” لص بغداد ” في طفولة سينما إيزيس بقلم صلاح هاشم
كانت سينما إيزيس فى شارع مراسينا ، بجوار حديقة حوض المرصود، وبالقرب من مستشفى الرمد فى حى السيدة زينب مطارنا، وقاعدتنا الجوية، للانطلاق فى رحلات سينمائية عظيمة، إلى عواصم هذا العالم ومدنه، وأيضا حكاياته وأساطيره كمافي ” ألف ليلة وليلة ” وفيلم ” لص بغداد ” ولم تكن قاعة سينما إيزيس تعرض فى فترة الخمسينات والستينات، ومنذ تأسيسها ، الا الأفلام الأجنبية فقط، في محيط ميدان السيدة زينب وسينماته، أي سينما الهلال الصيفي، وسينما الأهلي وسينما الشرق، ولم تكن هذه السينمات تعرض إلا أفلاما مصرية وعربية فقط، وفيلمين في كل حفلة، وكذلك سينما إيزيس التي كانت تقع على بعد خطوات من حينا العريق ( قلعة الكبش ) حيث يوجد مسجد أحمد بن طولون، الذي يعتبر أهم أثر إسلامي في مصر..
كانت الأفلام تنتزعنا نحن الأطفال الأشقياء في حينا، بصورها وأحداثها المتخيلة، وبديكوراتها وأجوائهاالموسيقية، من قلب الحارات والأزقة الضيقة فى حينا “قلعة الكبش”، لتزرعنا زرعا فى قلب الميادين الواسعة داخل المدن الكبيرة ..
تضعنا على محطات القطارات، أو تتحرك بنا أمام واجهات المحال الضخمة، تحملنا إلى بواخر المسافرين العظيمة، وتدخل بنا إلى ميناء نيويورك، بعد أن نكون قد شاهدنا في لقطات مقربة – لابد أنها صورت من داخل طائرة عمودية- لتمثال الحرية فى مدخل الميناء..
صارت ” سينما إيزيس “صندوق الدنيا الجديد ، الذى لا تتطلع من خلاله هذه المرة إلى صورة عنترة وأبو زيد الهلالى والسفيرة عزيزة وشجرة الدر الثابتة، وهى تمر أمام الثقب الذى نتطلع إليها من خلاله ، ومركب عليه عدسة مكبرة ، بل صندوق مختلف عن ذلك ..
صندوق بأجنحة، يطير بنا فوق بساط الريح في فيلم ( لص بغداد ) ، محلقا إلى باريس ولندن ونيويورك وفيينا وروما ، وغيرها من عواصم العالم ومدنه، ليفتح لنا ولأول مرة سكة السفر ، يمهد لنا الطريق لغزو هذه المدن ..
السينما فتحت لنا أبواب التشرد والصعلكة، جعلت العالم فى متناول ايدينا، ورتبت لنا فى نسق بديع، على أطراف حينا الصغير، كل مدن العالم الكبيرة، وكنا نحن الصغار العفاريت الأشقياءنحنال للخروج منه، ولم نكن نجرو بعد على تخطى عتبته وحدوده، خوفا من الهراوات والعصى التى تنتظرنا ، وصغار الأحياء الأخرى المجاورة- مثل حي ” طولون” – الذين يقفون لنا بالمرصاد ..
الأفلام التى شاهدناها فى سينما ايزيس ( العصور الحديثة ) لشارلى شابلن و ( المواطن كين ) لاورسون ويلز و ( نفوس معقدة ) و (الرجل الخطأ ) لهيتشكوك، و ( قصة الحى الغربى ) لروبرت وايز ، و( ايرما اللعوب ) لبيلى وايلدر وغيره،ا وكل هذه الأفلام تدور احداثهاداخل المدن الكبيرة ..
جعلتنا نكتشف ملامح مدينتنا ” القاهرة” وأحيائها الكبرى، العباسية ، شبرا ، وبولاق الدكرور، وقبل أن نعرف أين يقع ميدان العتبة، وسور الأزبكية، وشارع سليمان باشا وقصر النيل ، كنا قد صعدنا إلى سقف باريس فى فيلم لرينوار، وتجولنا فى أسواق طوكيوفى فيلم لصامويل فولر، ورقصنا مع جورج شاكيريز وناتالى وود فى حى الزنوج هارلم فى قلب نيويورك فى فيلم ( قصة الحى الغربى )لروبرت وايز..
السينما جعلتنا نعبر المحيطات ، فى اتجاه مدن الغرب، قبل أن نقدم على المخاطرة فى تجاوز حدود الحى، الا فى صحبة الأهل، أو برفقة عياله مفتولى العضلات من أبناء الجزارين، الذين يحتفظون دائما فى جيوبهم بالمديات الصغيرة، بعد أن تأكد لنا أن مفعولها، فقد كانت هذه “المطاوى” كما كنا نطلق عليها – أعظم تأثيرا من العصى والهراوات، وقنابل التراب فى قراطيس الورق..
شاهدنا في ” سينما إيزيس ” قصة الحى الغربى، وخرجنا جميعا ونحن نطرقع بأصابعنا كبطل الفيلم جورج شاكيريز، فاذا ما هبط الليل إلى حينا اجتمعنا إلى جوار مسجد أحمد ابن طولون فى الساحة، أمام دكان عم حسن الحلاق، ورحنا نتقمص شخصيات ابطال الأفلام البوليسية تحت عامود النور ..
أنت يا فتى تلعب دور ريتشارد ويد مارك ، وأنت كلا.. ليس هكذا ينتزع همفرى بوغارات غدارته .. هكذا يفعل.. حسنا .. هذا أفضل بكثير ..
كنا نصنع المسدسات من الورق المقوى، وكانت اصوات طلقات الرصاص تنطلق من أفواهنا طاخ طاخ طاخ، فاذا ما نهرنا عابر سبيل، لاننا نسد عليه الطريق ، كنا نعلن عن تذمرنا بأن نخاطبه بانكليزية لم نكن قد تعلمناها فى المدارس بعد ، من اختراعنا ، فنصرخ فيه، ونركض لنختفى في لمح البصر ..
هذه التمثيليات التى كنا نتقمص فيها ادوار الممثلين الاشرار والاخيار منهم على حد سواء كلفتنا غاليا، ومازلنا نذكر ذلك العازف الأسمر الذي كان يعزف على الناي فى فرقة أم كلثوم، و الذى كان يسكن حينا، ويصعد إليه فى أخر الليل ، فذات مرة اصطدم بنا أثناء تمثيلية من التمثيليمات اياها، فشتمناه وركضنا كالعادة، وكان رمضان اضعفنا عدوا فأمسك العزف، به وراح يضربه ويركله كالمسعور، فاستيقظ أهل الحى على صراخ المسكين، وراحوا يعنفون هذا المارد ، الذى يتطاول بالضرب على طفل ضعيف برئ قزم ، كالفيل الذى يتحرش ببعوضة، ويستطيع بسهولة أن يدهسها، مثل وابور الزلط..
طبعا كل هذا التعنيف والشهامة التى اظهرها أهل الحى ،ومن بينهم أهالينا لم ترحمنا نحن الصغار، من أحزمة الجلد التى كانت تنتظر عودتنا إلى البيوت لينهالوا بها على أجسادنا ..
ضرب لم يمنعنا من التردد على سينما ايزيس ، والانتقال بتمثيلياتنا الى ساحة أخرى فى الحى، وحين التقينا نحن الصغار فى صباح اليوم التالى، ونحن نهبط الدحديرة فى طريقنا المعتاد إلى (مدرسة حسن باشا طاهر الابتدائية) في الحلمية- على بعد خطوات من حينا العريق ( قلعة الكبش )، كان أول ما فعلناه ان رحنا نطرقع بأصابعنا كجورج شاكيريز كما في فيلم ” قصة الحي الغربي ، وبقيت “سينما ايزيس” فى اذن كل واحد منا، جرسا رنانا متصل الرنين، يدعونا إلى مدن هذا العالم، حيث نتسلل الى القاعة كأننا ندلف إلى كهف اصطناعى مظلم ، ثم فجأة يسقط غبار مضئ متراقص على الستارة وترتوى عيوننا.تصبح حزمة الضوء الساقطة المتراقصة على الشاشة جسدا وحياة، تقودنا حزمة الضوء إلى مغامرة متجولة، ونظل هكذا حتى تذيب موسيقى ختامية الظلال على لستارة، ونخرج لنتحدث عن أحد الأفلام .
فى الظلام كنا نتساءل، عن طبيعة هذه العلاقة ،التى تنشأ بين الانسان والسينما ، ثم كبرنا وعرفنا ان السمة الجوهرية للسينما هى انها تمارس تأثيرها على الانسان فى نفس الوضع والمكان ،الذى يوجد فيه المتفرج، وهى تستبدل بتحرياتنا تحرياتها. ادركنا أنها السينما تتخيل من أجلنا، ونتخيل بدلا منا ، وفى الوقت نفسه تتخيل بعيدا عنا تخيلا أكثر كثافة وأكثر دقة ، وعرفنا أنها أكثر قدرة من الانسان الواقعى، حين تتجاهل فوراق المكان والزمان، عندما تقدم لنا فى مكان واحد وفى زمان واحد، احداثا متتالية فى أزمنة متباعدة أو منفصلة عن بعضها بعضا جغرافيافى مكان واحد ، فتجعلنا تجعلنا نرى عملية اختراق الانسان للعالم ، وهى تجعلنا ايضا نرى اختراق العالم للانسان، وهذه العملية هى فى البداية، عملية استكشاف لما هو خارجنا ،وهى فى النهاية عملية كشف عما هو فى داخلنا ، و ياله من أمر عجيب حقا ، ان تسكننا مدن السينما الأخرى من صنع الخيال والوهم وخداع البصر ، أكثر من هذه المدن التى نعيش فيها..
المجد اذن لروح الخيال الانسانى كما يقول الشاعر الفرنسي الكبير ابولينير . المجد لروح المخاطرة والمغامرة فى هذه المدن الأخرى من الخيالات والأساطير والأحلام والأوهام والأفكار المكبوتة، التى تجعلنا نحن البشر ننطلق من عقالنا، لنتجاوز الزمان والمكان، نخترق الحدود والابعاد، فإذا إنتهى الفيلم في ” سينما إيزيس “، وعدنا الى أرضية الواقع، لم نكن نعرف نحن الأطفال الأشقياء في حينا العريق ” قلعة الكبش” إن كنا إنسان يحلم بأنه فراشة ، أم فراشة تحلم بأنها إنسان.
صلاح هاشم مصطفى
صلاح هاشم أديب وناقد ومخرج سينمائي مصري مقيم في باريس.فرنسا
***
عن جريدة ” القاهرة ” المصرية الإسبوعية – رئيس التحرير طارق رضوان – العدد 1200 – الصادر بتاريخ الثلاثاء 18 يوليو 2023