السينما في مسرح الثورة. ” أول خطوة “فيلم تسجيلي عن أخطر 18 يوما في ميدان التحرير بقلم الناقد السينمائي كمال القاضي
«أول خطوة» عنوان مثير وغامض يحتاج إلى إجابة عن سؤال مهم: أول خطوة نحو ماذا؟ وفي أي اتجاه تكون تلك الخطوة، وما يمكن أن يعقبها من خطوات تالية؟..
العنوان لفيلم جديد عن ثورة «25 يناير» صوره وأخرجه الكاتب والناقد والمخرج السينمائي صلاح هاشم المصري المقيم في العاصمة الفرنسية باريس،و لا يطرح فيه مفاهيم وأيدلوجيات، ولا يقدم تحليلا سياسيا عن الأسباب والنتائج والمعطيات والبراهين..
هو فقط يسجل بالصوت والصورة وقائع الأيام الأولى للثورة المصرية قبل تنحي الرئيس الأسبق عن السلطة، ويوثق لحظات حرجة ، وضع فيها النظام بضغط من جموع الملايين، التي نزلت الميادين – ليس في القاهرة فحسب – ولكن في ربوع مصر-
لكنه في فيلمه «أول خطوة» يتخذ من “ميدان التحرير” المكان المركزي للثورة، مسرحا للعرض..كانت الصور العامة للجماهير هي نقطة البداية للتعبير عن الحدث الجلل، قبل الدخول في التفاصيل، ولعلها الصورة الأغنى عن أي تفسير، فالناس في الفيلم على قلب رجل واحد يرفعون لافتات وشعارات متفق عليها ضمنا ، ويهتفون «الشعب يريد اسقاط النظام» في إعلان صريح وواضح أن سقف المطالبات قد وصل إلى ذروته، وأنه لا تنازل عن تنحي الرئيس، هكذا تشي الصورة التسجيلية، التي لا ريب فيها، حيث يكمن المعنى كله في المطلب الشعبي..
الأهم أن ذاك وفي الخلفية تأتي الإشارات والدلالات، يحركها صلاح هاشم أو يتحرك معها لتكون في بؤرة العدسة، فنرى صور العصابة التي كانت تحكم البلاد تحت مظلة الحزب الوطني، موصومة بعلامة «أكس»، دليلا على الرفض والنبذ ، والرغبة في زوال الوجوه التي ظلت جاثمة على صدر مصر لثلاثين عاما، كانت كفيلة بأن تأتي النهاية علي النحو الذي جاءت عليه ، فلا مناص من الرحيل.. ولا تفاوض على حقوق الشعب الذي خرج منتفضا ويأبى الرجوع..
على مدار نصف ساعة هي زمن الفيلم ، برزت مكونات الصورة السينمائية التسجيلية في كادرات، أعادت إلى المشاهد طزاجة الحدث، وبعثت من جديد روح النضال في الأيام الثمانية عشر الأولى، من دون ثرثرةـ أو محاولة للتفسير، أو التمييز بين فئات الشعب والفصائل السياسية، وفي تصاعد سريع ومتوال، وبإيقاع بنذر بسقوط النظام المستبد، وانتصار الإرادة الشعبية..
حملت الصورة الكثير من دلائل وإمارات تحقيق الهدف، وبات هدير الملايين في ميدان التحرير، هو الصوت الذي يعلو فوق صوت معركة القفز على الحواجز، بين شعب خرج ولم يعد ، ونظام لا يزال يساوم ويراود ويستجدي، عساه يظل باقيا ولو لأمد قصير…
وتطوف الكاميرا في أرجاء الميدان، فنطالع الثوار وقد اعتلوا المنصات، وانطلقت حناجرهم بعبارات التعضيد والتحفيز على الاستمرار في تظاهراتهم، بينما تشكل جموع الشعب أشكالا هندسية على الأرض، في اتساق وتنظيم يرسم خريطة الطريق المؤدي للتحرر من فاشية الطغاة..
وبين الرؤية المصرية والهتافات الثورية تتنامى الأغنيات، ويصدح النغم على أوتار الآلات، لكن المخرج ينتقي ما يريح أذنه، ويطرب وجدانه، فيجعل من أغنية «حلوة يا بلدي» للمطربة العالمية الراحلة داليدا البطولة، تعبيرا عن إحساسه الخاص، ورحلة السفر التي قطعها من باريس للقاهرة مهرولا، للمشاركة في الثورة ، وداعما لها، ومستغرقا فيها كحلم، حلم كان بالأمس مستحيلا.. وبات اليوم واقعا حيا..وفي مشوار الكامير،ا بذهابها وإيابها بين جوانب الميدان، وصفوف الثوار، نلمح بعضا من المصابين يلوحون بعلامة النصر، إيذانا بنهاية الإستبداد، وسقوط رموزه..
ونسمع عبارات التحدي والإصرار، والتوق إلى إقامة دولة قوية على أسس عادلة، وتصعد الكاميرا مرتفعة إلى أعلى، فنرى السماء صافية، كأنها مناجاة الله لإتمام النصر..
وفي لقطة تالية وسريعة، تأتي الإشارة عبر حوار يجريه المخرج في عجالة مع أحد المراسلين الأجانب، حيث يؤكد الرجل، أنه قد حان الوقت لمصر أن تصبح دولة عظمى، في تعاطف شديد وتأييد للثورة والثوار، وفي مشهد النهاية، يأتي نبأ التنحي عن السلطة في بيان عمر سليمان الشهير، تتمثل الصورة الوثائقية بأفراح المصريين، كرد فعل لنجاح ثورتهم، وهنا تنزل تترات النهاية ،على الفيلم الأخير لثورة يناير، «أول خطوة”..
ويبقى العنوان مفتوحا يقبل التأويل، فربما يفيد أنها الخطوة الأولى نحو الإستقرار، وهو المعنى الدلالي الأقرب للرؤية، والقصد، والمعطيات..
الناقد السينمائي كمال القاضي
جريدة المصري اليوم
جريدة القاهرة