صلاح هاشم يكتب من باريس لجريدة ” القاهرة “عن روعة مصر في باريس.أم كلثوم في الأوليمبيا
تحتفل صالة ” الاوليمبيا” الموسيقية الشهيرة في باريس – التي افتتحت عام 1954, وغني فيها عمالقة الغناء من فرنسا وانحاء العالم ، من امثال الفرنسية اديت بياف، واليونانية مغنية الاوبرا العالمية ماريا كالاس، وكوكب الشرق سيدة الغناء العربي أم كلثوم، و تعتبر عن حق بمثابة ” معبد ” الاغنية في فرنسا,الذي يجسد حضارة ومجد” الميوزيك هول” في البلاد- تحتفل في شهر ابريل القادم بمرور أكثر من 70 عاماعلي تأسيسها، فتنظم لذلك حفل موسيقي غنائي كبير, لم يسمع به أحد من قبل، وتتخلله سلسلة من المفاجآت، بمشاركة العديد من مشاهير الغناء في فرنسا والعالم، وكانت ام كلثوم أحيت حفلين يومي 13 و15 نوفمبر عام 1967 في ” الاوليمبيا”، وغنت فيهما “أمل حياتي ” و” الاطلال” و” غلبني الشوق” وغيرها،..
وبحضور الملك حسين الراحل ملك الاردن، الذي اختبأ كما يقال في مكان ما من الصالة ،في حفلها الاول، حتي لايكتشف أمر حضوره أحد، كان حفلها الاول ذاك يوم 13 نوفمبر قداستغرق اكثر من خمس ساعات، وانتهت وصلاته في الثانية من صباح اليوم التالي، فصار أطول حفل موسيقي ساهر،في تاريخ الصالة الباريسية ومنذ تأسيسها، محققا بذلك رقما قياسيا ..لم ولن يتكرر ابدا….
الأوليمبيا أهم ” نقلة نوعية ” في تاريخ الاغنية الفرنسية
وكانت الصالة الشهيرة ، التي صارت صرحا للاغنية ، لا في فرنسا وحدها بل في العالم، ومعلما من معالم باريس الفنية الشهيرة، التي اسسها الموسيقار الفنان برونو كوكاتريكس عام 1954، راهنت علي امكانية نقل الاغنية من ضفة باريس اليسري الارستقراطية، أي من مواقع المثقفين الي ضفة باريس اليمني الشعبية، أي الي مواقع الجماهير العريضة، والاقتراب هكذا بالاغنية الفرنسية اكثر ،من نبض الناس ، والشارع والرصيف،علي الطرف الآخر من نهر السين، حيث تقطن الاغلبية من شعب باريس، وكسبت الرهان ..
اذ كان ذلك هو الانجاز الاهم ،الذي حققته في تاريخ الاغنية الفرنسية خلال المائة سنة الاخيرة, بالاضافة الي انجازات اخري، تحسب لها، مثل إنفتاح الصالة علي المواهب الغنائية في فرنسا والعالم، وتسليط الضوء عليها، كماحدث مع المغني الفرنسي الكبير الراحل كلود فرانسوا، المولود في مصر، الذي صار معبودا للجماهير، مثل عبد الحليم حافظ في بلدنا وبخاصة لجيل الستينيات الذي أنتمي إليه، منذ الحفل الأول التاريخي لكلود فرانسوا الاول في الصالة, وكما حدث كذلك لفرقتي ” البيتلز” ” والرولينج ستونز” من بريطانيا، وعازف الجيتار الامريكي الفذ جيمي هندريكس وغيرهم..
أم كلثوم “صوت مصر ” في ذاكرة الاغنية الفرنسية
كما حققت الاوليمبيا اضافة ثالثة الي تاريخ الغناء, من خلال انفتاحها علي التراث الموسيقي لشعوب الارض, والتعريف به, مثل انفتاحها علي موسيقي ” الجاز ” في امريكا, ودعوتها للوي ارمسترونج اشهر مغني في تاريخ الجاز, لاحياء حفل مع فرقته الموسيقية علي مسرحها ..
وكان برونو كوكاكتريس هداه تفكيره لاحداث تلك ” النقلة النوعية” في تاريخ الغناء الفرنسي, الي تقديم المغني جلبير بيكو, لاحياء حفل الافتتاح في مايو عام 1954, فشمخ صاحب حنجرة 100 الف فولت الشهيرة في الحفل الذي صار حدثا , وسطع نجمه , وسطعت معه الصالة بأنوارها, ثم تألقت ” الاوليمبيا ” اكثر, وعبر الخمسين سنة الاخيرة,بحفل ام كلثوم العظيم..
فقد إهتزت القاعة بالتصفيق والزغاريد لمدة ربع ساعة, قبل بداية الحفل وغناء” الست”, حين رفع الستار عن كوكب الشرق أم كلثوم فقط وهي تجلس صامتةعلي مقعد امام الجمهور في صحبة فرقتها الموسيقية) الذي صار قطعة من ذاكرة الوطن, بصوت وحضور ” الست ثومة” سيدة الغناء العربي ولكل العصور..
واخذت الاوليمبيا هكذا من شهرة المغنيين ايضا كما اعطتهم, وكان حفل جلبير بيكو الاول في تاريخ ” الاوليمبيا” , الذي غني فيه اغنيته الشهيرة” عدت ابحث عنك” , بمثابة ضربة معلم لصاحب الصالة برونو كوكاتريكس, الذي استطاع هكذا تدريجيا ومنذ عام1954 ان يستقطب اليها كبار ومشاهير المغنيين والمطربين في العالم, من امثال اديت بياف و شارل ازنافور وايف مونتان وجاك بريل وباربرا وجورج براسانز وجوني هاليداي وسيرج رجياني ومراي ماتيو و داليدا و فيروز وديانا روس ومادونا وبوب ديلان وماهاليا جاكسون وجوان بياز وغيرهم، ويساهم ايضا في صنع شهرتهم, وتلميعها اكثر..
حتي صارت “الاوليمبيا ” بمثابة ” اسطورة” في تاريخ الاغنية لا في فرنسا وحدها بل في العالم, ولذلك فان الاحتفال بتأسيسها، ولو مرة في كل سنة، هو احتفال ايضا بقطعة من ذاكرة الغناء في الوطن في فرنسا, وهو ايضا يخصنا..
لان حفل ام كلثوم كان بمثابة علامة تقدير وحب من مصر, ممثلة في شخص كوكب الشرق, لدور فرنسا الكبير في الثقافة ، و التنوير والتحرير, في عهد الرئيس السياسي الكبير شارل ديجول, وعلاقات الصداقة التاريخية، التي تربطها بمصر وكل بلدان الوطن العربي الكبير..
كما ان الاوليمبيا هي ايضا قطعة من ذاكرة المهاجرين العرب في فرنسا, وحبهم لهذا البلد فرنسا, بثقافاته وعلومه ومعارفه وتاريخه ( السوربون واللوفر والسينماتيك والكوميدي فرانسيز والكوليج دو فرانس، وكهوف موسيقي الجاز في احياء السان جرمان, وعشق التشرد والصعلكة في مدينة النور, بل وتاريخ كل المثقفين التنويريين العرب، الذين حضروا الي باريس، من اول رائد النهضة المصرية الحديثة،الشيخ الازهري، رفاعة رافع الطهطاوي عام 1826, ومرورا بالامام محمد عبده، ويعقوب صنوع ” ابو نظارة “، وحتي طه حسين، ومحمد مندور، وصلاح ابو سيف،ولويس عوض، ومختار، وأدونيس، ومحمود درويش، وانور لوقا وعشرات غيرهم من المفكرين و الفنانين والكتاب والشعراء المصريين والعرب الكبار..
هذا “الحب “الذي غالبا ماتتناساه للأسف, الكتب التي تحكي عن” باريس العربية”, وتتناولها دوما من زاوية المهاجرين الجزائريين, الذين عاشوا في احضان البؤس والجيتوهات المنعزلة في احياء بلفيل والجوت دور, وفي عشش الصفيح علي هامش المدن الفرنسية الكبري, ودائما مايكون الحديث عن العرب, من خلال الحيث فقط عنهم , وكأن باريس لم تعرف عربا غيرهم ,عاشوا فيها وانجزوا، وللحديث بقية..
بقلم
صلاح هاشم.باريس
صلاح هاشم مصطفى كاتب وناقد ومخرج مصري مقيم في باريس فرنسا.مؤسس ورئيس تحرير موقع ” سينما إيزيس ” على شبكة الانترنت عام 2005