هؤلاء علموني : ألبرتو مورافيا: عندما يكتب الروائي في النقد السينمائي، كما يحكي عن رحلاته في إفريقيا. بقلم صلاح هاشم
الروائي والكاتب والناقد السينمائي البرتو مورافيا.أستاذي
فى مقدمة كتاب ” ثلاثون عاماً في السينما” للروائي الإيطالي الكبيرألبرتو مورافيا،يكتب المخرج الإيطالى فيللينى الكبيررسالة إلى مورافيا، يقول له فيها :
( ..لقد أعجبت حقاً يامورافيا ، وأيما إعجاب، بمقالك عن فيلمى الأخير، الذى ذكرت فيه ، أن الشئ المميز فى أفلام فيللينى وفنه، أنه ينظر إلى حاضره،ويتطلع الى الحاضر فى أفلامه، كما لو كان يتأمل، فى جل أيامه الماضيات، بعد أن يضيف إليها ” فورية ” الحاضر، ومباشريته .فيللينى ينظر الحاضر، بنفس ابتسامة التسلية، التى نتطلع بها ،فى أغلب الأوقات إلى الماضى ،ذلك أن المسألة ببساطة،أن الماضي لا يختلف كثيراً عن الحاضر، فى معظم جوانبه ، ومظاهره الإيجابية ، بل و كذلك فى أخطائه، وسلبياته أيضا
قيلليني : مورافيا يكي عن الأفلام كا لو كانت كائنات حية
هذه الأفكار التى عبرت عنها يامورافيا تجاه فيلمى الأخير، البعيدة عن البلاغة ،والحذلقة الأدبية، ، تتسم بقدر عظيم من البساطة والشفافية. أنها بساطة العارف، الإنسان الذى خبر الأشياء، وخاض تجارب، لاحصر لها، ويعرف دائماً عما يتحدث بالضبط ، فإذا به يضع كل شئ فى مكانه، وبدقة متناهية، من خلال نظرته الثاقبة إلى عملية الإبداع والخلق، التى تكشف عن نفسها، وتتبلور بشكل أساسى، فى طرح مفهوم مغاير للزمن.إن الناقد الذى أتعاطف معه، هو الناقد الذى يتحدث عن الفيلم، ومن دون مبالغة، كما لو كان كائنا حيا ، أو إنسانا. الناقد الذى لا يتعامل مع الأفلام، من ” فوق “، ولا ينظر إليها ..” من بعيد ” ، مثل عالم الرياضيات، أو المهندس ، ثم يتفحصها – إذا تفحصها – ببرودة الجراح، فى غرفة العمليات ! ..
الناقد الذى اثق فيه، هو الناقد الذى يتحدث عن العمل الفنى ( لوحة ، كتاب ، أو فيلم ) بلغة تكشف لنا عن مشاعره، وأحاسيسه الفردية الإنسانية،فى حضرة العمل ، وتبين لنا فى الوقت ذاته، حدود الموضوعية..
والحقيقة – يضيف فيلليني – أنى كنت أندهش يا مورافيا ، حين أطالع كتاباتك النقدية عن الأفلام ، فى صحيفة ” الاسبرسو “، وأندهش من استقلاليتك المطلقة، تجاه أحكام النقاد الآخرين. إنك لا تهتم البتة، بما يكتبون ، ولا تهتم أبدا بالإشاعات، التى تحيط بكل فيلم ، ويظل مرجعك الوحيد، منهجك ” المورافى ” الذاتى فى الكتابة ، الذى ينطلق فى أغلب الأحيان، من ملاحظة سوسيولوجية ، أو فرضية فلسفية ، أو فكرة أدبية .
الكتابة عن الأفلام ” وسيلة ” لفهم العالم
وفقط عندما نقرأ مقالاتك، عن أفلام بعينها، ندرك على الفور، أن الكتابة عن فيلم ما بالنسبة إليك ، هى “وسيلة” لفهم العالم،وفرصة للانطلاق، فى “مغامرة” فكرية، تدعمها وتثريها، قراءاتك ومعارفك وخبراتك، فإذا بها تضع العمل السينمائى، تحت ضوء خاص، وفريد من نوعه ..
مقالاتك عن السينما يا مورافيا، تمنحنى قدرا عظيما من الإثارة ، وتجعلنى أستشعر هذه المشاعر والأحاسيس ذاتها، التى كنت أستشعرها ،وأنا أطالع تحقيقاتك الجميلة، عن رحلاتك فى أفريقيا..
هنا يحس الإنسان ، بأنه فى حضرة “مغامر”، يمكن الوثوق به، والاعتماد عليه، فى غزو تلك الممالك، والأقاليم الوعرة ، التى لم تطأها قدم بعد، ثم العودة بعد الرحلة الشاقة، بتقرير مفصل، وخال من كل ما له علاقة بالوعظ، والإرشاد،والأفكار المسبقة..” ..
منهج مورافيا في النقد السينمائي
هذا الكتاب لمورافيا، الذي أعتبره من ضمن هؤلاء الذين علموني، و أنحاز كلية الى أفكاره، يقدم رحلة شائقة مثيرة، فى عوالم سينمائية متميزة ،عبر العديد من الأفلام،التي صارت الآن من” روائع ” الفن السابع، ونلاحظ فيما يتعلق بمنهج مورافيا ، فى قراءة ونقد هذه الأعمال السينمائية، إعتماده على إبراز قضية ومحتوى سيناريو الفيلم، أى قصته،من حيث هى بلورة، لرؤية المخرج، وموقفه تجاه ما يحدث فى العالم، مع إهمال مورافيا لدور الممثل فى الفيلم..
ينشغل مورافيا بموضوع الفيلم، وقضيته الفكرية، أكثر من انشغاله بأبطاله ونجومه وممثليه، حيث لا يفرد لهم، إلا سطوراً معدودة، فى نهاية الحديث عن كل فيلم على حدة ، وهو بذلك يعلى من قيمة ” السيناريو “، حيث يضعه فى المرتبة الأولى من العتاصر المؤسسة للعمل،ولا يجد فى أداء الممثلين ،ومهما كان متألقاً وباهراً ، سوى دعامة ليس إلا، من دعامات المعمار الفكرى للقضيةالتى يعالجها..
يلخص مورافيا على عجل،قصة الفيلم فى عدة أسطر، ثم يدلف فوراً إلى قضيته، ويستفيد من قراءاته ومعلوماته فى الأدب، والفلسفة، وعلم النفس، وعلم الاجتماع، وغيرها، بالإضافة إلى خبراته الحياتية،ليسلط على قضية الفيلم الضوء، ويتفحصها بعدسته المكبرة، حتى أننا نجد أنفسنا فى نهاية المطاف،إزاء “قطعة أدبية” فنية مثيرة،بخصوص كل فيلم من الأفلام التى يتناولها فى الكتاب – أكثر من 150 فيلما – على حدة..
لا ينظر أستاذي مورافيا إلى السينما ، على أساس أنها ” صناعة ” ، ولا ينظر إلى المخرجين على أساس أنهم ” حرفيون “، بل ينظر إلى السينما، وعبر مقالاته النقدية فى هذا الكتاب، على أساس أنها ” فن ” ART ، من إبداع ” مؤلفين “AUTEURES .فن جاد، لا يسعى إلى الترفيه والمتعة فحسب، بل يشارك أيضا، فى تثقيف البشر وتوعيتهم، من خلال تناوله القضايا والمشاكل المعاصرة.والفن هنا، ليس إلا أسلوب حياة، ولأن الإنسان أو المبدع الفنان، ليس منعزلاً ، وعندما تواتيه فرصة التفتح والانطلاق ، فإنه يتحول إلى “عالم صغير ” يحمل فى طياته ” ثقافة الجنس البشرى” السابقة، أما حاضره ،فيتمثل فى ” تواجد ” عصره فى كيانه..
وتعالوا نتأمل في أسلوب مورافيا الأدبي البديع ،عندما يكتب في النقد السينمائي، بخصوص فيلمين هما: فيلم “العصور الحديثة” لشارلي شابلن، وفيلم ” نياجرا ” بطولة مارلين مونرو .
مورافيا يكتب عن فيلم ( العصور الحديثة ) لشارلي شابلن :
(.. فيلم ( العصر الحديث ) من إنتاج 1930 من اخراج شارلى شابلن، يعالج كما يتضح لنا من عنوان الفيلم، المشاكل الناشئة عن العصر الحديث. ما هى هذه المشاكل ؟ إنها مشاكل المكننة، والحضارة الصناعية، والبطالة، والشمولية التكنولوجية، و ” الهيدونية ” أي عبادة الجمال- الجماهير، ونظام العمل المسلسل ، وما إلى ذلك.ترى هل توجد مشكلة واحدة، من بين هذه المشاكل،لا نعانى منها فى الوقت الحاضر؟ .كلا للأسف. والآن نطرح سؤالاً : لماذا لم تعد الكتب والأفلام، التى خرجت منذ أكثر من أربعين عاماً، وسلطت الضوء على هذه المشاكل ، و كشفتها وفضحتها، لماذا لم تعد تقنعنا اليوم ، بينما نجد أن فيلم ( العصر الحديث )، مازال ولحد الآن مقنعاً، ومحتفظا بنضارته ؟!.ربما تكون الإجابة ببساطة، أن السر يكمن فى أن شارلى شابلن ، فنان عبقرى ،غير أن هذه الإجابة وحدها ،لا تفسر لنا أى شئ بالمرة ..
لنشرح الأمر إذن..
يلتقى شارلى فى الفيلم بالبنت، وبفضل بطاقة التزكية، التى منحها لها مدير السجن ،يحصل شارلي على عمل، كحارس ليلى، فى مخزن تجارى كبير، وعندما ينتهى العمل فى المخزن، يفتح شارلى الباب لصديقته ، فتدلف إلى الداخل،ويكون أول ما يفعله،هو أن يقدم إليها وجبة طعام جيدة، فى كافتيريا المخزن، ثم يصعدان إلى قسم الملابس، وتلبس البنت فستاناً من فساتين السهرة،وتتعطر بأطيب العطور، وتلف حول عنقها معطفاً من الفراء، مثل الفتيات البرجوازيات، من بنات الأسر الغنية..
نحن نعرف أن أحلام شارلى ، لا تختلف كثيراً عن أحلام صاحبته ، فهو أيضا يطمح إلى حياة برجوازية هنيئة،وفقا للنمط الرأسمالى.يحلم ببيت صغير،وعمل، وراتب مضمون، وتبقى المرأة فى مكانها، داخل المطبخ،لتعدله وجبة الفطور،التى يتناولها قبل أن يدخن سيجاره، وهو يطالع جريدته،وبعدها يخرج،ويتوجه مباشرة إلى عمله.إنه حلم بطلين، من أبطال “حضارة الاستهلاك” التي نعيشها الآن، وهو الشييء الذي يجعل.من هذا الفيلم، مازال ولحد الآن، محتفظا بنضارته.. ) ..
مورافيا يكتب عن فيلم ( شلالات نياجرا ) بطولة مارلين مونرو :
(.. ذهبت لمشاهدة فيلم ” شلالات نياجارا ” من إخراج الأميركى هنرى هاثاواى .إنتاج، 1953 وهو الوحيد المعروض حاليا فى روما، لمارلين مونرو،لأكتشف سر هذه الأسطورة،أسطورة النجمة التى انتحرت، منذ زمن، بعد أن تناولت جرعة كبيرة من أقراص النيمبوتال المنومة،ومازالت الجرائد والمجلات، تلهج بالثناء عليها، كملكة الحسن والجمال ،التى اختفت عن عالمنا، وإلى الأبد، ولم يستطع الزمن حتى الأن أن يعمل عمله، فى الشهرة التى حصدتها ،فى حياتها ، وجعلت منها أسطورة..
فيلم “شلالات نياغارا ” ينتمى إلى نوع ” الفيلم البوليسي”، وتحول بمرور الزمن، إلى فيلم فكاهى،يناقش موضوع الغيرة، والخيانة،متخذاً من شلالات نياجرا المعروفة، ديكوراً وخلفية له، ومن الأهمية أن نلاحظ هنا، أن مارلين لا تلعب فيه دوراً رئيسيا ،كبطلة مطلقة ، فالفيلم من إنتاج العام 1953 ، وهى السنة التى بدأ فيها التعامل مع مارلين ،كموضوع للجنس .الممثل جوزف كوتون،بطل الفيلم ، ممثل بائس،وهو هنا بالذات، مجرد صفر على الشمال، والدليل على ذلك ،أنها تختفى من الفيلم، قبل انتهائه بثلاثة أرباع الساعة ، وبالرغم من ذلك ، يستمر الفيلم فى طريقه، نحو الكارثة، إلى أن يصل إلى نهايته التعسة..
هذا الفيلم عندما تنتهى من مشاهدته ، سوف يتبخر تماما من ذهنك،ولن تتبقى منه سوى مجموعة من الصور الخالدة لمارلين مونرو..
لكن حذار، أنا لا أعنى هنا بالصورالمتحركة،بل أعنى الصور الثابتة لمارلين فى الفيلم.لا أقصد تمثيل مارلين وأدائها،بل أقصد صورة مارلين فى الفيلم، التى لا تختلف كثيراً عن الصور، التى نراها فى روزنامة أو نتيجة الحائط ، ونجد فيه صورا لمارين في الفراش، و مارلين ترتدى ثوباً من الساتان ، ومارلين فى الحمام ،و مارلين فى قسم الشرطة.هذا الشئ الذى يجعل مارلين، تحتل الشاشة العريضة، أعني هذا الحضور المتألق، لهذه النجمة الأسطورة ، لا علاقة له البتة ،لا بموهبتها فى التمثيل ، ولا بما يطلق عليه، بالجاذبية الجنسية..
سحر مارلين هذا، يكمن وحده فى صورتها .الشئ ينبع من ذاته ، من مارلين نفسها . هذا الشئ اسمه فقط : مارلين على الشاشة !! ..
قد يكون مفتاح سر مارلين، وأسطورتها، فى الطريقة التى تضحك بها مارلين، فى لحظة تظهر مارلين على الشاشة، غافية ساهية، وشاردة الذهن . تنسى مارلين أنها تمثل، وتتطلع إلينا ،من قلب الشاشة ، كما لو كانت تتطلع إلينا، وهى ترقد على فراش الموت، وقد تسللنا إلى غرفتها خلسة . وفجأة نكتشف وجه مارلين البرئ ، وسحر مارلين الخفى، فى العينين الكبيرتين ..
نظرة مارلين هذه ،الخالية من كل لهو وإغراء،هى نظرة صريحة وواضحة، تعكس كل ما فى هذا العالم من براءة، فى مواجهة الحب … والثقافة … والمجتمع … والأفكار …. وعلم النفس !
نظرة تعكس بإختصار ، نظرة إنسان خائف، منزعج ومرعوب، مثل طفل يتيم، ضل طريقه فى قلب غابة مظلمة وموحشة !. مارلين تخشى على نفسها، من براءتها، هذه البراءة فى مواجهة أى شئ، وكل الأشياء.. تضحك مارلين ، نعم تضحك فقط ، لكى تغطى هذه البراءة،وتحاول أن تخفيها بعناية عن الأنظار..
أسطورة مارلين فى نهاية المطاف، هى أسطورة ” بنت الشعب “، فى حضارة صناعية، تضعها على الهامش،برغم تواضع مارلين ، وقلبها العامر، بكل ما هو طيب وخير من النوايا ..
مأساة مارلين، أنها لم تفهم، أن مفتاح الثقافة اليوم ،هو التمرد ، والمؤسف حقا أنها لم تتنبه لهذا الأمر، إلا قبل نهايتها المحتومة، بوقت قصير..
عندئذ فقط ، أدركت مارلين أنها مهما ضحكت، فلن تستطيع أبداً ،أن تخفى ” سذاجة مارلين” فى مواجهة العالم ، ولم يكن هناك خلاص ، إن كان ثمة خلاص، على الإطلاق ، إلا بالانتحار..
انتحرت مارلين، لتعاقب مارلين التى خضعت، بدلاً من أن تقاوم وتتمرد . وقد كان انتحار مارلين، كعقاب على الامتثال والخضوع للمجتمع، هو الذي جعل منها “أسطورة ” فذة ، من أساطير السينما .. فى عصرنا ..
يقلم
صلاح هاشم .باريس
صلاح هاشم مصطفى كاتب وقاص وناقد سينمائي مصري مقيم في باريس.فرنسا
***
عن جريدة ” القاهرة ” – العدد 1219 – الصادر بتاريخ 28 نوفمبر 2023