فيلم ” الأعشاب الجافة ” لنوري بيلغ شيلان : تحفة تشيكوف التركي التي تتسامق بعظمته وفنه بقلم صلاح هاشم
شاشة باريس 2023
فيلم “الأعشاب الجافة ” لنوري بيلغ شيلان : تحفة تشيكوف التركي التي تتسامق بعظمته وفنه
الممثلة التركية ميرف ديزار .جائزة أفضل ممثلة في مسابقة مهرجان ” كان ” 76
من أهم الأفلام التي خرجت للعرض حديثا في باريس فيلم ” الأعشاب الجافة ” للمخرج التركي الكبير نوري بيلج شيلان ( من مواليد 1958وحقق حتى الآن 8 افلام روائية)، الذي يستغرق عرضه أكثر من ثلاث ساعات ، والذي شارك في مسابقة مهرجان 76 الرسمية، وفقط حصلت ممثلته على جائزة أفضل ممثلة، وكان الفيلم يستحق في رأيي، نيل جائزة السعفة الذهبية – التي ذهبت الى فيلم فرنسي متواضع جدا- بل وكل جوائز المهرجان..
وكنت شاهدت الفيلم في المهرجان وهو يعرض على شاشة قاعة لوميير الكبرى، وخرجت بعد نهاية ” الرحلة ” الطويلة التي قطعتها مع الفيلم، وقد بدا لي كما لوكان طبق طائرمحلق ، وأنا جد مسحور،بعظمته وفنه..لماذا ؟
عودة لإكتشاف الوطن والمكان للمرة الأولى
لأنه ومثل كل “الأفلام الواقعية الإنسانية “العظيمة، كما في مسرحيات الكاتب الروسي العظيم أنطون تشيكوف، وشخصياتها المعذبة اليائسة الحالمة، وكم هي جد نادرة الآن – أعني الأفلام والشخصيات في عصر الثورة الرقمية والذكاء الإصطناعي،وحضارات الإستهلاك الكبرى وتسليع السينما – تكمن أهميتها في أنها تضعنا أمام مرآة “الذات”، لنتعرف عليها من جديد..
وتجعلنا، ومن خلال كل رحلة نقطعها مع كل فيلم، نعود الى “المكان” الذي إنطلقنا منه – لنعيد التأمل والتفكير فيه وإستكشافه، كما يقول الشاعر الإنجليزي تي إس إليوت صاحب ” الأرض الخراب”وهكذا تقربنا رحلتنا في ومع الفيلم..تقربنا أكثر من إنسانيتنا..
ولأن فيلم ” الأعشاب الجافة ” هو ” تحفة “- MASTERPIECE – سينمائية ، يصل فيها تشيكوف التركي نوري بيلغ شيلان، الى قمة فنه، ويتجاوزبعمله هذا – بمنحى تأملي صوفي – ما هو فيلم سينما..
ليقترب أكثر من روح الشعر، ويجعل ” الأعشاب الجافة ” قصيدة “، من قصائد الشاعر الأمريكي الكبير والت ويتمان ،صاحب ” أوراق العشب “، أو شاعر الهند العظيم رابندرانات طاغور،ويجعلنا بفيلمه ، نتصالح مع أنفسنا والعالم..
يحكي الفيلم عن رحلة مع مدرس رسم تركي يدعى سامت، انتقل للعمل في مدرسة إعدادية في قرية نائية منسية تغطيها الثلوج طوال العام،في منطقة جبال الأناضول في تركيا، وهو متشائم ويائس وساخط على حظه السييء ،الذي جعله يكره حياته ومن فيها، وينتظر على أحر من الجمر، أن يتم نقله الى مدرسة إعدادية للصغار في العاصمة الكبيرة إسطنبول..
الوجود والعدم
ومنذ أول مشهد في الفيلم، حين تظهر نقطة سوداء صغيرة وسط الثلوج التي تملأ اللقطة ،وهي تتقدم بإتجاهنا، وتجاهد وتتعثر في سيرها، وتكبر النقطة، وتتسع الرؤية لنكتشف أنها إنسان،يسامت مدرس الرسم، وهو ليس إلا مجرد ” نقطة ” صغيرة وضئيلة و تافهة – مثلنا جميعا – وسط “محيط “هذه الطبيعة الساحرة الجبارة التي تفرض حضورها في المكان، وتظهر كشخصية في الفيلم ،يخضع لسيادتها وجبروتها وتقلباتها الطقسية الجميع، في تلك القرية النائية المنعزلة، في منطقة جبال الأناضول..
يعيش سامت – في الاربعين من عمره – مع زميله المدرس في نفس المدرسة ،ويسكنان ويتجولان معا ،ويعيشان إيقاع نلك الحياة البطيئة الرتيبة المكررة، في تلك القرية الصغيرة المنعزلة النائية ،ويتبادلان الحديث حول أحلامهما، وطموحاتهماوذكرياتهما في الماضي عن التدريس للصغار..
ونتجول مع سامت البطل وزميله، حين يرحل في المناطق القريبة من القرية ليصور بكاميرته بعض الآثار المتناثرة – هنا وهناك في الأناضول شرق تركيا- لحضارت قديمة،عاشت في المكان، ثم إنقضى وقتها وزمنها وإندثرت.
وبسرعة ندخل في لحم الفيلم الذي يجعلنا نعيش تجربة حياة كاملة، لمثقف تركي أناني، ولا بطل (ANT- IHERO ) أو مضاد لصورة البطل، كما عهدناها في الأفلام ، وعدمي وكاره لكل شييء، بعد أن فقد الإيمان بكل شييء، وتعب من الأمل، في أن تتغير حياته المليئة بالإخفاقات، وعذابات لحظات الإنتظار الطويلة، التي لايحدث فيها أي شييء بالمرة، وتقتل الروح..
فيلم ” الأعشاب الجافة ” لايحكي عن حكاية لها بداية ووسط ونهاية، بل يحكي عموما عن الزمن، خيبة الأمل وعذابات الإنتظار، في الفراغ ، في عمل سينمائي بديع ، وأشبه مايكون ببحث عن “الخلاص”، والرغبة في الإنعتاق من أسر الجاذبية الأرضية – بروميثيوس طليقا- ..
ومؤسس سينمائيا وفنيا، على لقاءات إنسانية، واحاديث وحوارات فلسفية لاتنتهي. وبخاصة عندما تتغير حياة سامت تماما، عندما يتعرف مع زميله على شخصية مدرّسة كردية شابة مناضلة – فقدت إحدي ساقيها في حادث إرهابي – فيغرمان بها ، ويتنافسان على حبها..
ثم وبمرور الوقت ومن خلال لقاءات سامت بها ، والحوارات التي تدور بينهما ، وبخاصة في المشهد المحوري الذي يتاسس عليه الفيلم -MASTER SCENE – عندما تدعوهما للعشاء في منزلها، وينفرد بها سامت وحده،فتنتشله من الغرق والإستسلام لحياة اليأس والبؤس والعدم، ولن نقول كيف، حتى لانقطع عليكم متعة مشاهدة الفيلم الرائع وتطور أحداثه..
في فيلم ” سبات شتوي ” الذي حصل به نوري بيلغ شيلان عام 2014 علي سعفة ” كان ” الذهبية، إعتمد نوري بيلغ شيلان قصة قصيرة لتشيكوف، إسمها ” الزوجة “، لصنع فيلمه، وقد كان – كما يقول نوري – تحديا صعبا، أن ينجز فيلما يعتمد على حوارت فلسفية، فالسينما كما هو معروف،تنبذ الثقل الفكري، تتحاشاه وتتجنبه..
شيلان وتأثره بالأدب الروسي
غير أن فلسفة نوري او تشيكوف التركي في الإخراج وصنع الأفلام ،التي يظهر فيها جليا تأثره بأعمال الأدب الروسي، ورواده الذين يتعمقون في سبر أغوار النفس البشرية ،من أمثال تشيكوف بقصصه القصيرة ومسرحياته مثل” الخال فانيا ” ، ودويستويفسكي ورواياته مثل ” الإخوة كرامازوف” و” الجريمة والعقاب “..
كانت تعتمد ومنذ البداية على السرديات الحكائية البسيطة، كما في فيلم ” سبات شتوي “، من خلال إعادة تجسيد شخصيات تشيكوف، لتتأقلم مع أجواء الريف التركي، وهو يصور تفاعلاتها مع تلك الحياة الرتيبة في الريف ،والدوران في حلقة مفرغة، وماتتسم به في إطار تلك المجتمعات الريفية المحافظة في تركيا، من إخفاقات وصراع طبقي وعجز وقمع وفقر، وإختلاف في الأفكار والمواقف والقناعات والتي تبرز هنا في المشهد المحوري – الموعد على العشاء – في فيلم ” الأعشاب الجافة”ونخرج منها ونحن أكثر ذكاء وفطنة وحكمة، تجاه أنفسنا، والآخر، والعالم..
كما كانت فلسفة نوري في الإخراج، تعتمد ايضا لاستكشاف المشاكل و المسافات بين الأشخاص، من خلال تلك الحوارات – كما في مباريات لعبة التنس أو الملاكمة -التي تدور بينهم، على تقنيات بعينها، مثل لحظات الصمت الطويلة – الصمت كصورة لخيبة الأمل والتردد واليأس، لكنه يستطيع أيضا أن ينقل لنا أيضا أحاسيس ومشاعر الشخصية في الفيلم، من دون أن تكون بحاجة الى كلام – وتغيير زوايا اللقطة بإمتياز، أثناء تصوير مشاهد الحوارات الطويلة، حتى لايتسسل الملل الى المشاهد، حتى يمكننا القول بأن عظمة وسحر فيلم ” الأعشاب الجافة ” ،ما كان لها أن تتحقق، إلا من خلال ” لحظات الصمت” والفراغ هذه التي توجد بين لقطة ولقطة ، ومشهد ومشهد، وحوار.
سينما تأملية فلسفية، تتسامق بعظمتها وفنها وتجعلنا نتصالح مع أنفسنا والعالم
صلاح هاشم
صلاح هاشم مصطفى كاتب وناقد ومخرج مصري مقيم في باريس .مؤسس موقع (سينما إيزيس ) عام 2005 في باريس.فرنسا ومؤسس مهرجان ( جاز وأفلام ) في مصر.2015
–
عن جريدة ” القاهرة ” – رئيس التحرير طارق رضوان – العدد 1205 الصادر بتاريخ 22 أغسطس 2023