فيلم “مثلث الحزن” للسويدي روبن أوستلوند يسخر من أثرياء عالمنا و يقترح ” بداية ” جديدة للبشرية. قراءة بقلم يوحنا دانيال
عندما يفكر صانع أفلام يساري متطرف مثل المخرج السويدي المعروف روبن أوستلوند، بصنع فلم ينتقد ويهجو عالمنا المعاصر، والفوارق الطبقية الهائلة فيه، والرفاهية الخيالية لأثرياء عصرنا، وتفاهتهم المقرفة، وحبهم للاستعراض والتفاخر والثرثرة عن نجاحاتهم وانجازاتهم ..
بينما يتكاثر عدد الفقراء والكادحون والمهاجرون بشكل خرافي وغير معقول في جميع بقاع الأرض .. لكن المخرج لا يمكنه أن يجد أي حل للخلاص من كل هذه المعضلات المعقدة ..

فانه حتما سيلجأ الى اقتراح بداية جديدة للبشرية، وذلك بهدم هذا العالم الواقعي القائم .. أي انه سيختار الدمار لكل هذه الثقافة ولكل هذا الواقع، من أجل بداية جديدة صحيحة.
المخرج يحاول في فلمه أن يصور الفارق الهائل بين الفقراء الكادحين والاثرياء الفاحشي الثراء .. الاثرياء الذين ثراءهم في الحقيقة ليس ناتجا من عمل أو إنتاج مادي ملموس .. اي انه لا يهاجم الرأسمالية التقليدية كما في السابق .. لأن الرأسمالية في الغرب تقريبا اندثرت فعليا .. ودخلت جميع هذه البلدان في العصر ما بعد الرأسمالي منذ عقدين ربما .. ويسود هذه البلدان اقتصاد خدمات وتمويل وفنون واستعراض؛ انهم اناس يعيشون على مظاهرهم الخارجية، ويسوّقون جمالهم أو حضورهم وكلامهم، والناس يشترون كل هذا بواسطة التكنولوجيا العصرية .. من خلال تطبيقات السوشيال ميديا المتاحة للجميع في كل مكان.

وبالفعل، فان هناك قلة ممن يطلق عليهم المؤثرين والفاشنستاس يجنون الأموال الطائلة من بيع وجوههم واجسادهم وملابسهم وكلامهم ونصائحهم الفارغة .. وكل هذا يحاول المخرج تصويره وعرضه بالاضافة الى بعض الأثرياء الطفيليين وصنّاع الأسلحة .. لكن من دون أن يعرف كيف يعيد الأمور إلى نصابها .. فيترك الأمور تنعقد وتتداخل الى حد الانفجار. هذه المرة فلمنا يأتي من السويد .. من مخرج نال جائزة السعفة الذهبية قبل سنوات عن فلمه الانتقادي الشهير “المربع” .. الذي يسخر من عالم الأزياء والمتاحف الفنية السطحية والطبقات الغنية ..
وهذه المرة آخذ نفس المخرج الجائزة الكبرى قبل أشهر عن فلمه هذا .. المعنون #مثلث_الحزن Triangle of Sadness.. وهي المنطقة بين الحاجبين .. عندما يقطب المرء حاجبيه قلقا أو حزنا أو بعصبية .. يتكون ما يشبه المثلث .. ما نسميه بالعربية على قول الشاعر عاقد الحاجبين .. وهو أمر مرفوض بين العارضين والمشاهير الذين يعتمدون على صورتهم في تسويق أنفسهم وكسب المال، وعليهم الأخص منه بعملية تجميل بسيطة بحقن البوتوكس والفلر. يقسم المخرج فلمه الى ثلاث أجزاء أو حكايات تتداخل في شخصياتها. يبدأ بالانتباه الى كيفية صعود البعض وثراءهم اعتمادا على مظاهرهم الخارجية فحسب .. ويراقب علاقاتهم العاطفية .. واستغلالهم لبعضهم حتى لو كانوا عشاقا. وفي الحكاية الأطول في المنتصف يضع مجموعة أكبر من أثرياء العصر في يخت فخم جدا، تحت قيادة قبطان سكير وفوضوي، في رحلة سياحية ويخدمهم فيها العشرات من الرجال والنساء، وينفذون رغباتهم وحتى غير المعقولة منها، ونكون شهودا على سوء التصرف والقرارات الخاطئة التي تؤدي إلى كارثة حقيقية كبرى. وفي الجزء الثالث نشاهد الناجين من الكارثة على جزيرة مهجورة، يعيشون بطريقة شبه بدائية، حيث تتبادل الأدوار ويتحول الكادحون الى قادة، والأثرياءالى تابعين، إذ يبدو أنه لا فرار من الطبيعة البشرية الطبقية ابدا. يلعب جميع الممثلين متعددي الجنسيات أدوارهم بإقناع وتفوق، يجذب المشاهدين طوال الوقت الى هذا الفلم الرائع. بالطبع هناك بعض الإطالة غير الضرورية في القسم الأخير، واقحام أفكار ومفاهيم سياسية واجتماعية عصرية، قد لا تتماشى مع الحكاية. لكن هذا لم يؤثر أبدا على جمال هذا الفلم، وعلى موضوعه ورسالته ابدا. ولهذا استحق الفلم العديد من الجوائز والترشيحات لجوائز لم ينلها .. أو سينالها. وللاسف فان الفلم رغم أهمية وحساسية موضوعه، لم يصادف نجاحا مهما في السويد .. بل اعتبروه مملا وطويلا .. علما انهم ناس متعودين على الملل في حياتهم وبيئتهم ..
لكن المشكلة انهم غير مهتمين بموضوع الفلم، ولا بالقضايا التي يطرحها .. لهذا صنعه أوستلوند بالإنكليزية، وحمّله قضايا عالمية، بتوظيف ممثلين غير سويديين، لمخاطبة جمهور عالمي أوسع .. اما فلمه الأول “المربع” فهو فلا يرقى إلى مستوى فلم “مثلث الحزن” الرائع .. رغم انه فاز أيضا بجائزة السعفة الذهبية في مهرجان كان عام 2017 والعديد من الجوائز الأخرى والترشيحات الكثيرة .. وللأسف فان فلم مثلث الحزن من غير المرجح أن يكون له اي حظ في جوائز الأوسكار بعد اسبوعين رغم ترشحه لثلاثة جوائز أوسكار مهمة لأفضل فلم وأفضل مخرج وأفضل نص، بسبب المنافسة الشديدة من قبل مجموعة أفلام امريكية رائعة. لكن يظل هذا الفلم سابقة رائعة مختلفة في السينما الغربية، لانه يتناول مشاكل عالمنا المعاصر. إضافة إلى فلم كل شيء هاديء على الجبهة الغربية الذي يتناول قسوة الحروب المستمرة لحد الآن.
بقلم
يوحنا دانيال

يوحنا دانيال ناقد عراقي مقيم في السويد