسي.
فى ظل هذه الأوضاع الدولية، والإقليمية المتوترة، وبعض الاضطراب السياسى، تحولت الأمم المتحدة، وقواعد القانون الدولى العام، وقانونا الحرب والدولى الإنسانى إلى أدوات يتم التلاعب بها، وعدم إنفاذها فى أيدى «الإدارة الأمريكية للحزب الديمقراطى ورئاسة بايدن»، والإدارات السياسية الأوروبية، ولا يؤبه بها من قبل الحكومة والدولة الإسرائيلية، على نحو أدى إلى فقدان قطاعات شعبية واسعة فى المنطقة الثقة بالمنظمة الدولية، وبالقانون الدولى وقواعد الشرعية الدولية التى تنتهك من قبل إسرائيل وجيش الاحتلال فى غزة، وغيرها من قضايا المنطقة.
بقلم
نبيل عبد الفتاح
مفكر وباحث مصري تنويري ومستشار مركز ” الأهرام ” للدراسات السياسية والإستراتيجية.مقيم في القاهرة.مصر