القاهرة عاصمة المهرجانات ثقافة سينمائية بلا صدى بقلم كمال القاضي. في ” مختارات سينما إيزيس “
في مثل هذا التوقيت من كل عام، تبدأ موجة المهرجانات والكرنفالات السينمائية والموسيقية وغيرها في التوالي، فقبل أن ينتهي مهرجان يكون الآخر قد بدأ، وتُبث الأخبار هنا وهناك، وتعمل الآلة الدعائية على الترويج للتظاهرات الفنية المُعتبرة، وضيوفها من النجوم العالميين وكبار الشخصيات العامة، فمن الجونة إلى الإسكندرية تتراوح مسيرات الصحافيين والموظفين والممثلين بين الذهاب والإياب، لتتزين الصورة السينمائية، ويبدو الواقع الثقافي والإبداعي أجمل وألطف، حيث لا تزال أجواء مهرجان الموسيقى العربية الذي انتهت فعالياته قبل أيام باقية ومؤثرة، وشاهدة على حيوية المشهد الثقافي، بغض النظر عن التفاصيل والكواليس، وما يمكن أن يكون أكثر دلالة على الأزمة الحقيقية التي يعيشها المثقف والمبدع خارج دائرة الصوت والضوء والزهو بالمنجز الاحتفالي الناجح بمقاييس الفرجة وليس بمقاييس الأثر الفعلي لجوهر تلك المهرجانات.
المدعوون لمهرجان الإسكندرية السينمائي، هم أنفسهم الذين تصدروا المشهد الاحتفالي في مهرجان الجونة، وهم أيضاً من ينتظرون الدعاوى من المهرجانات الأخرى، أما مسألة العقوبات والمقاطعات وما شابه من لغو الكلام فلا أثر له بعد انتهاء الاحتفال في القرية السياحية وعودة الظافرين من رحلة الاستجمام الرائعة.
منذ نحو ستة عشر عاماً تقريباً أقام معهد العالم العربي في العاصمة الفرنسية احتفالية سينمائية كبرى لأفلام كليوباترا أعظم ملكات مصر القديمة، وقد عنيت الاحتفالية الثقافية السياحية بعرض عدد من الأفلام التي تناولت حياة الملكة المصرية، وكان من بينها فيلم «كليوباترا» لجوزيف ليوما مكفيتش إنتاج عام 1962 وقد استغرق عرضه 4 ساعات كاملة ولعبت فيه دور البطولة النجمة العالمية إليزابيث تايلور والنجم الكبير ريتشارد بيركوف.
وللأسف الشديد أن الهرولة في اتجاه تنمية العلاقات الضعيفة وتقويتها يؤدي في أغلب الحالات إلى نتائج عكسية، كما أن استخدام القوة الناعمة من غير دعائم أخرى أكثر قوة تقيم للعلاقة الثنائية وزناً وتؤكد الندية بين الدولتين المتعاونتين في المجال الثقافي، أمر محسوب بالسلب على الثقافة الإقليمية الساعية للتأييد من قبل الدول الكبرى.
وأحدثت الاحتفالية السينمائية الدولية الكبرى في حينها دوياً إعلامياً واسع الصدى، وسُجلت ضمن انتصارات وفتوحات إدارة العلاقات الثقافية الخارجية في وزارة الثقافة المصرية، وكتب عنها الكاتب الصحافي المصري المُقيم في باريس، صلاح هاشم ما يُثير الإعجاب بأهمية السينما ودورها التنويري المهم، وهو كلام صحيح إلى حد كبير، لكن لأن الشيء بالشيء يُذكر، توجب الأمر الإشارة في هذا السياق إلى الأزمة التي حدثت نتيجة الإساءة إلى سيدنا محمد «صلى الله عليه وسلم» ونشر الصور المعادية للإسلام، وما ورد على لسان ماكرون من عبارات غير لائقة، استفزت الشعوب العربية والإسلامية، ودعت إلى الاحتجاج والرفض للخطاب العنصري المعادي، وهنا كان لابد من الوقوف أمام الاحتفالات السينمائية الجوفاء المُفرغة من المحتوى الحقيقي وجدوى الاعتماد عليها بشكل أساسي، لتصدير آيات التحضر والتقدم والرفعة من دون أن تكون هناك جهود واقعية مبذولة لاتفاق المعنى مع الشكل، فلو أن هناك مردود فعلي لما يُسمى بالمهرجانات الدولية والعالمية التي يُنفق عليها بالملايين منذ عقود، ما كانت الصورة المغلوطة للإسلام، بحسب ما يتردد تصل لأولئك المتربصين المعادين العنصريين.
أما وأن المستهدف من البروباغندا الإعلامية لا يؤثر من قريب أو بعيد في تغيير المفاهيم وتصحيح الصورة الدينية والثقافية والاجتماعية، فلا حاجة إذن للمماحكة في الثقافات الأخرى واستخدامها كغطاء أو رابط لعلاقات واهية بيننا وبين دول وجمهوريات متعالية، لا ترغب في رؤيتنا ولا رؤية إبداعنا المصري والعربي، غير أنها بالكاد تسمح بهامش دبلوماسي ضيق للتواصل في حدوده المُقننة للغاية.
وللأسف الشديد أن الهرولة في اتجاه تنمية العلاقات الضعيفة وتقويتها يؤدي في أغلب الحالات إلى نتائج عكسية، كما أن استخدام القوة الناعمة من غير دعائم أخرى أكثر قوة تقيم للعلاقة الثنائية وزناً وتؤكد الندية بين الدولتين المتعاونتين في المجال الثقافي، أمر محسوب بالسلب على الثقافة الإقليمية الساعية للتأييد من قبل الدول الكبرى.
وفي كتابة «ما هي السينما؟» يؤكد أندريه بازان، وفق ما ذكره الناقد المصري صلاح هاشم في كتابه، «السينما الفرنسية.. تخليص الإبريز في سينما باريس» أن كل الفنون هي في الأصل عقدة مومياء، مشيراً إلى حاجة كل الفنون سواء الفن التشكيلي أو السينما أو غيرهما إلى قوة إبداعية لمقاومة الفناء، واستشهد على ذلك بفن التحنيط عند الفراعنة، فالمصري القديم كان يعشق الحياة، فلجأ إلى التحنيط ليمكنه من البقاء والخلود بحسب اعتقاده. ولهذا جاءت السينما كحلقة وسيطة لتعبر عن حاجة الإنسان المعاصر للتواصل والوجود والتفاعل، لكن لم يذكر أي من بازان أو الناقل عنه صلاح هاشم في كتابيهما، سواء الأول الصادر عام 1945 أو الثاني الصادر في عام 2004 أن المهرجانات هي نواة التواصل الوحيدة بين الشعوب، بل المؤكد هو وجود الإبداع كصناعة قبل وجود التظاهرات الثقافية كانعكاس للإبداع بمستواه وشكله وقيمته.
كمال القاضي
( عن جريدة القدس العربي بتاريخ 11 نوفمبر 2020
كمال القاضي كاتب وناقد سينمائي مصري مقيم في القاهرة. مصر