فى الذكرى التاسعة لرحيله. مدكور ثابت وليلة طلائع معهد السينما .
ست عشرة ورقة مطبوعة على الآلة الكاتبة، هي صفحة من مذكرات الدكتور مدكور ثابت، أستاذ الإخراج السينمائى فى المعهد العالى للسينما بأكاديمية الفنون، كنت أحتفظ بصورة كربونية منها، كان قد أهداها لى منذ سنوات بعيدة. وفي أحد لقائاتي معه عام 2006، حينما كان يشغل منصب رئيس أكاديمية الفنون، وكانت تربطنا علاقات العمل وصداقة قديمة قوية، أردت أن أُطلعه عليها وأُذكره بها، وحينما قرأ عنوانها، سعد بها سعادة بالغة، حيث كانت له مفاجئة، فقال أنه فقد الأصل منها فى زحمة أوراقه الكثيرة، فأعطيته الصورة الكربونية واحتفظت بصورة ضوئية لنفسي. واستأذنته في أن أكتب يوما ما عن هذه الأوراق التى أدهشنى موضوعها، رغم أننى لا أعمل بالسينما، ولكننى من الهواة والمهتمين بها. ولرحيل د. مدكور ثابت منذ سنوات، فكان لزاماً علي أن أحصل على موافقة بالنشر من نجله المصور السينمائى ثابت مدكور ثابت، الذى رحب بالفكرة على الفور.
تحمل هذه الأوراق عنوان “مايو 68 وليلة الأفلام الأولى لطلائع معهد السينما”. فقد كانت هذه الليلة، وكما يسرد لنا مدكور ثابت، ليلة هامة فى حياته هو وزملائه بعد تخرجهم، حيث عرض فيها ولأول مرة منذ إنشاء المعهد عام 1959، ثلاث أفلام قام بإخراجها وتصويرها وتنفيذ كل مهامها السينمائية بالكامل خريجون المعهد من الدفعة الأولى سنة 1963 والدفعة الثالثة سنة 1965. ويقول أن الخمس سنوات بعد تخرج أول دفعة وحتى هذا العرض التاريخي، هى سنوات استطاع فيها أبناء الدفعات الأولى أن ينالو فقط فرص العمل المتناثرة مرة هنا وأخرى هناك، ولكن كمجرد مساعدين، أو على أحسن الفروض حصول البعض على فرصة الإسهام بمهنة سينمائية فى فيلم لقدامى الرواد، كأن يكون الخريج مصوراً أو مهندساً للديكور وما إلى ذلك، ولكن أن تتولى مجموعة من الخريجين الفيلم كاملاً فهذا ما لم يحدث إلا مؤخرا حينما تم عرض هذه الأفلام الثلاث في تلك الليلة.
والآن ونحن في عام 2020 في مناسبة مرور خمسة وسبعون عاما على ميلاد مدكور ثابت “1945-2013″، ومناسبة مرور مائة وخمس وعشرون عاما على مولد فن السينما “1895”، وأيضا فى مناسبة مرور العام الواحد والستون على إنشاء معهد السينما، جائتني فكرة عرض ما تناوله مدكور ثابت في هذه الأوراق التى تحمل صفحة من مذكراته، وتُؤرخ لفترة ما بعد حرب 1967، تحيةً له ولذكراه، وتذكرة لجيل السينمائيين الجدد بماضٍ قريب.
مدكور ثابت هو إبن صعيد مصر، ولد في قرية أشقا/طما مركز سوهاج في 30 سبتمبر 1945. حصل على شهادة الثانوية العامة بمجموع كبير يؤهله للإلتحاق بأية كلية من الكليات المميزة، إلا أنه فضل الإلتحاق بالمعهد العالي للسينما. وهنا ذكر صديقه وزميله في الدراسة د. محمد كامل القليوبي المخرج السينمائي وأستاذ السيناريو بالمعهد العالي للسينما، أن مدكور قد قرر إن لم يلتحق بمعهد السينما فإنه لن يلتحق بأي نوع من الدراسة الجامعية الأخرى، أى أنه كان لديه إصرار شديد على دراسة السينما، ووصَفه بأنه كان من ألمع طلاب هذا الجيل لما يمتلكه من طموح كبير وأفكار متمردة، فلم يكن طالباً متفوقاً فحسب بل كان مثيراً للإنتباه، ولديه شغف شديد بالسينما وحب كبير لوطنه. وحينما تقدم مدكور لتأدية اختبارات القبول بمعهد السينما، يقول الكاتب والناقد السينمائي فاروق عبد الخالق أنه كان وقتها أصغر طالب يلتحق به على مدار تاريخ المعهد، حيث كان فى السادسة عشر. ثم أنهى دراسته عام 1965 وهو في سن العشرين، ويعتبر أيضا أصغر خريج في تاريخ معهد السينما حتى اليوم، وكان الأول في قسم الإخراج وحصل على تقدير إمتياز مع مرتبة الشرف.
ويقول عنه الناقد السينمائى كمال رمزى، الذى تعرف عليه منذ بداية الستينيات، أنه كان يبهر الجميع بتحليلاته الواعية للأفلام، خاصة ما كانوا يشاهدونه فى نادى سينما القاهرة برئاسة الرجل الدءوب المخلص أحمد الحضرى، الذى عرف جيلهم على أعمال فلليني وبرجمان وغيرهما من رواد الحداثة، وأكد كمال رمزى على أن مدكور كان مرجعية تفسير وتحليل تلك الأفلام البديعة المليئة بالغموض والتى دفعتهم إلى الثورة ضد السينما المصرية، ومن جوف هذه الثورة تولدت “جماعة السينما الحديثة” و “جمعية نقاد السينما المصرية” و “جماعة السينمائيين التسجيليين المصريين”، وبالطبع كان لمدكور ثابت حضور فعال إيجابي ونشط بها جميعا.
ويؤكد معاصريه من أسرة معهد السينما حينما أصبح عضوا بهيئة التدريس فيما بعد، أنه كان يُعلم تلاميذه التمرد على المعتاد حتى التمرد عليه هو شخصياً، فلم يكن لديه قيود محدده ومعتادة فى التدريس، فقد كان صديق لطلابه الذين أحبوه أكثر من أي أستاذ آخر. ويَحكى تلميذه المخرج السينمائي عمرو بيومي أنه كان يبدء المحاضرة بنوع من الدردشة الحميمية ثم ينتقل لقص حكاية بسيطة، فيكتشف الطلاب فيما بعد أن هذه الحكاية كانت مدخلاً لموضوع المحاضرة. وقال عنه الكاتب والروائي خيري شلبى أن مدكور ثابت مَعلماً من معالم القاهرة مثل تمثال رمسيس وباب الحديد والقلعة وحي الحسين. وفي سياق آخر قال عنه د. ناجي فوزى أستاذ النقد السينمائي بالمعهد العالي للنقد الفني، أنه باحث من الطراز الأول في تاريخ البحث السينمائي في مصر والمنطقة العربية.
كان مدكور ثابت مخرجاً متفرداً ومفكراً وكاتباً مبدعاً ومنظراً واعياً للسينما المصرية. تولى عدة مناصب أبدع فى كل منها بعيداً عن الأضواء وصخبها، فكان رئيساً للمركز القومى للسينما ثم رئيساً للرقابة على المصنفات الفنية، فرئيساً لأكاديمية الفنون. وكان من إحدى إهتماماته فى كل موقع يتولى مسؤليته ويتفانى فى عمله تحت كل الظروف، أن يوثق لتاريخ ورسالة وإنجازات تلك المؤسسة منذ نشأتها حتى يبقى هذا فى ذاكرة الوطن على الدوام.
وعلى الجانب الشخصى فتربطني بمدكور ثابت صداقة قوية متينة، فهو شخصية تُؤثرك فور التعرف اليها، هو رجل رقيق المشاعر ودود وبشوش وسمح الوجه دائما، مهذباً ومتواضعاً بسيطاً ومحباً لكل الناس، يتقرب دائما من أصدقاءه والمحيطين به، لا يترك موقفاً صغيراً أو حدثاً بسيطاً، إلا ويأخذه مأخذ الجد ويُجمله ويُعلق عليه تعليقاً فلسفياً يرقى بالموقف أو الحدث، فقد كان حاد الذكاء ونهماً للثقافة والمعرفة. ورغم الفترة القصيرة التى قضاها رئيساً لأكاديمية الفنون، إلا إنه بعث فيحها روحاً جديدة، وإنجازات متفردة، ووضع خطط لمشاريع مستقبلبة، أرى أنها إذا ما كانت قد تمت من بعده لانتقلت الأكاديمية نقلة نوعية تاريخية. كان يستكمل أو يضيف الى ماهو قائم فى الأكاديمية، فعلى سبيل المثال وليس الحصر، حينما أسس د. فوزى فهمى رئيس الأكاديمية فى فترة سابقة، مشروعا رائعاً للترجمة فى إصدارات الأكاديمية، جاء مدكور ثابت بعد تولى كل من د. سمير سرحان ود.هانى مطاوع الرئاسة لفترات قصيرة، فأضاف “مدكور” الى إصدارت الأكاديمية من الترجمات، سلسلة جديدة من الإصدارت تحت عنوان “دفاتر الأكاديمية”، وهى كتب تحمل قضايا عصرية فى شتى مجالات الفنون بالأكاديمية بأقلام أعضاء هيئة التدريس بها. وكان دائما يدفع أعضاء هيئة التدريس لطرح قضاياهم الفنية والثقافية والتعليمية بجرأة شديدة من خلال هذه السلسلة، على ان يتبنى صاحب الكتاب بنفسة مسؤلية ما يطرحه من قضايا ويُفتح باب النقاش حولها. صدر عن هذه السلسلة ما يقرب من أربعين عنوان فى شتى قضايا الفنون والثقافة، إلا أنها لم تستمر بعد أن تقاعد مدكور تاركاً رئاسة الأكاديمية.
كان لمدكور ثابت تأثيراً كبيراً فى أجيال عديدة من السينمائيين الذين تتلمذوا على يديه، سواء من مصر أو الدول العربية الشقيقة، كما أن تأثيرة امتد الى الكثيرين ممن حوله من الأصدقاء والزملاء أو العاملين والمحيطين به، إمتد تأثيرة الى جوانب عديدة منها الإجتماعية والثقافية والإنسانية.
كتب مدكور ثابت هذه الأوراق من مذكراته في بدء حياته العملية، وكما قال فهى أولى تجاربه فى التوثيق. وقد تناولت أنا كاتب المقال معظم الأجزاء التى احتوتها الأوراق تمشيا مع روح المقال، والتزمت بكل دقة بما جاء في نصها من أحداث وجمل وتعبيرات وتشبيهات، وكذلك استنتاج بعض الكلمات المطموسة الغير واضحة.
ويواصل مدكور ثابت فى أوراقه قائلاً إنه في ليلة عرض الأفلام الأولى لطلاب معهد السينما في شهر مايو 1968، كان قد مر ما يقرب من العام على نكسة يونيه 1967، وما زال ظلام الإضاءة المخفضة بناءً على تعليمات الدفاع المدني، يُضفي مسحة من الحزن والكآبة على القاهرة وباقي مدن وقرى مصر، تحسباً لأى نوع من الغدر الإسرائيلي. كل ذلك كان في ظل مرحلة من الصبر والإنتظار للمقاتلين المصريين على الجبهة تطلعاً الى لحظة التحرير واستعادة الأرض تحت شعار “إعادة البناء العسكري لإزالة آثار العدوان”
هذه الأفلام من صنع خريجى معهد السينما. وهى: “شنق زهران” عن قصيدة لصلاح عبد الصبور من إخراج ممدوح شكرى، والفيلم الثانى عن نفس القصيدة ولكن لمخرج آخر هو ناجى رياض، والمخرجان من خريجى الدفعة الأولى للمعهد عام 1963، حيث تخرج ممدوح في قسم الإخراج، بينما كان ناجي هو الوحيد الذي تخرج في قسم السيناريو. أما الفيلم الثالث فهو بعنوان “ثورة المكن” سيناريو وإخراج مدكور ثابت، وهو خريج الدفعة الثالثة عام 1965.
أدار ندوة العرض وقدم لها الناقد الشاب سمير فريد وهو من أهم المنتمين الى الحركة التقدمية لأبناء هذا الجيل، وليس ببعيد عن القضية التى تثيرها الأفلام الثلاث، الى جانب أنه صاحب فكرة هذا العرض. فهذه الأفلام لم تحظى بفرصة العرض من قبل إلا بين جدران الاستديوهات أو في قاعة العرض بمعهد السينما.
رأىَ سمير فريد حتمية تنظيم عرض عام للأفلام الثلاثة، حتى لا تصبح مجرد أمتارا من الفيلم الخام المصورة حبيسة العلب، بل ليمكن تفجير قضية هامة على أوسع نطاق، إنها قضية معهد السينما وقضية الجيل الجديد من السينمائيين، إنها قضية البحث عن سينما جديدة والتى هى جزء لا يتجزأ من قضية البحث عن إنطلاقة شاملة لحياة مصرية جديدة فى ظل ما خلفته نكسة يونيو 1967. فكانت الليلة منعطف الإنطلاقة وكانت من ثم تاريخية اللحظة.
كانت الأمسية فى المركز الثقافى التشيكى بشارع 26 يوليو بالقاهرة، وكانت قاعة العرض مكتظة بجهابذة النقد والأدب والسينمائين من رواد الستينات والمثقفين وخاصة المهتمين والمسؤولين المتحمسين للشباب.
واستطرد مدكور ثابت قائلا “أننى إذ أكتب عن أمسية هذا العرض فإننى لست بصدد دراسة نقدية للأفلام الثلاثة ولا بصدد محاولة للتقيم، ولا كما تعودت أن أكتب الأبحاث والدراسات، ولكنها مجرد ما يسمى صفحة من المذكرات، فهناك لحظات فى تاريخ جيلنا أصبحت تحتم علينا الوقوف عندها ومحاولة رصد ظواهرها وأبعادها، بما يوفر المادة اللازمة لمن يبغى البحث أو الدرس.
إمتحان في الظلام:
وصف مدكور مشاعره هو وزملائه فى هذا اليوم وخاصة فى اللحظات التي سبقت العرض عن كل ما جاش فى أنفسهم من سعادة غامرة لاستقبال جمهور المشاهدين للأفلام الثلاثة والتى ملئت صدورهم بالأمل فى تحقيق طموحاتهم والتفائل والتطلع الى المستقبل. ثم واصل قائلاً إنه أثناء العرض ساد جو الترقب المتوتر كل أرجاء الصالة إنتظارا للنتيجة، فما البال ونحن الثلاثة المخرجين لا أقول المساكين-وإنما موضع الامتحان الحقيقي. حتى انتهى العرض وأضيئت الانوار وكالعاصفة التي تدوخ التائهين في البراري انطلق التصفيق كصاعقة لا تهدأ وقد أبرقت عيوننا ذهولاً ودموعاً.
لسنا وحدنا:
خرجنا من الصالة وعندما التف الجميع حولنا احسسنا أن العالم بأسره يقف معنا حتى من هم من أبناء جيلنا ولم نكن نعرفهم أو يعرفوننا فقد أسرعوا بالالتفاف حولنا في محاولة للتعارف وفي محاولة للانضمام لا نعرف الانضمام في ماذا لكنه الانضمام اذ لن انسى شخصيا إسراع سامي السلاموني بدفعة حماس لم اشهدها في شاب غريب من قبل ابدا ليتعرف بي مقدما نفسه كأحد النقاد الجدد أيضا من أبناء جيلي ويطلب مني تقديم نفسي له. ولا استغرب بعدها أن يكون في اليوم التالي مقالة في صفحة كاملة في جريدة “المساء” عن الأفلام الأولى لخريجي معهد السينما، كما لا اندهش فيما بعد عندما يصبح سامي السلاموني واحداً من نجوم الحركة النقدية المواكبة لحركة السينمائيين الشبان، وقس على هذا العديدين، فما حدث مع سامي حدث مع ناقد أقدم، هو فوزي سليمان وغيره الكثيرين.
بقيت هناك قضية رئيسية بين جيل مدكور من الشباب والجيل الذى تعلموا على يديه من أساتذة المعهد، منهم المخرج محمد كريم منشىء المعهد وأول عمدائه. وبرغم أن محمد كريم هو الذى علم مدكور وزملائه الثقة فى النفس ورسخ فيهم آمال المستقبل فى أعماقهم، فأحبوه حبا كبيراً، إلا أنهم كانو مختلفين معه فى نوع السينما الذى يسعى لتعليمهم إياه، وهكذا كان الحال مع بقية أساتذتهم المصريين، يحبونهم لما يكتسبونه منهم، ولكنهم مختلفون معهم حول سينماهم، غير ناكرين لهم أفضالهم عليهم والتى وصلت الى حد أن واحداً من أحب الأساتذة الى قلوبهم وهو المخرج حلمى حليم كان يشترى لهم الكتب والمراجع الأجنبية الباهظة الثمن على حسابه الخاص بل ولا يكل جهدا فى مداومة الإتصال بدور النشر الأجنبية لمتابعة كل جديد من أجلهم أولا بأول ليواكبوا أحدث ما يصل اليه الفكر العالمى عامة والسينما خاصة.
هذا نموذج من الإعتراف بالأفضال ومع ذلك كانوا مختلفين معهم. صحيح أن للشباب فورته وأن للجديد دائما موقفه من القديم وتلك مسألة طبيعية وكان لابد منها ولكن بالمقابل كذلك كان من الطبيعى أن يقف القديم موقفه المناهض للجديد، ومن هنا وفور تخرجهم كان التناقض بين هذا الجديد وذاك القديم يأخذ شكلين:
ويستطرد مدكور فيقول أن الشكل الأول كان متمثلا في الصراع الفني والفكري وهو مسألة طبيعية تقتضيها حتمية التطور التاريخي إذ هو صراع ما بين سينما جديدة تبنناها، وبين سينما القدامى. وقد راحوا يدافعون عما قدموا من تراث سينمائي طويل له أعمدة راسخة ولكنها أعمدة السينما التي نختلف معها اختلافا كاملا أو على الأقل هكذا كانت الشعارات التى رفعناها تحت عنوان “سينما جديدة” ننوى تقديمها كلنا فرادى أو مجموعات، نجتمع فى جلستنا، تلمنا الندوات واللقاءات الخاصة وأروقة الدراسة وان كان لا يجمعنا لا شكل ولا أي نوع من انواع التجمع المنظم. فقط كنا نبحث عن تقديم سينما جديدة.
أما الشكل الثاني فهو حرص القدامى على التمسك بفرض تشغيلهم هم أنفسهم اذ كان لابد لهم من التشبث بالقدر المحدود الذي يتاح لهم من انتاج الأفلام خاصة في مرحلة كانت من اشد مراحل الازمات التي مرت بها السينما المصرية في تلك الحقبة، فكان دخول أي وافد جديد على احدى المهن السينمائية معناه المزاحمة في الرزق أو كما أسموه (لقمة العيش)، وتلك كانت المصيبة الأكبر من مجرد التناقض أو الصراع الفني حول نوعية السينما ذاتها رغم ما يبدو من اطار اشمل بل وربط عضوي العنصرين، ألا وهو صراع البقاء.
هذان الشكلان للصراع: الصراع حول التشغيل والمزاحمة في “لقمة العيش” والصراع حول نوع السينما نفسها هما اللذان حددا شكل الصراع الطاحن ما بين الجدد والقدامى، إلا أن ما لا يمكن اغفال تأثيره هو الفترة أو المرحلة التاريخية ذاتها وفي شموليتها اذ شاءت الظروف أن تتخرج أول الدفعات عام 1963 فتبدأ شق طريقها بمحاولات اقتناص فرص التشغيل المحدودة ما بين العمل كمساعدين وما بين العمل في محاولات غير مجدية للكتابة السينمائية، وقد كان للمخرج صلاح أبو سيف وهو من اساتذتنا الأوائل عندما كان مسئولا عن القطاع العام للإنتاج السينمائي حينذاك، الفضل في ترسيب زميل وآخر هناك في بعض الأفلام التي يضطلع بها القدامى بهدف تشغيل بعض الجدد ولكن دون أن تتوفر الفرصة الكاملة لمجموعة تطرح نفسها بنوع السينما الجديدة التي تقترحها. وتستمر السنوات حتى عام 1967، وهي السنوات التي رغم قلتها إلا أن الإحساس بها حينذاك كأنها الدهور الطويلة فتقع نكسة يونيو 1967 ويصبح الشباب المتخرج من المعهد العالي للسينما، مثله مثل أي شاب من جيله في القطاعات الأخرى في مصر نهب انفعالات الحيرة امام الهزيمة، فراح يتطاحن مع القديم، يتطاحن مع من رأى فيهم سببا أساسياً من أسباب النكسة، تماما كما كان يقال عنا نحن بالمقابل أننا أبناء هذه النكسة.
خرجنا بكل هذه المشاعر لسنا وحدنا المخرجون الثلاثة وانما كل من كان يتحرك حركة نشطة قبلنا ولا أقول مثلنا بل جميعنا. خرجنا لا نعرف ماذا نفعل، فقط نختزن في داخلنا الانفعالات الجياشة، والأمل تتأجج به صدورنا نحو المستقبل بل وينبعث هذا الأمل قويا بأن كل شيء نأمل فيه لابد أن يتم، وأن طموحاتنا سرعان ما سوف تتحقق. وللوهلة الأولى جاء في اذهاننا الا نفترق لِنكن معا وفي أي مكان فليكن على الرصيف أو في مقهى، فلنمشي في الشوارع. المهم أن نظل معا والا نفترق ولم يفصح أحد، ولكن الكل استشعر في الباقيين هذه الرغبة تنضم إلى رغبته وبالفعل مشينا وظللنا نمشي بلا هدى ولا وجهة محددة واستمر مشينا جماعة في شوارع القاهرة، حتى نعود في كل مرة إلى حيث بدأناه دون أن نمل تكرار الأمكنة، كنا نتحادث بحرارة نشعر كأنها لا يمكن أن تنطفئ. مشينا ثنائيات وثلاثيات، لم يكن منا من هو بمفرده بل كل ينتحي مع الآخر أو الآخرين في نقاش ويدور النقاش حول هذه الليلة التاريخية وما خلفته ورائها وما بعثته فينا من جذوة أمل متقدة.
الليلة ومجرى الصراع:
لم يفتنا في احاديثنا أن نستشف الأهمية التي اكسبت الليلة تاريخيتها وهي الأهمية النابعة من مكونات اللحظة التاريخية التي قُدمت فيها الأفلام الثلاثة. كانت قضية معهد السينما قضية كبيرة لا يمكن تصور حجمها الان بقدر ما عشناه، كنا قد خرجنا نحن ابناء الدفعات الأولى ولم يكن في تصورنا ذلك الصراع الرهيب الذي سوف نخوضه في مواجهة جيل اساتذتنا من رواد السينما المصرية سواء كانوا باعتبارهم أساتذتنا الذين تعلمنا على أيديهم مباشرة ونجلهم أو باعتبارهم أساتذتنا أيضا الذين نختلف معهم اذ حتى بين جدران المعهد ورغم كثرة الأساتذة الأجانب من أمريكا ومن غرب أوروبا وشرقها إلا اننا كنا نتعلم كذلك على ايدي نخبة من الأساتذة المصريين من رواد السينما هنا ومن اساطين الادب في الدراما والثقافة العربية.
كنا غارقين في حيرة الفهم ولكن فورة الشباب والرغبة الآملة في المستقبل، والرغبة في الخلاص، كل ذلك دفعنا للحركة. وجعلنا نندفع إلى الأمام بلا توقف. حتى وان كانت الرؤية الواعية لا تقف بنا على الحقيقة. بل تظل ضبابية، إلا أن الإنفعال هو ما لا يمكن انكاره في هذه الفترة كنتاج طبيعي لكل ذلك، الأمر الذي انعكس على شكل الصراع بين قدمائنا وجددنا إلى حد نشوب معركة ذات يوم في اعقاب نكسة يونيو مباشرة وفي مقر نقابة السينمائيين ذاتها. حتى لقد خلفت جرحا عميقا كان من الصعب أن يندمل رغم كل محاولات التهادن والتوافق. التي لم تكن إلا لتخطي السطح فقط. دون أن تنفذ هذه التهادنات إلى العمق. لأنها لن تتمكن من أن تجتذ مشكلة الصراع من جذورها.
خلاصة القول أن الحرب بين الفريقين قد اشتعل اوزارها وراحت تؤجج نارها ازمة اقتصادية طاحنة بالسينما المصرية. كما تغذيها أسباب الحيرة امام رغبة الخلاص الوطني لمصر عند كلا الطرفين وهو الامر الذي دفع إلى تخطيطات عمياء طائشة في شكل الصراع. كبقية القطاعات الأخرى في مصر. فالقدامى يتهمون الجدد بالشيوعية والالحاد والجدد يتهمون القدامى بالرجعية والخيانة. وكلا الطرفين يفتقد الطريق الصحيح. ولكن يظل القدامى من موقع السيطرة هم المتمكنون تماما من مناهضة أي جديد.
وتختلف المواقف:
من الصحيح أيضا أن قدامى الرواد لم يكونوا جميعهم على الاطلاق مناهضين لنا بشكل مباشر فمنهم من كان يسارع باحتضان نفر من الخريجين لمساعدته. ومنهم من كان يتسم بدماثة الخلق محافظا على كبرياء الفنان من الدخول في متاهات الصراع غير مأمونة العواقب فيكتفي بموقف سلبي من الوقائع ومنهم من يتخذ مواقف المناهضة على استحياء دون اعلان حتى لا يخسر على الأقل صداقة هؤلاء الغزاة إذا ما أسفرت نتيجة المعركة لصالحهم ومع تنوع المواقف فإن عدم الإيجابية- إلا من قلة منهم –تجعل إقرار حقيقة مناهضتهم لنا أمراً شمل الجمع من القدامى باستثناء هذه القلة – خاصة عندما يسكت الجميع تاركين لفئة من أصحاب الأصوات العالية التعبير عن مواقف الباقين. دون أن تبرز أو تعلم هذه البقية موقفها. والسكوت علامة الرضا. إذا كان يكفيهم أن فئة غيرهم هي التي تتصدى بالصوت العالي لقيادة هذا الصراع نحو نتائجه الغير معروفة ولكن بالأمل في حسمه لصالحهم على عكس ما تقضي به حتمية التاريخ وفي هذا الصدد تشكلت ظواهر عدة ويسهل رصد أمثلتها في هذا الحيز الضيق ولكن يكفي أن نذكر بتشبث هذه الأصوات العالية بفكرة جهنمية ذلك عندما بدأت تتجمع هذه الأصوات وترتفع مطالبة في الحاح بضرورة اصدار لوائح نقابية تحتم على خريجي السينما الا يصل إلى مرحلة المخرج أو مدير التصوير أو المونتير أو مهندس الصوت…إلخ، إلا إذا كان قد مر بالعمل في أربعة عشر فيلم كمساعد ثان وبعدها عدد مشابه تقريبا من العمل كمساعد أول وهكذا ويا عالم هل ستصبح بعدها مخرجا أو مديرا للتصوير ام لا. وهل سيكون ذلك قبل احالته على المعاش ام أنه سيموت سيء الحظ ؟ هكذا أعلنت الفكرة الجهنمية باسم ضمان المحافظة على الرقي المهني في صناعة السينما المصرية دون أن يعلن أصحاب الفكرة عن حقيقة ما يستهدفونه وهو عدم المزاحمة من أي وافد جديد رغم فكرة امتصاصهم بالتشغيل في الدرجات السفلى من السلم المهني شريطة أن يمر بمراحل القتل البطيء.
وحيث لا يمكن تعميم الموقف المناهض لنا على كافة قدامى السينمائيين فأن ما يجب اقراره أن الذين احتضنونا حقيقة هم أيضا سينمائيون قدامى بل والاثباتات عديدة لذوي النوايا الطيبة منهم أي جيل الأساتذة والرواد نحو أبنائهم من دفعاتنا الأولى فكاتب هذه السطور (مدكور ثابت) على سبيل المثال ومنذ اللحظات الأولى لتخرجي في يونيو 1965 بل وفي يوم اعلان النتيجة نفسه إذا بأستاذنا الكاتب الراحل علي الزرقاني يطلبني للاشتراك معه في كتابة سيناريو فيلم “السراب” عن قصة نجيب محفوظ وأعمل معه بالفعل وتنشر الصحف أخبار ذلك ويتردد أسمى في هذا الصدد عن كتابة السيناريو مع على الزرقاني وأقول الحق أنني انا الذي – بعد انتهائنا من كتابة السيناريو- قد طلبت من على الزرقاني الا يكتب اسمي معه بالفيلم. وقد وافقني بلا تضايق- ولا هو قد شعر منى بأي نوع من التعالي فقد كانت مخافتي أن يستشعر ذلك وهو أستاذي وقد تفهم منى ما شرحته واقتنع برغبتي في الا تكون بدايتي على غير ما أملت فيه من تقديم سينما جديدة- اني أبحث لنفسى عن طريق جديد ارجو أن يرتبط به اسمى منذ لحظات البداية وكانت قناعة الزرقاني نابعة من ارتياحه بانه قد أدى دوره ومنحني الفرصة ولكنني انا المختلف وتلك مشكلتي.
وكان هذا مجرد مثال بينما كان هناك أيضا أمثلة أخرى مثل يوسف شاهين في مجال الإخراج واحتضانه لأكثر من واحد من زملائنا للعمل كمساعدين ولو حتى في مراحل التحضير فقط، مثله أيضا كان توفيق صالح كذلك كان صلاح أبو سيف واحتضانه لمحمد عبدالعزيز مثلما سبق أن احتضنه حلمي حليم، أيضا سعيد الشيخ وفرصته لعادل منير مساعداً.
كما كان هناك في مجال التصوير من نالوا فرصتهم كمساعدين أو مصورين مع اساتذتهم من مديري التصوير القدامى من أمثال وديد سري وعبده نصر وعبدالعزيز فهي وفيكتور انطون ويمكن القياس على ذلك ولكن في نفس المستوى في شتى مجالات المهن الأخرى ولكنها تظل تلك الاسهامات المحددة بمجرد التشغيل المتناثر في أفلام القدامى فتظل من ثم جزر التطلع إلى فرصة تقديم سينما خاصة بنا رغم حسن النوايا السابقة هي الجذوة التي لا تنطفئ بل وكلما مرت الأيام تأججت نارها في اعماقنا. ولذا كانت حرارة نقاشاتنا بعد ليلة العرض الأول لأفلامنا الأولى وكذلك تجمعنا الشارد في الشوارع لا نخشى في هذه الليلة إلا أن تنفض.
إلى فينيكس:
أقول – نخشى أن ننفض وقد ظللنا على حالنا المتوهج مشيا ونقاشا .. إلى أن خرجت فكرة أن نجلس على مقهى. ولم يكن امامنا إلا “فينكس” وهنا يجب ألا يمر اسم مقهى فينكس مروراً عابراً فهو ليس عن قضية الصراع ذاتها بين جديدنا والقديم السينمائي أنه نفس المقهى الذي تعود السينمائيون الرواد ارتياده والجلوس فيه واللقاء ببعضهم بعضا وحول موائد هذا المقهى تطرح قضية الصراع نفسها بين كل المستويات ليتم مناقشتها أيضا بشتى الأساليب .. وصحيح اننا كنا نرتاد هذ المقهى مثلهم في محاولة الإقتراب منهم، خاصة من لم تكن قد تعرفنا عليهم بعد أو فلنقل أنه مجرد تلمس الطريق للاقتراب من حقل الاحتراف السينمائي ذاته وقد يقال كذلك أنها الرغبة اللاشعورية في اختراق مجالاتهم وايا كان التفسير. فأن وجوها بشوشة كانت تلقانا بابتسامة الترحيب الحلوة.
ورغم تسلحنا المبكر بهذه الثقة في النفس والتي اودعها ايانا منذ الصغر تلمذتنا الأولى على يد المرحوم محمد كريم كما ذكرت الا أن ثقتنا الليلة لم تعد تحدها حدود ولا هي تقاس بمقياس اننا بكل الثقة في لحظة المنعطف.. فذهبنا جميعا إلى فينكس لنجلس لنتحادث في اجتماع مكتمل عما يمكن أن نفعله بعد نجاح هذه الليلة المنعطف والتي غدت في اذهاننا ومشاعرنا خطوة قافرة للأمام بل هي نقطة تحول.
اجتماع الجيل:
ماذا نعمل بعد هذه اللحظة وقد التأم اجتماعنا.- يجب أن نتحرك ويجب أن نستثمر النجاح ونستثمر الثقة التي اودعتها هذه الليلة في خزائن صدورنا يجب أن نقدم سينما جديدة، ما هو الطريق؟ كلنا تساؤلات وكلنا اقتراحات وكلنا نقاشات .. جلسنا على المقهى في هيئة اجتماع حقيقي وكان منظرنا ملفتا ومريبا فباتت الأنظار مسلطة علينا كالأسهم النارية .. ولم يعبأ أحد، بل كان استمرارنا. وبلا ترتيب مقصود الأسماء سمير فريد. احمد متولي. سامي السلاموني. رأفت الميهي. محمد راضي. فتحي فرج، المرحوم ممدوح هلال، المرحوم فؤاد فيظ الله، المرحوم ممدوح شكري المرحوم سامي المعداوي، عادل منير، نبيه لطفي، ناجي رياض، مجدي كامل، مجيد طوبيا ومدكور ثابت .. ومزيدون اخرون لا يسعفني العلم في تذكرهم الان.
ولكن في طبيعة التقاء هذه الأسماء ما اضفى على الليلة أهمية أخطر مما تصور المناهضون لنا.. كان اهم ما في هذه الليلة بل ومما اعطى القوة، أن مسألة الصراع بين القديم والجديد لم تصبح صراعا بين خريجي معهد السينما. تلك الوافد الجديد وذلك الغازي للسوق السينمائية والمزاحم على لقمة العيش بل المتربص لحفظها وبين قدامى السينمائيين بل أصبحت صراعا بين جليين مما اضفى القضية شمولية لا تسمح بالتجزئة فقد أصبحت صياغتها صراعا بين القدامى وجيل الجدد عامة وايا كان هؤلاء الجدد لم يصبح شرطا في هذه الحالة أن يكون الجديد متخرجا من معهد السينما فبات يكفي جديدا فقط أو مجرد كونه جيلا جديدا يجعل نوايا سينما جديدة لفكر جديد دون أدنى اعتبار لمنبع تخرجه ومن ثم فقد انقبلت في هذه الليلة قضية معهد السينما إلى قضية جيل جديد بفكر وسينما جديدين وهو ليس قلبا للقضية وانما التئاما للجزء في الكل هكذا ننطق طبيعة الأسماء الملتئمة الليلة في اجتماع فينكس، فكلهم ممن يهتمون بالتجديد السينمائي وممن يناضلون من اجله وليسوا جميعهم من خريجي معهد السينما فسمير فريد مثلا من عمد نقاد هذه الحركة وهو المتخرج من قسم النقد بمعهد الفنون المسرحية عام 1965 كذلك سامي السلاموني – ولم يكن قد التحق بمعهد السينما – وانما تخرج من قسم الصحافة بآداب القاهرة، أيضا رأفت الميهي المتخرج من كلية الآداب قسم انجليزي وان كان من خريجي معهد السيناريو تماما مثل مجيد طوبيا كذلك سامي المعداوي وفتحي فرج والاسماء كلها معروفة تخصصات دراستها لكن اجتماع هذا وذلك اجتمع خريجي السينما مع زميله من نفس الجيل أيا كان منبع تخرجه فلم تصبح المسألة مسألة معهد السينما وانما مسألة الجيل الجديد الذي يبغي تقديم سينما جديدة مختلفة عن السينما القديمة وهنا بدأت تتبلور القضية. تبلورت وان كان القدامى ينقصهم أنهم لم ينظروا الينا كذلك فظلوا يصيغون القضية بحصرها في خريجي معهد السينما ثم يلحقون بهذه الصيغة أن هؤلاء الخريجين ليسوا من ذوي الخبرة التي تؤهلهم لحق الحصول على الفرص المطالبين بها بل وأين هؤلاء الخريجين من الخبرة التي عاشها الاولون سنوات طوال منذ بدأوا السلم من اول درجاته؟ ولقد كانوا على حق ولكنهم أيضا ليسوا على حق في اثاره الشكوك حول قدرتنا الفنية بينما نحن معترفون بحقهم ومعترفون بقدراتهم التي حصلوها من خبراتهم الطويلة ضمن اعترافنا التاريخي الطويل للسينما المصرية التي نعتز بانتمائنا اليها رغم ما تقدمه من نوعية سينمائية وتلك هي قضية التناقض الفني التي هي حتمية تاريخية ولكنها لا توقف التاريخ ذاته عن استمرارية تواصله.
القرار .. تجمعا:
انتهى الاجتماع في مقهى فينكس بل لا أقول انتهى وانما انشغل الاجتماع بفكرة واحدة هي أنه لابد من التجمع. سيطرت فكرة التجمع ولم يعترض عليها احد كلنا مجتمعون على التجمع أنه طريقنا الوحيد لنقدم من خلال تجمعنا سينما جديدة ومن هنا نشأت الفكرة لا أحد منا يختلف قد نكون اختلفنا فيما بعد ولكنه كان اختلافا على منهج التجمع وليس على فكرته المبدئية ذاتها كطريق حتمي واستمرت المجموعة التي اتفقت مع بعضها في عقد اجتماعها الدوري أسبوعيا وفي نفس المقهى فينكس (ولا اذكر على وجه الدقة اليوم الأسبوعي لهذا اللقاء فربما كان – الثلاثاء أو كان الأربعاء) .
وللأسف لم اكن من المتفقين مع منهج المجموعة منذ الاجتماع الثالث أو الرابع على الاكثر اقول للأسف عدم اتفاق مع المنهج الذي ارتضوه رغم كوني من اول المطالبين بحتمية التجمع ولا مجال هنا للحديث عن اسفي ولا عن اختلافي سواء كان ذلك بالدفاع أو بالنقد الذاتي أو كليهما معا فمسألة التقييم لهذه المرحلة وتناقضات تحركاتنا بها تستلزم بحثا ودراسة مركزتين واكثر عمقا من مجرد التعرض لها من صفحات المذكرات وسرعان ما صاغت المجموعة لنفسها اسم “الغاضبين” وتبناها الناقد الادبي الكبير الأستاذ رجاء النقاش وكان حينذاك رئيسا لتحرير مجلة “الكواكب” كما تركزت اهتماماته النشطة في تلك الآونة لاستنفار أي جديد في المجالات الفنية يطرحه واقع مصر كان ذلك في الغناء وفي الموسيقى وفي الادب بل وحتى في العناصر الصحفية ذاتها ومن ثم فقد افرد للغاضبين باسمهم صفحتين اسبوعياً في مجلته “الكواكب” فيكتبون فيها أفكار المجموعة ومواقفها من الواقع والاحداث السينمائية الجارية ولم تلبث المجموعة طويلا حتى تطورت في شكل منظم لتصبح “جماعة السينما الجديدة” المعروفة فيما بعد بكل مراحلها وما كان ذلك كله إلا انطلاقا من ليلة المنعطف واندلاع الثقة ليلة مايو 1968 بكل ما طرحته لنا من تكثيف لسنوات مضت في بؤرة من الرؤية المستقبلية الواثقة.
وللتاريخ .. حقائق ثلاث :
وعند هذا الحد يصبح رصد الحقائق التاريخية لازما واقصد بذلك الحقائق التي تمس تاريخ جيلنا عامة طالما كان الحديث عما طرحته الليلة باعتبارها منعطفا يحمل في طياته الماضي والمستقبل وليست كمجرد ليلة في ذاتها وطالما أنه الالتزام بنهج المذكرات التي ترصد اكثر مما تقيم .. ومن هنا ثمة حقائق ثلاث تقتضي الأمانة التاريخية رصدها.
الأولى: أن اثنان من جيل روادنا جالسان في ظلام صالة العرض الليلة أصحاب الفضل في جرأة منح الفرص للتجارب الثلاث، والفضل في خروجها إلى حيز الوجود الأول هو الأستاذ سعد الدين وهبه الذي قدم الفرصة للزميلين المخرجين ممدوح شكري وناجي رياض ذلك عندما كان رئيسا لمجلس إدارة شركة فيلمنتاج أو بمعنى اصح المسئول عن القطاع العام للإنتاج السينمائي أما الثاني فهو الأستاذ حسن فؤاد السينمائي والكاتب المعروف عندما كان مديرا للمركز القومي للأفلام التجسيلية وصاحب الفضل في منحي فرصة اخراج فيلم “ثورة المكن” وهو الفيلم الذي قدمته بكل العاملين فيه كشباب جدد مثلى من خريجي المعهد العالي للسينما حتى مؤلف الموسيقى التصويرية لم يتوقف عنده الأستاذ حسن فؤاد ليناقشني أو يرفض عندما جئت بشاب جديد لم يسمع به احد بل ولم يقدم من قبل لاحد ولو نغمة لتختبرها اذنه ذلك هو عبدالعظيم عويضة الذي هو ركنا ركينا في تجربة “ثورة المكن” والتي كان عماد قصائديته هو الإيقاع مع ايقاعات مونتاج عادل منير.
وايقاعات الضوء التي ابدعها المرحوم ممدوح هلال واذا كان الفضل التاريخي لسعد وهبة وحسن فؤاد يتركز في جرأة منح الفرصة الأولى لمجموعة بكاملها من المخرجين لتقديم السينما التي يبدونها. فأن ثمة مرحلة سابقة لا يمكن انكارها بالطبع وان كانت لا تعدو كونها مرحلة وهي التي كان فيها المخرج الأستاذ صلاح أبو سيف مسئولا عن القطاع العام السينمائي للإنتاج فاستطاع بدوره أن يمنح فرص التشغيل للعديد من الخريجين في مجموعة من الأفلام التي ينتجها القطاع العام ولا نستطيع الجزم بما إذا كان صلاح أبو سيف كان ينوي منح الفرصة الكاملة لتلاميذه أصلا / أم لا ؟ فأن الوقت لم يمهله وان كان البعض يرى أنه قد اضطلع بوقت كاف من المسئولية بحيث ينتفي هذا العذر إذا ما استرجعنا تاريخ تخرج اول دفعة في يونيو 1963 وللحق نعترف أيا كان الفصل في هذا الموضوع- أن صلاح أبو سيف الأستاذ كان يبدي معنا تفانيا لم نعهده في التدريبات العملية خاصة مع دفعتي الثالثة حتى أنه كان يسهر معنا في بلاتوه المعهد حتى وما كان ما بعد انتصاف الليل ودونما كلل زيادة على أوقات الدراسة وهو المشغول آنذاك بعبء المسئولية لهذه الدفعة في أفلام من انتاج القطاع العام وعلى كل فهذا ما لم يحدث فقد خرج صلاح أبو سيف وترك وراءه مجموعة من فرص التشغيل لبعض شباب معهد السينما حتى جاء سعد وهبه وحسن فؤاد فزادا على ذلك فرصة الأفلام الكاملة للخريجين فكانت لحظة المنعطف التاريخي.
د.مدكور ثابت
كتاب ( السينما العربية خارج الحدود ) للناقد لصلاح هاشم .تقديم أ.د مدكور ثابت
أما الحقيقة الثانية: بالوجه المقابل لفضل مثل هؤلاء المسئولين من جيل الرواد فكانت لواحد من بيننا هو الزميل المرحوم ممدوح شكري فمالا يعرفه أو يذكره احد لا تاريخا ولا كتابة عن ممدوح أنه صاحب الفضل الأول وهذه حقيقة مستعد للدفاع عنها حتى اخر لحظة لقد كان ممدوح شكري هو صاحب الفضل دائما في شق الطريق لنا امامنا كان دائما يضطلع بدور رأس الحربة وكان مقاتلا بكل ما في الكلمة من معنى ..
يتقدم هو ليحصل على الفرصة ثم نتلوه نحن بعد ذلك وقد تم تسهيل مهمتنا القتالية إلى حد لا يستهان به رغم ما تطل عليه مهمتنا هذه من صعوبة في الاختراق ومع ذلك نتقدم محاولين اقتناص فرصتنا معتمدين على أن رأس الحربة قد فتحت ثغرة الاختراق هذا هو ما كان يتكرر باستمرار حدث ذلك عندما التقى ممدوح بسعد وهبه فور تولية مسئولية القطاع العام. رغم سهولة مهمة الحربة في هذه الحالة لكون سعد وهبه من انصار تقدم العربة إلا أن ذلك ولا شك قد سهل الفرصة على كاتب السطور– مدكور ثابت – لأتقدم بدوري واحصل على فرصتي خلال مسئول اخر من انصار تقدم العربة هو حسن فؤاد، حدث ذلك في تجربة الأفلام القصيرة الثلاثة الأولى والتي كانت موضوع الليلة وحدث ذلك أيضا في تجربة افلامنا الروائية الأولى فقد تقدم ممدوح شكري بنفس وضعه كرأس حربة. وقام بصياغة ثلاث أفكار ليقوم بإخراجها ثلاثة من المخرجين الجدد مع مجموعات كاملة من الشباب السينمائي في بقية المهن السينمائية لهذه الثلاثية التي يجمعها فيلم واحد كان اسمه “ثلاث وجوه للحب” فالذي منحه الفرصة أيضا سعد الدين وهبة واشهد أن ممدوح هو الذي كان يتابع ويجري وراء الفيلم عبر المكاتب ليلاحق محاولة انجاز مثل هذ الفرصة الروائية الأولى، كان ممدوح وحده رأس الحربة اشهد بذلك ليس فقط بحكم معاصرتي للتجربة وانما لأنه أينما كان من المفروض لي أن اخرج احدى القصص الثلاث فقد عرض على ممدوح ذلك وانا الذي لم ابذل مجهود، وصحيح أنه لم تتحقق مشاركتي فقد كان اعتراضي على نوعية الموضوع نفسه وما تقتضيه من معالجة فنية تقليدية اذ كان لدي إصرار متطرف أن ابدأ محاولتي الروائية الأولى بمنهج تجربتي ولست هنا في مجال الخوض في مثل هذا الاختلاف ولكني فقط اشهد لممدوح بفضله كرأس حربة في مقدمة جيلنا من خلال احتكاكي بهذه التجربة، اشهد له بفضله الحقيقي في التصدي لمقدمة المهام القتالية لجيلنا عامة وليس في ذلك ادنى مبالغة وانما هي الحقيقة التي لم يتوقف عندها احد ولعل تركيز اكثر للذاكرة لكفيل باثبات ذلك من خلال تواصل افلامنا الروائية الأولى اذ ما أن أقدم ممدوح على “ثلاث وجوه للحب” حتى تشجعنا للتفكير في تجربة مماثلة تلحق بها فما كان منا إلا أن طرح رأفت الميهي باعتباره كاتبا للسيناريو فكرة أن يكون ثلاثة من المخرجين من الدفعات الثلاث الأولى من خريجي معهد السينما: اشرف فهمي من الدفعة الأولى، محمد عبدالعزيز من الدفعة الثانية، مدكور ثابت من الدفعة الثالثة ذلك لنضطلع بتجربة مماثلة لتلك التي اقدم عليها ممدوح شكري ومعه زميلاه ناجي رياض ومدحت بكير وبالفعل كان رأفت الميهي مستعدا بالسيناريو وبدأنا نسعى ونتحرك وراء فيلمنا الروائي الأول :”صور ممنوعة” كان يحمل – وقتذاك اسم “الأبيض والأسود” وانطلقنا عبر الحماس الذي امدنا به الرجل. من اهم من شاركونا التعاطف بشكل عملي جاد هو الأستاذ احمد المصري خاصة في المراحل اللاحقة عندما انشأ الوكالة العربية للسينما كتجربة فريدة من نوعها في اشكال القطاع العام هذا وان كانت تجربة “صور ممنوعة” لم تدخل طور التنفيذ إلا على ايدي كل من الأساتذة محمد رجائي والمرحوم عبدالسلام موسى في أغسطس 1969 إلا انني اقر مرة أخرى أن ممدوح شكري هو الذي مثل بالنسبة لنا رأس الحربة حتى بعد ذلك عندما قام بإخراج فيلمه الروائي الطويل الأول فإن نفس المسار قد حدثت بالنسبة لنا عندما بدأ الزملاء بعد ذلك تجارب افلامهم الروائية الطويلة الأولى .
والحقيقة الثالثة: أنه في المقابل منافذ الفرص في القطاع العام، لا يمكن انكار تجربة الزيميل محمد راضي في كفاحه خارج هذا الاطار رغم اشتغاله حين ذاك في مراقبة الأفلام السينمائية بالتليفزيون إلا أنه راح يخوض بالخارج تجربة إنتاجية فريدة من نوعها بالنسبة لشباب هذه الفترة ذلك عندما حاول مع العديد من الأصدقاء أن يجمع القروش من هنا وهناك ومنهم من استدان الأموال وكل ذلك في سبيل الكفاح من اجل انتاج وإنجاز التجربة الجديدة لمجموعة من الخريجين في شريط 16 ملي ألا وهو فيلم “المقيدون للخلف” ومن ثم كان لمحمد راضي طريق البداية الخاص به والمغاير لما اقدم عليه ممدوح وما اقدمنا عليه نحن ورغم ما حدث بعد ذلك من انضمام محمد راضي لتجميع الجيل بل أنه قد اصبح على رأس جماعة السينما الجديدة ذاتها كرئيس لها لفترة من الوقت .
تلك هي الحقائق الثلاث، وما تنم عنه من تواترات بين الكفاح والانتصار وبين المناهضة والاحتضان وبين أسلوب واخر ولكن حقيقة واحدة هي الاشمل أن الكل كان يكافح وحقيقة لجيلنا التالي.
وشتان اليوم بين ما يتاح الان لخريجي معهد السينما من سهولة في الحصول على فرصته وان كانت حتى فرصة العمل كمساعد .. شتان بينهما الان وبين ما عشناه وما عانيناه فمثلما كان ممدوح شكري رأس الحربة في جيلنا اصبح جيلنا رأس حربة في مقدمة الجيل التالي لقد ضحى الجيل الأول من معهد السينما – وتلك حقيقة – بالكثير من الكفاحات والصراعات المستمرة والمريرة من اجل أن يتم مرور شخص هنا واخر هناك. حتى ولو بالعمل كمساعد سواء كان ذلك بالإخراج أو بالتصوير أو بالمونتاج أو الديكور أو الصوت أو الماكياج تولى أي مهنة سينمائية كانت. لقد ضحى هذا الجيل جيلنا بالكثير مما سهل على الجيل الحالي من خريجي معهد السينما سهولة المرور وهي بالطبع سهولة نسبية اذ لا يمكن تعميمها على كل الخريجين بل ولا يمكن الزعم بأن كل من يتخرج من معهد السينما يجد المسألة سهلة ولكنها مسألة نسبية بالقطع نسبية لما عانيناه وتلك هي الحقيقة التي لا يمكن انكارها فعندما كان يقوم واحد منا بإخراج ولو فيلم قصير لا تتعدى مدته الدقائق العشر، يصبح حديث السوق السينمائية بالكامل ما بين تقييم وبين شماته وان اخطأ واحد منا لأتفه الأسباب في الاستديو اصبح مثار التعليقات والتريقات وان صح أيضا أصبح مثار لهجمات وطعنات توجه لأي محاولة تجديدية، كان لابد من تصيد الأخطاء لنا كانت الحرب شعواء واتعظنا من درس التاريخ فاستمر موقفنا في العمل على تسهيل مهام من يأتي بعدنا بل اننا كنا في مسيس الحاجة لكل من يلحق بنا في الطوابير التالية من جيلنا، ومن الجيل التالي علينا.. ولكن هذه هي قضية القضايا اليوم، حيث هي نهاية المطاف لما بدأته لحظة المنعطف منذ تلك الليلة من مايو 1968.
—–الكم والكيف:
فمنذ اندلاع الثقة في تلك الليلة، وما بعثته من فكرة محتمة هي التجمع، حتى باتت لهفة، هكذا عرض توفيق صالح في رأسي وفي مشاعري الايمان بنفس الفكرة، بل ورحت اعمل من اجلها وعلى نهجها حتى اليوم، ولعلها السر الحقيقي وراء التفاني الذي ابذله مع كل طالب واعد من بين تلاميذي اليوم بالمعهد العالي للسينما.. أنها اذن فكرة العمل على توفر الكم من اجل تحقق الكيف المبتغى.. فما بالك عندما تكون الظروف مهيأة لتقديم هذا الكم نحو الساحة .. أنها تصبح نفحة الامل والفرحة. وهو ما احسسناه في هذه الليلة عندما حكيت لزملائي واقعة توفيق صالح تماما وأكرر حكايتها لكل دفعة جديدة في قاعة الدرس بمعهد السينما واستقبالي لهؤلاء الجدد.. هذا هو ما أحسناه من فرحة بعد أن حكيت لهم، ومذكرا بالحصة السادسة ومشورعاتهم الفيلمية التي بدا اعداد للتخرج. حيث ينضمون الينا قبل نهاية العام 1968 : احمد ياسين واحمد يحيي وعبداللطيف زكي وناهد جبر وإبراهيم الموجي ومحمد القزاز ومنير راضي ونادية علام واخرين حيث لا مجال للحصر كل هذا لأمل.. ولكن ما من حدس ينبه اننا على مشارف انتهاء الستينات..
إيقاع ما قبل الاجهاض:
والليلة.. بينما مرت فترة الخمس سنوات كاملة منذ تخرج اول دفعة حتى هذه الأمسية وهي الخمس سنوات من الصراع المرير. فإن الإيقاع في الحركة والاثمار بدا يسرع، إذ لم تمر سنة واحدة من ليلة هذا العرض حتى انعقد اول مهرجان للسينمائيين الشبان بالإسكندرية. وكان الذي تبناه كذلك هو رجاء النقاش نفسه فكان المهرجان حافلا بالاعمال، وكان مهرجانا بكل معنى الكلمة .. كان احتفاءا احقيقياً بجيلنا، وكان بل يمكن اعتباره مظاهرة لجيلنا السينمائي. واكبتها مظاهرة اعلامية ونقدية حقيقية، خاصة عندما وزعت جوائزه، وعن نفسي فمن اعز وأقيم ما حصلت عليها هو اول جائزة من هذا المهرجان في أغسطس سنة 1969 وكانت الجائزة الأولى في اخراج الأفلام التسجيلية عن ثورة المكن ومن هذا المهرجان بدأت تلمع أسماء العديدين منا، ومنه أيضا بدا التقاط نجوم الغد من الفنيين والفنانين على حد سواء. ذلك المهرجان الذي تضمن حتى مشاريع التخرج للدفعة السادسة 1968..
هكذا كان قد مر ما يزيد على العام قليلا منذ ليلة العرض المنعطف في مايو 68 حتى المهرجان المظاهرة في أغسطس 69 وكأن المؤشر قد بدأ يسرع بالايقاع حيث بدأت تنطلق براعم الجيل جيل دفعاتنا الأولى وما لحقها من دفعات في اخراج الأفلام الروائية الطويلة، بل وبدا بالفعل يتشكل الطابور الأول لحركة جادة ومتخصصة في مجال السينما التسجيلية ..
ولكن.. لم يكن يدر احد أن سرعة الايقاع بكل هذا الامل في وداع آخر الستينات، ستقابلها ضربة اجهاض مع قدوم السبعينات .. وتلك هي حقيقة التاريخ حيث زاد الكم الذي كنا نأمل فيه بالفعل، ولكنه اصبح كم للسبعينات يحيا بحياتها ويشع روائحها، أما ما عرض في بدايتها فهو ما كان نتاجا للإيقاع السريع في نهاية الستينات الذي لم يحظى بالفرص إلا مع مطلع السبعينات، مثل فيلمنا “صور ممنوعة” الذي صور في أغسطس 1968 ولم يعرض جماهيرياً إلا في 24 أغسطس 1972 بدار سينما ميامي ليرتمي برجم الحجارة، اتهم بالستينية، وليأخذ جواز المرور – وان كان في برود من اصطنع السعادة بالسبعينات.
صلح السبعينات:
عندما تحركت الأصوات العالية تناهضات، كانت كثيرة، رغم قلة أصحابها بالنسبة للكل ولكنها تعبر عن موقف غالبية هذا الكل، هذا ما تذكرناه ووعيناه في ليلة مايو 68 .. ولكنها نفس الغالبية التي بمجرى الزمن ومع السبعينات قد اتسقت مع الجدد، وطبعا لا أقول أي الطرفان قد بادر بالاتساق مع الاخر، ولكن المهم انهما قد اتسقا، ولنقل أنه صلح السبعينات، ويكفي أن نتذكر أن بعضا من أئمة المناهضين قد وصلت بهم السماحة إلى حد المسارعة والاسهام بالعمل كمساعدين لشبان من الجدد.. وهذه وان كان يتدخل فيها عنصر التشغيل واجبار ظروف الحياة وما يسمى بلقمة العيش، إلا أنه من ناحية أخرى بخصوص الجدد: هو التصالح الفني، اذ قد حل التناقض بين القديم والجديد لحساب رجعة إلى الوراء كشيمة السبعينات، وهي رجعة لا يمكن وصفها إلا بالتخلف السينمائي، وتلك هي كارثة ما انتهى اليه جيلنا ولا اسمها كارثة لجيل القديم فقط. فقد قدم الجيل القديم ما في جعبته وكان لها تقييمها في حينها وفي زمانها .. أما أن يأتي الجديد ويتدهور. أو على الأقل يقف عند مجرد ما قدمه القديم ولا يستطيع أن يخطو خطوته فتلك بحق هي الكارثة.
واني المعتذر لتعرضي لمثل هذا التقييم الذي لا يدخل في نهج المذكرات ولكني اجدني مضطرا لمثل هذا التعقيب، اذ لم يكن ليدور باذهاننا في تلك الليلة من مايو 68 ما تنتهي اليه حركتنا الجديدة.
في تلك الليلة رحنا نجوب شوارع وسط القاهرة بعد العرض نبحث في نقاشاتنا عن الطريق ولكن حرارة البحث والتطلع إلى الجديد متأججة في اعماقنا ولم يتعبنا المشي ولا الدوران حول نفس النقطة من الشوارع ليلتها. ومضى كل ذلك حتى غدت حركة الشبان في السبعينات كبطل جريح يجر اثماله المتربة بخطوات متثاقلة بعد أن القى أسلحته تخفيفا لاحماله فمشى بين فلول قتلته دون حتى أن يتلفتوا اليه بعد أن امنوا جانبه وكانه منهم وهو بجرحه هذا وبإلقائه السلاح قد صار بالفعل منهم وهم لا يعبأون به فرماحهم مستعدة لآخرين. لمن يظهر أو يطل برأسه من الفارين هربا والذين مازالوا مختبئين يتربصون اللحظة مع من ينضم اليهم من المواليد الجدد الطاهرين واحسبني – كاتب السطور – واحدا من الفارين المختبئين تربصا، وان كان رمح الجروح قد اصابني بخدش من خدوش السبعينات، فغدوت كأبطال المـآسي التمثيلية، عندما قمت على نهج الاخرين مرة بتقديم سقطتي على المذبح قربانا بفيلم اسمه “الولد الغبي” وفي غبائه للحظة كانت السقطة، فكان خدشا لأنها مجرد لحظة وأحمد الله أنها لم تدوم والا كانت جرحا ولكن بعد الخدش والانتباه له لم يكن بد من الهروب والاختباء. تماما كما تعلمنا في القتال نفس النوع من الدفاع السلبي وهو الالتجاء إلى الخندق عندما تتواصل غارات صب المتفجرات والإسرائيلية منها على وجه الخصوص بلا رحمة.. ولكن طالما احتفظت النفوس بطهارتها. وما اكثرها وطالما أن المواليد الجدد قادمون وما اعظم الثقة بهم، وطالما أن التاريخ دائما في صالح تقدم العربة مهما كانت العثرات … لذلك فالمستقبل قادم .. قادم .. قادم…
(تمت الأوراق)
كما يبدو لنا من سياق هذه الأوراق وما ورد بها من تواريخ، أن مدكور ثابت كتبها أو انتهى من كتابتها بعد مرور خمس سنوات على الأقل من ليلة عرض الأفلام الثلاث وربما بعد ذلك بفترة. وبالرغم من قلة أفلام مدكور ثابت، إلا انها تعتبر علامات واضحة فى تاريخ السينما التسجيلية والروائية فى مصر والعالم العربي ومن أبرز وأهم ما قدم بها.
فهناك أفلام آخرى هامه له مثل “على أرض سيناء” 1975– “الشمندورة والتمساح” 1980، “السماكين فى قطر” 1985. والفيلم الروائي “صور ممنوعة” لنجيب محفوظ والذى تم عرضة فى 1972، وهو عبارة ثلاث افلام تعرض على شريط واحد، عن ثلاث قصص من اخراج ثلاث مخرجين، تناول كل منهم قصة من الثلاث، وهم محمد عبد العزيز وأشرف فهمى فى فلميهما “ممنوع” و “كان” والإثنان فى الإتجاه الواقعي التقليدي. أما فيلم مدكور ثابت “حكاية الأصل والصورة فى إخراج قصة نجيب محفوظ المسماة الصورة”، فقد تعمق فى تجريبيته. ويقول كمال رمزى عن هذا الفيلم، أنه ربما لو شاهدنا هذا الفيلم بعد أربعة عقود من ظهوره، سيبدو لنا جريئا، لكن مفهوما، ينهض على فكرة البحث عن قاتل صاحبة الصورة المغدورة، وخلال التحقيق تتجه الإدانة إلى أطراف اجتماعية وأخلاقية فاسدة فى مصر، حينذاك.. وفى “الأصل والصورة”.. يظهر المخرج، مدكور ثابت، بنفسه، عقب الربع الأول من الفيلم، ليعتذر لجمهور الصالة، عن ضرورة إعادة سرد ما سبق، ويطلب، فى النهاية، أن يستنتج المتفرج ويحدد شخصية القاتل.. أسلوب مدكور ثابت، المتأثر بتعاليم برتولد بريخت وآخرين من الحداثيين، لم يكن مستساغاً فى سبعينيات القرن الماضى، وبالتالى لم ينجح الفيلم فى حد ذاته، ولكن فتح باب التجريب والخيال الجامح، لسينما رأفت الميهى ومحمد شبل.
ويؤكد أساتذة وخبراء السينما أن أول تجريب فى السينما الروائية قدمه مدكور ثابت كان من خلال هذا الفيلم. وفى تعليق لنجيب محفوظ حول هذا الفيلم، قال أنه لن يُفهم قبل ثلاثين عاماً مثل فيلم “باب الحديد”.
ومن أبرز ما ترك مدكور ثابت للسينما المصرية فيلمه التسجيلي الوثائقي الطويل “سحر ما فات فى كنوز المرئيات” 2009،. ويعتبر الفيلم وثيقة مصورة لإحتواءه على مواد فيلمية نادرة للغاية، تم تجميعها من خلال أشرطة السينما من عدة دول منها مصر وانجلترا وفرنسا وإيطاليا، والأشرطة يرجع تاريخها الى أول لقطات لعدسة سينمائية فى مصر عام 1898 للأخوين “لوميير”. وثق هذا الفيلم لمائة عام من تاريخ مصر.
أما فيلمه الأول “ثورة المكن” محور هذه الأوراق من مذكراته، قد تم تصويره وإنجازه كأول رد فعل مباشر لنكسة 1967، وقد أكد محمد القليوبى وناجى فوزى أن الفيلم لم يكن لمغازلة السلطة أو التقرب اليها، لأن مدكور كان بعيدا عن هذه الأجواء. كما أكد الأساتذة وخبراء السينما الذين تحدثوا عن مدكور ثابت فى بدء المقال أن هذا الفيلم هو أول فيلم تجريبي فى تاريخ السينما المصرية. لذا علينا أن نؤكد أن مدكور ثابت هو رائد السينما التجريبية فى مصر. وقد اُعتبر هذا الفيلم بعد عرضه حدثاً ثقافيا كبيراً،ً ونال تقديرا رفيعاً فى المهرجانات الدولية، كما حصل على الجائزة الأولى فى مهرجان الإسكندرية 1969.
جاء هذا الفيلم ليجسد فيه مدكور ثابت التأثير الذى تركته حرب الستة أيام 1967 على الإنتاج في كل المجالات فى مصر، وحتمية المقاومة الدائمة والمستميتة وضرورة العودة الى العمل، فلم نشهد فى الفيلم سوى مكينات المصانع بمكابسها ومحابسها وتروسها ومضخاتها، وهى تعمل من خلال لقطات قريبة، استخدمها استخداماً إبداعياً فى لقطات متتالية، ومع صوت الإنفجارات وصفارات الإنذار التى تعبر عن قيام الحرب، فتتحول الحركة الى مارش عسكرى ثابت وواثق الإيقاع بتأثير الموسيقى المصاحبة، إشارة الى ضرورة تجاوز النكسة والإنكسار الذى خلفته حرب الستة أيام. والفيلم هو تعبير عن رفض الهزيمة، وان الشعب لا يموت وأن مصر لا تموت أبداً.
فوزي الشامي
عن مجلة ” ميريت الثقافية “
السيرة الذاتية ل، د. مدكور ثابت
هو مخرج مصري، تخرج في المعهد العالي للسينما قسم إخراج عام 1965، عين معيدًا بالمعهد ثم مدرسًا عام 1972، تولى العديد من المسؤوليات بالمعهد منذ عام 1986، ثم عُين رئيسًا للأكاديمية في أوائل الألفينيات، كتب وأخرج عدة أفلام تسجيلية مثل (ثورة المكن) 1967، (على أرض سيناء) 1975، وأخرج جزء (صورة) من فيلم (صور ممنوعة) لكاتبها نجيب محفوظ، عمل مراسلًا في فترة حرب الاستنزاف، تولى رئاسة المركز القومي للسينما، ثم رئاسة الرقابة، صدر له العديد من الكتب في الإخراج والسيناريو، وكان آخر أعماله (سحر ما فات فى كنوز المرئيات) والذى يؤرخ لمصر خلال أكثر من 100 عام.
الموطن: مصر
تاريخ الميلاد: 30 سبتمبر 1945
تاريخ الوفاة: 5 يناير 2013