” لاكاسا دي بابل ” بين البطل النبيل واللص الظريف، رؤية درامية معاصرة . بقلم عماد النويري
الجريمة والجنس،شئنا ام ابينا، كانا ومازالا هما المدخل الجماهيري، لنجاح الكثير من الافلام السينمائية ، ومن العناصر الفعالة ،لجذب الشريحة الأكبر من متابعي الدراميات التلفزيونية ،في كل بلدان العالم..
ورغم ان مسلسل ( لاكاسا دي بابل)- اكثر المسلسلات الأجنبية مشاهده على منصة النتفلكس- اعتمد الي حد كبير علي كسر اكثر من ١٥ محظور رقابي من اجمالي ٢٦ محظور في قانون هايز ( ١٩٣٤ – ١٩٦٤ , فإن نجاح المسلسل لا يمكن ارجاعه فقط ،لتلك الحكايات والمشاهد الرومانسية واللقاءات الحميمة بين طوكيو وريو ، اوبين البروفسور وراشيل، اوبين دينفر وعشيقه أريتور السابقة . كما لا يمكن إرجاع نجاح المسلسل أيضا، الي تلك المشاحنات والمطاردات التي نفذت ببراعة شديده وبتقنية عالية بين أفراد العصابة والشرطة ،داخل وخارج دار سك العملات ، او في بنك اسبانيا، او في تايلاند والفلبين..
كما لايمكن إرجاع نجاح المسلسل أيضا ،الي القدرة العالية علي التحكم في كل مفردات عناصر المسلسل الفنية ، بداية من الكتابة الاحترافية التي استدعت معالجه سيناريو الحلقة الاولي خمسين مره ، اضافه الي تخصيص سته مخرجين للاهتمام بعناصر العمل من تصوير، ومونتاج ، واضاءه ، وملابس ، وتمثيل ، وغيرها . ولايمكن ارجاعه أيضا ،لتبني منصة نتفلكس للجزئيين الثالث والرابع ، في المسلسل، ماهو اهم من كل عوامل الجذب السابقة..
قناع وجه الرسام العالمي الإسباني الشهير سلفادور دالي ،والبدلة الحمراء ، والأغنية الإيطالية الشهيرة (بيلا تشاو ) او ( وداعًا إيتها الجميلة ) ، ثلاثة أشياء اعتمد عليها كتاب ومنتجي وصانعي الصورة في مسلسل ( لاكاسا دي بابل ) لجذب انتباه المشاهد ، واكتساب تعاطفه ، وإعطاء قيمه كبيره للعمل، اكثر من كونه قصه عن عمليه سطو تقوم بها عصابه تحت أمرة ( بروفسور ) ذكي ومحنك ودارس لكل فعل يقوم به ،مع حساب ردة فعل الآخرين ، وكأنه لاعب شطرنج ماهر . وقد وصل الامر عند البعض، الي اعتبار هؤلاء اللصوص، إنما هم مجموعه من الأبطال العظام ،يقومون بعمل ثوري كبير، يستحق كل الاحترام والتبجيل !!..
في اذهان الناس، وفي ذهن اَي مشاهد للمسلسل، لو تمعن قليلا في الرموز والمعاني سيجد ان قناع دالي ،هو صوره من وجه فنان أسباني كبير، عرف عنه تمرده وفوضويته وثوريته ،وجموحه الفني والإنساني ،ومعارضته المعلنة ضد الجنرال الفاشي فرانكو ..
ويعني ذلك كله، ان القناع في الوعي الجمعي للناس هو مرادف للثورة ( حتي لوكانت فوضويه ) او مرادف للفوضى ( ومطلوب ان تكون فوضي ثوريه ) ، و( البدلة الحمراء ) هي لون الاشتراكيين وربما الشيوعيين المفضل ، وهي لون الدماء التي أسيلت من العمال الذين ثاروا ضد الرأسمالية ، وهي لون الدم المخفي الذي سال من المسيح ،عندما تم صلبه، وأصبح هو اللون المفضل في الذاكرة الفنية للفن الكنسي علي مر العصور ..
وأخيرا أغنيه ( بيلا تشاو ) التي بدأت في الظهور كفلكلور إيطالي ، وتحولت بعد ذلك الي الأغنية المفضلة ،عند المقهورين والمزارعين الإيطاليين الفقراء ،ضد ملاك الارض الظالمين ، وبعدها أصبحت هي النشيد الوطني، لكل مقاومي الفاشية في إيطاليا ، ومقاومي النازية في بعض البلدان الأوروبية..
كما قلنا ، ان الموضوع اكبر من مجرد حكاية، عن عمليه سطو ، وإنما يتعدى ذلك بإعادة صياغه، مفهوم الدراما الذي تعارفنا عليه منذ قرون ، ويعيد صياغه مفهوم البطل الدرامي المعاصر من جديد ،بل ويقدم رؤيه معاصره، عن مفهوم الخير والشر بعد ان يكشف العمل، الكثير من الأكاذيب التي عشنا فيها طويلا
عوده ريو بعد تعذيبه في صحراء الجزائر، وخروج لشبونة ( راكيل ) من الخيمه في طريقها للمحاكمة ، ومقتل برلين ، وجنازه نيروبي ، اعتبرها اربعه مشاهد تأسيسيه ،لتكريس لصوص مسلسل ( لاكاسادي بابل ) كأبطال حقيقيين ، واخيار نبلاء ، يستحقون المحبة والتعاطف، اكثر من الرفض والإدانة..
برلين اللص الظريف ، الهادئ ، الغاضب ، الذكي، الرومانسي اللطيف، المحب للسيطرة، يرفض مغادره النفق ،في نهاية عمليه السطو ، ويضحي بحياته، من اجل إعطاء الفرصة لأصدقائه للهرب ، وكأنه جندي مخلص، في ارض المعركه ، يفدي وطنه بكل شجاعة ، لذا يستحق منا التعاطف ، ويجعلنا ندين رجال الشرطة الاشرار الذين قتلوه، وهو يؤدي مهمه ( نبيله ) لأصدقائه ( اللصوص ) !!..
و( ريو ) الذي هرب الي احدي جزر تايلاند، هو وطوكيو ، ونجحت الشرطة الإسبانية في القبض عليه ، فإن أفراد العصابة ( العائلة ) يجتمعون مره اخري، من اجل إطلاق سراحه ،وينجحون في ذلك ،وعندما يعود للانضمام للبقيه، في بنك اسبانيا ، تصطف الجماهير لتحيته، والترحيب به ،كبطل مغوار ،ومحارب صنديد !!وهو في الحقيقة لص هارب، لإدانته في عمليه سطو مكتمله الأركان ، وهو عائد في حمايه الشرطة ! لإكمال عمليه سطو جديده !!..
اما مقتل نيروبي، بعد تعرضها لرصاصه اصابتها في مقتل، بعد تعرضها قبل ذلك لرصاصه استدعت عمليه جراحيه قامت بها طوكيو ،فقد أقيمت لها جنازه مهيبه وحمل نعشها اربعه من حراس البنك ،وكأنها جنازه لإحدي شهيدات المقاومة!! ولا اخفي القول انني حزنت عليها كثيرا ، مثل الكثيرين ، وهذا بالضبط مااراده المسلسل !!..
ألا وهو تحويل عمليه السطو الثانية، لاحتياطي الدولة من الذهب ، وكأنها مهمه وطنيه !!
وكيف لك ان ترفض هذه المهمة الجليلة، اذا كانت ( راكيل ) مفتشه الشرطة الحسناء، والمكلفة من قبل الدولة للتفاوض مع العصابة ، قد وقعت في غرام ( البروفسور ) ، وتعاطفت مع أفكاره، بل انضمت الي عصابته ، ليصبح اسمها الحركي ( لشبونة ) !! والغريب والمثير أيضا ، وهي مدانة بجرم الخيانة العظمي !!يقوم الناس بتحيتها، والهتاف لها وهي في طريقها للمحاكمة !!
عالم المهمشين، وكل الذين ينتمون الي الطبقة المتوسطة المتآكلة ،بل المنهارة، وكل الساخطين علي الحكومات الكاذبة، في وعودها بالتنمية والرخاء ، وكل المتمردين ،علي النظم القمعية التي سحقت وتسحق حريات الفرد، وتخنق طموحاته وأحلامه ، وكل الراغبين في الانتقام من لصوص الحكومات والدول، من خلال التماهي مع ابطال بسطاء ظرفاء، قد ينجحوا في إرجاع مسروقات الأغنياء الي أصحابها..
كل هؤلاء، هم الشريحة الأكبر من المتابعين لمسلسل ( لاكاسا دي بابل ) ، بالإضافة طبعًا الي المهتمين بالجوانب الفنية ، والذين يكتفوا بالقراءة لهذه الاعمال في مستواها( التسلوي ) الترفيهي الاول..
وكان الامر كذلك أيضا مع فيلم ( المهرج )، الذي حذر من موجات غضب كبيره، شاهدنا بعضها مؤخرا ،في اميركا وفرنسا،وغيرها من بلدان العالم . ويبدو ان الامر كذلك أيضا مع مسلسل ( ١٠٠ وش ) ، الذي تعاطف المشاهد السابق مع ابطاله، وحقق فيه رغباته ،في الانتقام والتمرد، ولعب فيه دور ( روبن هوود ) الذي يسرق الأغنياء من اجل البسطاء، وينتقم للمظلومين ، حتي لوكان علي حساب تغيير معادله الصراع في الدراما ، وتغيير اطرافها..
ان المنتصر في النهاية، ليس مهما ان يكون البطل النبيل ، وإنما من الممكن ان يكون، البطل القاتل الشريف ، او البطل اللص الظريف !!
عماد النويري