فيلم ” بنات اليوم “، قبل أن ترتدي مصر الحجاب، ينير الشاشة . بقلم يسري حسين
سجل بداية شهر يناير عام ١٩٥٧ عرض فيلم عبد الحليم حافظ ( بتات اليوم) اخراج هنري بركات، وبطولة ماجدة وآمال فريد وأحمد رمزي، وكريمان التي تجسد الفتاة العصرية، في زمن تألق الطبقة الوسطى المصرية وإزدهارها، وثقتها بنفسها والعالم من حولها.
تتحدث كريمان ( بثينة) في الفيلم بصراحة، إنها من جيل مختلف عن زمن أمها التي ترتدي ما يشبه الحجاب ، الذي ساد في عصر الظلام العثماني، وتحررت منه النساء مع ثورة ١٩١٩ ،وقيام هدى شعراوي بإلقاء هذا الحجاب على الأرض ،اذ يمثل القيد والمهانة، وسيطرة استعمار على العقول.
شخصية ( بثينة) متحررة من حجاب العصر الوسيط ،وملابسها تعبر عن فتاة مصرية حديثة ، تعيش في ضاحية المعادي ،ورغم طلاقهامن زوجها ،فأن إرادتها وفهم الحياة طبقا لهذا الزمن، لم تتغير ،وإن كانت الأم تخشى عليها من تلك الحرية ،ويوافقها سراج منير ،والد ماجدة، التي تفهم الحرية بأنضباط دون تهور، بينما شقيقتها الأصغر منها ،مندفعة نحو حداثة أوروبية بسماع الموسيقى، والذهاب للنادي، والرقص مع شباب في مثل سنها.
هذا الفيلم المصري الجميل، يناقش موضوع حرية البنات، في مجتمع الطبقة الوسطى المصرية ،وهي في قمة نجاحها، وثقتها بنفسها ،قبل انكسارات أطاحت بتلك الثقة ،عندما تم تجريدها من طموحات السوق المفتوح ،والمناخ شبه الليبرالي، الذي سمح بتطور فئات اجتماعية، عززت قدراتها بعلم وعقل منفتح .
سراج منير، طبيب ناجح، يعيش حياة عصرية، ويشجع بناته على اتخاذ القرار، ويراقب من بعيد ،مثلما فعلت أسر ذلك الزمان ،حتى في حي السيدة زينب، كان هذا النمط حاضرا للأب المنفتح الحديث، و بجواره الآخر المحافظ.
محافظة تلك الأيام، لم تسقط في صرامة التشدد الديني، الذي فرض ثقافته وتقاليده ،اذ وجود تنور إجتماعي واجانب، يسمح بحرية واضحة في الفيلم، اذ تذهب ماجدة لمدرسة شقيقتها الأصغر ،وهي راكبة دراجة هوائية ،وقد التقيت مذيعة مصرية في لندن، وتحدثت مها عن بنات المعادي، وهن يتجولن بالدراجات الهوائية ، فلم تصدق كلامها ،لأن الإحوال تبدلت بطريقة مخيفة ومحزنة.
الطبقة الوسطى المصرية ،يسجل الفيلم ازدهارها ،فالطبيب يملك فبلا جميلة، وبناته يعزفن على البيانو، الذي يحتل مكانه مهمة في المنزل ،والأب يذهب مع بناته للنادي ، ويتناول النبيذ مثل ابناء طبقته ،اذ لم تكن ثقافة التحريم وصلت مصر بعد.
يتناول الفيلم قضية الحرية والحدود المسموح بها ،ويتفاخر الأب بتلك الحرية، اذ تمنع الوقوع في الخطأ ،لأن الأحرار يملكون قدرة الإختيار والتمييز، بين الصحيح والخطأ ،وهذ ما تعلمته آمال فريد ،التي اعتقدت بحرية مطلقة، لكن خطأ صديقتها ( بثينة) دفعها للتراجع.
يأتي للفيلم محمد عبد الوهاب ،مع مؤلف الملاكي حسين السيد، ليصنعا اجمل الأغاني لعبد الحليم حافظ ،الذي صنع نجوميته في هذا العمل الجميل .
السينما المصرية ،عنوان النهضة ،تتقدم في ظل ازدهار مصر ،وتتراجع عندما تحاصرها سحب الظلام والكساد، وانهيار التفكير العقلي.
تاريخ السينما المصرية هو كتاب التقدم والتراجع إلى الخلف ،وفيلم( بنات اليوم) عن زمن مختلف ،لم يبق منه سوى الذكريات ،فالطبيب متحضر ومدني يعلم بناته فضل الحرية، في تكوين الفرد وسلوكياته.
كلية الطب في عصر ( بنات اليوم) تفرز شخصيات مدنية ،لأن الطب نتيجة للتقدم العلمي، وانهيار ثقافة الخرافات.
في هذا الزمن، لم تسيطر جماعات الثقافة الدينية السلفية على كليات الطب ،أم الآن، فقد تغلغلت ،وفرضت رؤيتها على أجيال جديدة ، من أطباء يشكلون كتائب التخلف، والمحافظة الأجتماعية الشرسة ،اذ انتشر النقاب بين طبيبات ،يتخرجن من كلية طب القاهرة ،التي تخرج منها رموز لليسار المصري، وتيارات ليبرالية مدنية مثل طبيب ( بنات اليوم)).
( المعادي) في الفيلم يسكنها مصريون متحررون من قيود العصر الوسيط ،يعيشون ثقافة زمانهم ،وقد تغيرت ( المعادي)، وخرج منها طبيب آخر يقتل البشر باسم الدين اسمه ايمن الظواهري، و تم تغيير نمط الحياة ،مما ادى لإنكسار الطبقة الوسطى ،وبعد أن كان الطبيب يحض بناته على حرية واعية ،أصبح الإنكفاء على الذات ،ورفض حقائق العلم ، سمة لطبقة ،كانت في سنوات سابقة، تنتج فنا ونمط عمارة ،وحياة مدنية مفتوحة.
لفت نظري في قراءة مذكرات برلنتي عبد الحميد ،تأنيب المشير عبد الحكيم عامر لثقافة، اكتسبتها من ظروف زمانها، ومعرفتها بماركسي مصري ، فتح عقلها على ثقافة إوروبية ،لم تعجب المشير ،الذي تهكم عليها لإنها لم تقرأ عن عدل عمر بن الخطاب.
وقفت أمام تلك الاعترافات، التي تشير لطبيعة حركة يوليو ،التي قادها ضباط صغار فغيرو الثقافة ،ووجدوا في الثقافة الدينية المحافظة مهربا لهم ،يمنحهم التميز.
حكام العصر الملكي ،كانوا على ثقافة إوروبية، ويسافرون لإوروبا ،وتأثروا بالغرب نتيجة تعليم وثقافة، انعكست على الفنون ونمط العمارة المصرية ،ويكفي تأمل وسط المدينة، الذي كان ينير بنمط حياة ،يعتمد على فن وانفتاح ،الآن ثقافة دينية سائدة ،تغلق الباب أمام اجتهادات الإنسان ،لإنه تلزمه بتفسير محدد، لا يشجع على الإجتهادات .
( بنات اليوم) ينير الشاشة، بأفكار جريئة، وموسيقى جميلة، وصوت عبد الحليم المعبر عن مصر جميلة ،تحب وتغني.. وواثقة من نفسها.
يسري حسين
محلل سياسي وناقد فني مصري مقيم في لندن