ملف صحفي لفيلم ” البحث عن رفاعة ” لصلاح هاشم

ملف صحفي لفيلم
” البحث عن رفاعة ” لصلاح هاشم،
بمناسية عرض الفيلم في ” بيت السناري التابع لمكتبة الأسكندرية العريقة يوم الأربعاء 22 يناير 6 مساء. يضم هذا الملف من إعداد مخرج الفبلم ، والمنشور على صفحته في الفيسبوك ،عددا من الفيديوهات، ومجموعة مقالات كتبت عن العمل، بقلم الأساتذة النقاد: د. صبحي شفيق – حكمت الحاج – عثمان تزغارت. كمال القاضي. ياسر محب. يسري حسين وغيرهم، ننشرها هنا في ماهو أشبه ما يكون بـ “فتح شهية” قبل مشاهدة الفيلم، ونبدأ بمقال الناقد والمخرج المصري والمعلم الأكبر د. صبحي شفيق الذي نشر في جريدة ” القاهرة ” الإسبوعية في شهر ديسمبر 2008 المقال التالي:
( 1 )
البحث عن رفاعة الطهطاوي
في شوارع باريس
فيلم رفاعة محاولة لإيقاظ أمة
بقلم
د.صبحي شفيق
الحديث عن فيلم عنوانه: «البحث عن رفاعة الطهطاوي» ليس حديثاً عن رفاعة الطهطاوي، بل عن فيلم أخرجه الناقد المصري صلاح هاشم، وصوره وقام بمونتاجه اللبناني سامي لمع، وأنتجته الناقدة الكويتية نجاح كرم.والعنوان يحمل دلالة الفيلم ويحدد نوعيته فنياً، فهو شكل خاص جداً من أشكال السينما الوثائقية، نقطة البدء في هذا النوع كما هي في أي بحث علمي: أننا نبدأ من الصفر، فالمنهج ديكارتي، أي لم جزئيات مبعثرة، وإخضاعها لمرشح أساسي، هو عين من وراء الكاميرا ، وعين الكاميرا نفسها، ثم تدريجياً تتراكم الجزئيات وتتبلور وهي تتراكم، ومع كل لحظة تتبلور فيها تحدث طفرة ما ، وتوالي هذه الطفرات هو السرد البصري السمعي هو الفيلم.والفيلم هو فيلم ثلاثة تضافرت جهودهم للقيام بهذا البحث، ومن هنا يلح سؤال: ما الذي يدفعهم، ونحن في عام 2008، إلي لم شذرات متناثرة في ذاكرة الأجيال الحالية عن واحد من رواد حركة التنوير في القرن قبل الماضي؟ لماذا؟
كلمة واحدة تحضرني، هي أساس النهضة، علي مر العصور التاريخي، إنها: «المجابهة».والمجابهة لا تحدث إلا في أعقاب صدمة، صدمة تهز وجدان جماعة إنسانية بأكملها، فمثلاً، ما يشاع عن دخول خيول بونابرت الأزهر، لو كان هذا صحيحاً، فلابد أن نتفض جميعاً وتتجمع قوانا، وفي أذهاننا يبرز سؤال: كيف يجرؤ جيش غزاة علي ركل مقدساتنا؟وهنا نعيد النظر إلي مالدينا من تراث، وما لدي «الآخر» من قوة وننتهي إلي ما كان يسمي: «البارودة» أي المدفع والبندقية
المدفع عندهم، وليس عندنا سوي هروات و«نابوت الخفير» أبهذا نحمي مقدساتنا؟سرعان ما يتحول شيوخ الأزهر أنفسهم إلي مفكرين: العطار، الشرقاوي، مثلاً، ثم بعدهما محمد عبده، وتدريجياً تنشأ ذاكرة جماعية جديدة وتبرز أجيال تواصل البحث عن هويتنا: في التراث الشفهي، في الشعر الجاهلي «طه حسين»، في المنهج العقلاني كبديل للاجتهاد الحدسي «العقاد»، في اقتحام أشكال جديدة من الإبداع الفني «توفيق الحكم»، ثم يتبلور كل هذا فيما نسميه بعصر التنوير، وعصر النهضة.وكلما عاد مخترعو الباروده ليدنسوا تراثنا، ويحولوا بلادنا إلي محطة خط تراجع في استراتيجية السيطرة علي الشرق الأوسط، كلما عاد نفس السؤال يلح علينا: كيف نستعيد قوانا الداخلية، كيف نستعيد هويتنا؟ انها مجابهة أخري معاصرة ،بدون هذه المجابهة نظل «توابع» علي محيط دائرة، مركزها ستاندرد أويل ومصانع السلاح الكبري، ومخرجو تمثيليات «الإرهاب الدولي»
البحث عن رفاعة جديد
البحث عن رفاعة جديد
فيلم صلاح هاشم وزميلاه، سامي ونجاح، ليس فيلماً عن رفاعة الطهطاوي ، بل عن البحث عن رفاعة الطهطاوي الجديد، رفاعة الطهطاوي الذي يفند اسطورة التكنولوجيا العليا، وما هي سوي رسوم تخطيطية «» بلاستيك والمونيوم ومكملات، وليست من المعجزات، بدليل أن كوريا وسنغافوره يصنعان السيارات والحاسبات الآلية
وربما دافع صلاح هاشم، صاحب هذا المشروع، وأيضاً دافع سامي لمع، هوانهما، في شبابها خاضا نفس تجربة الطهطاوي. من حي قلعة الكبش في حي السيدة زينب، ينطلق شاب مثقف، محب للسينما، تراه ينصت إلينا، يحيي حقي وسعد الدين توفيق وأحمد الحضري وفتحي فرج وغيرهم من مؤسسي نوادي السينما وقبلها جمعية الفيلم.كان ذلك في الستينيات، وكانت مصر قد وضعت برنامجاً قومياً، السينما تحتل مساحة كبيرة فيه، بدءاً من إنشاء معهد للسينما، ثم وحدة أفلام تجريبية لاستيعاب أول دفعة تتخرج في المعهد في 1963 ثم مجلة للدراسات بالسينما ثم 26 نادي سينما موزعة علي قصور الثقافة بالأقاليم، ثم إنتاج سينمائي يفتح الباب علي مصراعيه أمام شباب ذلك الوقت: خليل شوقي وحسين كمال وسعيد مرزوق، وبعدهم ممدوح شكري ومدكور ثابت، وعاطف الطيب وخيري بشارة وسمير سيف، والقائمة تطول، لكنني أذكر كل هذا لأن «كل هذا» كان في مخزون ذاكرة صلاح هاشم المؤلف الكامل لفيلم: «البحث عن رفاعة ».وعندما هاجم التتار ثقافتنا القومية، هاجرنا جميعاً تقريباً، وقد سبقنا صلاح هاشم، متجهاً إلي ما كان يسمي وقتذاك مدينة النورباريس.ابن قلعة الكبش تتفتح نظراته، ثم مداركه علي مجتمع آخر، فيه السينما فكر وعلم وتيارات مختلفة، ودراسات أكاديمية بالجامعات الفرنسية، تصل إلي مرحلة دكتوراة الدولة
مجابهة صلاح لعصر «التنوير السينمائي» ، عصر يموج بالحركات الداعية للتجديد، السينما الحرة في إنجلترا «أند رسون ومجموعته» سينما ما تحت الأرض في أمريكا «شيرلي كليرك وكاسافيتس ويوناس ميكاسي وغيرهم» الموجة الجديدة الفرنسية، بنظرية «سينما المؤلف» سينما نونو بالبرازيل، سينما أفريقية في بلاد لم تعرف الإنتاج السينمائي، كالسنغال والجزائر، مثلاً إلخ إلخ وسط هذا «الأتون» تفتحت ملكات صلاح هاشم.وتحدد نمط سلوكه، إنه لا يقلد ولن يكون «خواجة» بل ابن قلعة الكبش، وقد تطور فكر أبنائها ليصحبوا مفـــــــكرين ومهندسين وقضاه وأطباء إلخ إذا ما قالوا: «لا» وتحركت في نفوسهم نوازع المجابهة. هل يمكن أن يحدث هذا؟
محاولة ايقاظ أمة
مجابهة صلاح لعصر «التنوير السينمائي» ، عصر يموج بالحركات الداعية للتجديد، السينما الحرة في إنجلترا «أند رسون ومجموعته» سينما ما تحت الأرض في أمريكا «شيرلي كليرك وكاسافيتس ويوناس ميكاسي وغيرهم» الموجة الجديدة الفرنسية، بنظرية «سينما المؤلف» سينما نونو بالبرازيل، سينما أفريقية في بلاد لم تعرف الإنتاج السينمائي، كالسنغال والجزائر، مثلاً إلخ إلخ وسط هذا «الأتون» تفتحت ملكات صلاح هاشم.وتحدد نمط سلوكه، إنه لا يقلد ولن يكون «خواجة» بل ابن قلعة الكبش، وقد تطور فكر أبنائها ليصحبوا مفـــــــكرين ومهندسين وقضاه وأطباء إلخ إذا ما قالوا: «لا» وتحركت في نفوسهم نوازع المجابهة. هل يمكن أن يحدث هذا؟
محاولة ايقاظ أمة
الفيلم كله محاولة للإجابة عن هذا السؤال، محاولة لإيقاظ ذاكرة أمة درامياً، يلجأ مخرج الفيلم إلي ما يسميه رائد المسرح الملحمي: «برتولت بريشت» بتأثير التعبير، بمعني أنه يلغي عادة المشاهدة للأفلام التقليدية، تلك القائمة علي الإبهار وعلي انتزاعنا من واقعنا، وينشيء عادة جديدة، هي إننا أمام مخرج، ومصور، وهما يبحثان. يبحثان في الواقع المعاصر عن شخصية تفصلنا عها سنوات طويلة من الاستعمار والثورة والهزيمة ، ثم استعادة كياننا ، وإذا بنا أمام «فجوة»: امام الجامع الذي اختير إماما لبعثة عسكرية أرسلها محمد علي لتدرس في نفس المدرسة العليا التي درس فيها نابليون، كي يعودوا بنفس مكتسبه، ويتعلموا علي يد تلامذة أستاذ نابليون، البروفيسور مونج.
ولا أدري أهو من قبيل الصدفة، أن في نفس المكان الذي أقام فيه نابليون بيت خلف مدرسة السنية بالسيدة زينب وفي نفس المكان الذي أقام فيه مونج «» أول مجمع علمي في تاريخنا الحديث، في نفس المكان ينشأ مخرج هذا الفيلم؟
ولنعد إلي فيلم: «البحث عن رفاعة» هنا يتحقق التعبير في اختيار أماكن معمارها إسلامي ومملوكي، هي نفس الأماكن التي كانت مركز «التنوير» في عصر رفاعة حتي عصر إسماعيل، بينما من في هذه الأماكن قد تحولوا إلي «كم» بشري، أغلبهم يكتظ في مساكن أشبه بحيوانات المزارع الصناعية ، والهوة بين ماض وحاضر إذا ما ألغي السرد السينمائي المسافة بينها، يوصلنا إلي «تأثير الدهشة» البريشتي إلي تأثير الاستغراب ، وليس أبداً التغريب كما يصر البعض علي ترديده كيفما اتفق، بينما الأصل اللاتيني للكملة هو: «اجعله آخر، أي أطمس شخصيتة وارغمة علي وضع قناع يفرضه نظام ما ، كي يندمج الكل في هذا النظام.أسئلة يطرحها المخرج عليّ من هذه الأماكن. البعض يتجمع ذاكرته والبعض الأخري يبدي دهشته، وبين هؤلاء وهؤلاء تنبض أجيال جديدة بالحياة
أطفال يلعبون، طفلة تستسلم لإيقاع الموسيقي ، ورغم حجابها ترقص، أنماط بشرية متعدده هي: «مصر الآن»، هل تولد «مصر الغد» وسط كل هذا؟ هل تحدث انتفاضة فكرية، توصل نهضة عصر التنوير بنهضة الفكر الحديث: شبلي شميل، سلامة مرسي، طه حسين، إسماعيل مظهر، فرح أنطون، لتنتهي إلي فكر مصر المعاصرة؟
كل ما في الفيلم يوصي بأن الإجابة ستكون: «نعم»، رغم كل ما يفعله حاملو معاول هدم الهوية الثقافية ، للبلد التي علمت العالم كله كيف يفكر ويبدع ويخترق ويتحدي قوانين الطبيعة.صلاح هاشم مخرج فيلم ” البحث عن رفاعة ” إنتاج 2008
***
( 2 )
من الملف الصحفي لفيلم البحث عن رفاعة ( 2 )
فيلم البحث عن رفاعة وتدشين سينما الإرتجال
بقلم
حكمت الحاج
كاتب وشاعر وناقد عراقي
اموقع الحوار المتمدن-العدد: 2311 – 2008 / 6 / 13 – 09:48
المحور: الادب والفن
شهد مدرج ومسرح قاعة الخليلي في كلية الدراسات الآفروآسيوية المعروفة باسم (ساوس) بجامعة لندن مساء يوم التاسع من حزيران يونيو 2008 العرض الاول للفيلم التسجيلي الطويل (63 دقيقة) بعنوان البحث عن رفاعة للمخرج المصري المقيم بباريس صلاح هاشم، وذلك قبل ان ينطلق الفيلم للعرض فيما بعد في بعض المهرجانات العربية والعالمية، مثل مهرجان مونيبلييه للسينما المتوسطية في فرنسا هذا العام. وعقب عرض الفيلم تم اللقاء مع المخرج صحبة المصور اللبناني المقيم بكوبنهاغن سامي لمع أداره الدكتور صبري حافظ استاذ الادب العربي بالجامعة ، وبمشاركة الباحث د. أيمن الدسوقي من الكلية نفسها.
عرض لنا الفيلم رحلة ما بين باريس والقاهرة وأسيوط وطهطا بحثا عن ذاكرة الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي رائد نهضة مصر الحديثة ( من مواليد طهطا 1801-1873) والذي يلخص مشواره العلمي قصة مصر في القرنين الماضيين، حينما سافر مع أول بعثة تعليمية أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا لدراسة العلوم الحديثة فعاد منها لكي ينشر العلم والتعليم ويشارك في تأسيس الحداثة في مصر، وما تبقي من افكاره بخصوص العلم والتعليم، وحرية المرأة، والعلاقة بين الحاكم والمحكومين، والثقافة والعدل، وكل تلك الافكار التي جلبها معه من رحلته الي باريس عام 1826. كما تساءل الفيلم عن تلك الحدود التي استفادت منها مصر من تجربة الطهطاوي التي كانت بمثابة ثورة فكرية تنويرية اصيلة، لا في مصر فقط بل في جميع انحاء العالم العربي؟ كما بحث في المشاكل والمعوقات التي تحد في اطار الظروف الحالية التي تعيشها مجتمعاتنا العربية، من انطلاقتها من جديد، وبخاصة بعد حرب أمريكا بوش على العراق، وما نجم عن هذه الحرب من تأثيرات في مجتمعاتنا العربية في عصر العولمة.
ويعتبر الفيلم تتويجا لصداقة عمل وتعاون بين الكاتب والباحث والناقد السينمائي المصري صلاح هاشم مخرج الفيلم ، ومصور الفيلم الفنان اللبناني سامي لمع، ومنتجة الفيلم الاعلامية الكويتية نجاح كرم.
البحث عن رفاعة كان فيلما شجاعا وجريئا جدا. هو في ظاهره كما أشيع وسيشاع في الاعلام والاعلان عنه، فيلم عن رفاعة الطهطاوي وآثار فكره التنويري على مصر الحديثة في محيطها العربسلامي المتوسطي العالمثالي الافريقي الـ …الخ، لكنني رأيت في الفيلم بحثا عن صلاح هاشم القاهري المصراوي الفنان والقصاص ابن قلعة الكبش ووريث جيل الستينات وثورة الطلاب في العالم، وأيضا، المغترب المهاجر دوما بلا قرار وصاحب (الحصان الأبيض).
الفيلم جرئ لأنه يرينا من خلال عين العدسة مآل مصر الطهطاوي بعد قرن ونيف على رحيل رائد نهضتها. والفيلم شجاع لأنه لم يتوان عن إضاءة المظلم وكشف المستور في حياتنا جميعا، ولأنه لم يعمد الى مستحضرات التجميل ونفاخات البوتوكس كي يخفي حقيقة الحياة في ظل (المحروسة).
لا أدري ان كان وقت سيأتي سيتم الضغط فيه على المخرج كي يحذف بعض المشاهد من تلك الثلاثة والستين دقيقة المرعبة في فيلمه البحث رفاعة. لكنني اتمنى أبدا أن لا يفعل، حتى ولو خسر العروض والدعوات من بعض المهرجانات العربية.
كان الفنان والمسرحي الكبير الراحل مصطفى الحلاج يقول عن أعماله عموماً انه يحكمها الارتجال والتداعي، والتداعي هو ميكانيزم واسع وهو احد جواهر الإنسان، التداعي اما ان يستحضر شيئاً بالتناقض، أو بالتوافق معه، او من خلال معاكسته، التداعي ميكانيزم نفسي من أغنى ميكانيزمات الابداع، وأنا في عملي، ودائما مع الحلاج، استخدم التداعي والارتجال.. التداعي حر، والارتجال لابد أن يشتمل الايقاع.
بهذه الكلمات العميقة استطيع أن أقدم لفيلم البحث عن رفاعة. هذا النوع من الأفلام قد يبدو لنا اليوم طارحا لسؤال حول معنى أن تكون السينما مستقلة، ودائما جديدة، وتقدمية، من كل النواحي، لا سيما من ناحية المضامين. أما من حيث الشكل، فحدث ولا حرج. الاقتراب اكثر من عالم الأدب، بما ان المخرج في الاصل واحد من ألمع كتاب القصة القصيرة المصرية والعربية.. النهل من المسرح والابتعاد عن المحسنات البديعية في التكنيك والتصوير والمونتاج، ومن ثم اعطاء المشاهد انطباعا بانه انما يشاهد أحد أفلام الهواة.
ولكن كيف تأتى للمخرج صلاح هاشم أن يحقق هذا المنظور؟ الجواب بسيط جدا، وربما وجدناه في دقائق الفيلم الأولى عندما يتحكم فينا كمشاهدين عنصران اساسيان سيوجهان حطاب الفيلم بأكمله ألا وهما سرعة تتابع اللقطات عبر كاميرا محمولة على سيارة مسرعة، وموسيقى جاز نيوأورليانز تنبعث من ساكسوفون جريح وحزين، لا يتنطع بثقافوية مزعومة ثقيلة الظل بقدر ما يذكرنا بأن موسيقى الجاز أصلها أفريقي، وما مصر في وجه من وجوهها إلا افريقية الانتماء والجذور.
اذن، الحركة والإرتجال هما العنصران المهيمنان على في فيلم البحث عن رفاعة. الحياة حركة في الزمان والمكان، وموسيقى الجاز قبض على لحظة من تلك الحركة من أجل إدامتها وتجميدها في اللحظة الراهنة عبر الارتجال والتمدد الزمني والإطالة المبالغ فيها. قطبان متناقضان للوهلة الاولى يصر صلاح هاشم على ربطنا بهما عبر عناصر فيلمه المختلفة، بالضبط كما وجدناه منذ البداية مصرا على أن تكون موضوعته شعبية مستقاة من تفاصيل اليومي. وعدا استجوابين في الفيلم لشخصيتين أكاديميتين بشأن تراث الطهطاوي، ندر أن تجد شخصيات لمثقفين أو لمعاناة وجودية أو لدرامات كبرى، أو حتى لما قد يشبه السيرة الذاتية. كل ما في الأمر ان صلاح هاشم اشتغل على فيلمه وكأنه يشتغل على نص قصصي يكتبه في مقهى قاهري، مع ارتجال واضح في كل شئ. ومن دون اهتمام كبير بالأبعاد التقنية. وكأننا هنا في ازاء عين توثيقية طلب منها أن تتابع الشخصيات في ما تقول وتفعل. وأحياناً بالمعنى الحرفي للكلمة. من هنا لم يكن غريباً أن يصور سامي لمع اكثر من 25 ساعة تصوير على كاميرا من نوع الفيديو الرقمي ليطلع في نهاية الأمر بفيلم من ساعة لا أكثر. هذا الارتجال الذي يبدو، أكثر ما يبدو، منتمياً الى تيار سينما الحقيقة هو الذي حدا بالمخرج أن يقول في اللقاء الذي اعقب عرض الفيلم هنا في لندن انه بدلاً من أن أحقق فيلماً عن الطهطاوي، أفضل أن أحقق فيلماً عن الناس في بلد الطهطاوي. اذ ان طريقة العزف في الموسيقى هي أهم عندي، والكلام لصلاح هاشم، من اللحن المميز لتلك الموسيقى. تقنياً يبدو الفارق هنا ضئيلاً، لكن الحقيقة هي أن فيلم البحث عن رفاعة قد اشتغل على هذا المنطق. والتعليق الأخير من عندنا.
كانت لغة الشخصيات هي الأقوى بين أدوات المخرج لم تكن بسيطة في محتواها مع أنها تعتبر لغة الشارع المصري. عند بدء التصوير لم يكن هناك خط درامي محدد لكل عنصر من عناصر الفيلم التسجيلي. فمن خلال أفعال ومشاعر الموقف يتولد رد الفعل الذي يبني عليه استمرار الأحداث . ومن خلال الاجابات الممكنة التي سيقدمها شخوص الفيلم الحقيقيين، تصاغ الأسئلة والاستجوابات، وليس العكس كما هو متعارف عليه. أماكن التصوير لا تحتاج الى مسح وتهيئة، بل هي رهينة الصدفة السانحة وموافقة الحاضرين وأصحاب المكان على تصويرهم. وبالفعل، وكما اعترف المخرج غب كلمته بعد انتهاء عرض فيلمه البخث عن رفاعة، فإنه لم يعمد الى استخراج أذونات بالتصوير في الاماكن العامة في مصر، والفيلم كله من حيث التصوير هو عبارة عن لحظات مسروقة بموافقة أصحابها ملئية بالكدر لكنها مغلفة بالمحبة والتسامح وخفة الظل. ورغم موضوع الفيلم لم يكن المخرج أسيرا لموضوع واحد محدد أو لفكرة معينة, وهو رفاعة الطهطاوي، وحسب بل إتسعت رؤياه لزوايا أكثر شمولية وفي النهاية شاهدنا عملاً سينمائيا فنياً غير مكتمل الأركان، وأشدد، غير مكتمل الأركان، يمكننا أن نطلق عليه اصطلاح (سينما الإرتجال). وبذلك ربما كان صلاح هاشم في فيلمه هذا (البحث عن رفاعة) يدشن لنا جميعا طريق السينما الجديدة الفقيرة القائمة على مبدأ الارتجال والتي من الممكن أن يصنعها نساء الأدب ورجاله كما هي ممكنة بكل تأكيد لهواة التصوير ومحبي الفنون الرقمية المعاصرة ضمن ثورة الفكر والتكنولوجيا الحديثة ولتسكت الى الأبد أصوات الكسالى العرب من المتمعشين من أموال الاحتراف.
لندن في 10 حزيران يونيو 2008
___________________________________
هامشان ضروريان/
1. رفاعة رافع الطهطاوي 1801 -1873) من قادة النهضة العلمية في مصر محمد علي. تولَّى التدريس في الأزهر ، وتوثقت صلته بشيخه، العلامة حسن العَطَّار. وظلَّ رفاعة يدرِّس بالأزهر لمدة عامين.والمنعطفُ الكبير في سيرة رفاعة الطهطاوى ، يبدأ مع سفره سنة 1826 م إلى فرنسا ضمن بعثة أرسلها محمد علىّ على متن السفينة الحربية الفرنسية “لاترويت ” لدراسة العلوم الحديثة. وكان حسن العَطَّار وراء ترشيح رفاعة للسفر مع البعثة كإمامٍ لها وواعظٍ لطلابها، وذهب كإمام ولكنه (الى جانب كونه امام الجيش) اجتهد ودرس اللغة الفرنسية هناك وبدأ بممارسة علم الترجمة. وبعد سنوات خمسٍ حافلة ، أدى رفاعة امتحان الترجمة، وقدَّم مخطوطة كتابه الذى نال بعد ذلك شهرة واسعة تَخْلِيصُ الإِبْرِيزِ فىِ تَلْخِيصِ بَارِيز .وعاد رفاعة لمصر سنة 1247 هـ/1831 فاشتغل بالترجمة في مدرسة الطب ، ثُمَّ عمل على تطوير مناهج الدراسة في العلوم الطبيعية .. وافتتح سنة 1251ه/1835م مدرسة الترجمة، التى صارت فيما بعد مدرسة الألسن، وعُيـِّن مديراً لها، إلى جانب عمله مدرساً بها. وفى هذه الفترة تجلى المشروع الثقافى الكبير لرفاعة الطهطاوى؛ ووضع الأساس لحركة النضهة التى سميت الأصالة والمعاصرة. وظل جهد رفاعة يتنامى؛ ترجمةً، وتخطيطاً، وإشرافاً على التعليم والصحافة.. فأنشأ أقساماً متخصِّصة للترجمة الرياضيات – الطبيعيات – الإنسانيات وأنشأ مدرسة المحاسبة لدراسة الاقتصاد، ومدرسة الإدارة لدراسة العلوم السياسية. وكانت ضمن مفاخره استصدار قرار تدريس العلوم والمعارف باللغة العربية وهى العلوم والمعارف التى تدرَّس اليوم في بلادنا باللغات الأجنبية) وإصدار جريدة الوقائع المصرية بالعربية بدلاً من التركية؛ هذا إلى جانب عشرين كتاباً من ترجمته ، وعشرات غيرها أشرف على ترجمتها. عاد رفاعة بأنشط مما كان ، فأنشأ مكاتب محو الأمية لنشر العلم بين الناس، وعاود عمله في الترجمة (المعاصرة) ودفع مطبعة بولاق لنشر أمهات كتب التراث العربى (الأصالة) ورأس إدارة الترجمة، وأصدر أول مجلة ثقافية في تاريخ العرب وهي رَوْضَةُ المَدَارِسِ. وكتب في التاريخ: أَنْوارُ تَوْفِيقِ الجَلِيل فِى أَخْبَارِ مِصْرَ وتَوْثِيقِ بَنىِ إِسْمَاعِيل. وفى التربية والتعليم والتنشئة : مَبَاهِجُ الأَلْبَابِ المِصْرِيَّةِ فِى مَنَاهِج الآدَابِ العَصْرِيَّةِ.. المُرْشِدُ الأَمِينِ للبَنَاتِ والبنَينِ . وفى السيرة النبوية نِهَايَةُ الإِيجَازِ فِى تَارِيخِ سَاكِنِ الحِجَازِ .
2. أما المخرج صلاح هاشم فهو صحفي وناقد سينمائي مصري مقيم في باريس. صدرله (الحصان الابيض) مجموعة قصص قصيرة عن دار الثقافة الجديدة في مصر، و(كرسي العرش حكايات من قلعة الكبش) عن دار ميريت، و ( السينما العربية خارج الحدود) عن المركز القومي للسينما في مصر، و(السينما الفرنسية تخليص الابريز في سينما باريز) عن وزارة الثقافة مصر ، و ” السينما العربية المستقلة. افلام عكس التيار” عن مهرجان الشاشة العربية في الدوحة ، و ” الوطن الآخر سندباديات مع المهاجرين العرب في اوروبا وامريكا ” الذي صدر في ثلاثة أجزاء عن دار الآفاق الجديدة في لبنان، ويصدر له قريبا عن ” الدار” في مصر كتاب ” السينما عند العرب. مثل قصيدة عن الأرض الخراب ” يقدم فيه قراءة لبعض انتاجات السينما العربية في السنوات الخمس الاخيرة.
_________________________
انظر المقال على رابط موقع الحوار المتمدن المرفق :

( 3 )
عن الطهطاوي والنهضة والأسئلة المعلقة
بقلم
عثمان تزغارت
بعد قرابة قرنين على رحلة رفاعة رافع الطهطاوي الشهيرة إلى فرنسا، يسير صلاح هاشم في شريطه على خطى صاحب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، معيداً طرح السؤال ذاته: لماذا تأخّر المسلمون وتقدّم غيرهم؟
**
تتنازع الإعلامي والناقد السينمائي المصري صلاح هاشم ثلاثة انشغالات أساسية: حبّ السينما وموسيقى الجاز والبحث في الفكر التنويري بوصفه المنطلق التأسيسي لأي مسعى تحرّري من شأنه تخليص الثقافة العربية من براثن التشدد والظلامية.
وها هو يجمع بين هذه الانشغالات الثلاثة في شريطه «البحث عن رفاعة» (وثائقي 63 دقيقة ـــــ إنتاج كويتي مصري) الذي قُدّمت عروضه الأولى أخيراً في لندن وباريس، وسيُعرض ضمن «كرافان السينما العربية الأوروبية» الذي بدأ في عمان. كما سيشارك في مهرجان السينما المتوسطية في مونبولييه.
يمثّل هذا الشريط الجزء الأول من ثلاثية توثيقية يعتزم هاشم تخصيصها لفكر رفاعة الطهطاوي ومساره، ضمن مشروع يشغله منذ أكثر من عقدين. لكن إعجابه بشخصية الطهطاوي ومكانته الرائدة لم يمنعه من أن يطرح جانباً الأساليب الحكائية التقليدية، ليخرج من الإطار الضيّق المتعلق بالتأريخ لسيرة هذا المفكّر، ويوسّع المشهد إلى ما هو أبعد وأعمق وأكثر راهنية، عبر إعادة طرح السؤال ذاته الذي شغل الطهطاوي قبل قرن ونيف: لماذا تأخّر المسلمون وتقدّم غيرهم؟ وإذا برحلة البحث عن الطهطاوي بين باريس والقاهرة وطنطا وأسيوط تتحوّل إلى رحلة تأمّلية في الواقع المصري والعربي اليوم، ضمن نظرة تشريحية قاسية، تضع اليد على الجرح وعلى مكمن الخلل في المشروع الحداثي العربي المعطّل والمعطوب…
يقول صلاح هاشم: «لم يكن الهدف من إنجاز الفيلم نوعاً من التكريس لـ«عبادة البطل»، رغم مكانة رفاعة المعلّم والمفكّر والإنسان ورائد نهضة مصر الحديثة، إلا أنّ ما شغلني هو التحفيز على التأمل في فكر رفاعة ومفاهيمه لمعاني النهضة والتقدم وحرية المرأة ودور المثقف وعلاقة الحاكم بالمحكوم، من أجل طرح سؤال أكثر راهنية، وهو: أين موقع مصر والعالم العربي اليوم من ذلك الفكر التنويري المجدّد؟».
لهذا، لم يسلك هاشم في ثلاثيته المخصّصة للطهطاوي المنحى الكرونولوجي التقليدي، بل سلّط الضوء في هذا الجزء الأول على موقع فكر الطهطاوي وأثره في الراهن العربي اليوم، بعد قرابة قرنين من الزمن، على أن يعود لاحقاً، في الجزءين الباقيين إلى التأريخ لرحلة الطهطاوي إلى باريس، عام 1826، ومن ثم إلى الجهد التحديثي الذي اضطلع به بعد عودته إلى مصر.
في الملخص التقديمي للشريط، يقول هاشم إنّه عمل يحكي وقائع رحلة مطوّلة بين باريس والقاهرة، مروراً بأسيوط وطنطا في صعيد مصر، بحثاً عن ذاكرة رفعت رفاعة الطهطاوي (1801 ـــــ 1873)، رائد نهضة مصر الحديثة الذي يلخص مشواره العلمي قصة بلاده في القرنين الماضيين. لكنّ الفيلم يطرح السؤال الأكثر راهنية: ترى ماذا بقي من تعاليم الطهطاوي ونظرياته وأفكاره بخصوص العلم والتعليم وحرية المرأة والعلاقة بين الحاكم والمحكومين في مصر والعالم العربي اليوم؟
بغية تحقيق ذلك، لم يراهن صلاح هاشم على المغايرة على صعيد المضمون فحسب، من حيث كسر الوتيرة الكرونولوجية، بل أيضاً على صعيد الشكل الفني، إذ طرح جانباً الأساليب الحكائية التقليدية، لحساب لغة بصرية مكثّفة أتاحت له الغوص في الواقع المعيشي للناس، ليرصد مآل بلد الطهطاوي بعد كل هذا الوقت على رحيل رائد نهضتها. ولم تمثّل موسيقى الجاز مجرد خلفية صوتية للفيلم، بل مثّلت عنصراً بصرياً أساسياً فيه، بحيث لم تكتف أجواء الجاز وتلوّناته الإيقاعية بمرافقة إيقاع الفيلم وضبطه، بل كانت مرتكزاً استند إليه هاشم وشريكه في المشروع، المصوّر اللبناني المقيم في كوبنهاغن سامي لمع، للغوص في أعماق الحياة الشعبية للناس البسطاء في مصر. حتى أننا حين نسأله عن أهم ما يميّز عمله التوثيقي هذا، يجيب: «لا بد من أن أفلاماً كثيرة تسجيلية وروائية ستُنجز مستقبلاً عن الطهطاوي، لكنّي واثق بأنّ عملي سيبقى أكثرها قرباً من واقع الناس البسطاء ومعاناتهم في بلد الطهطاوي، حتى لنكاد نلمس في الفيلم حفيف خطواتهم ولفح أنفاسهم…».
بقلم
عثمان تزغارت
كاتب وناقد وباحث سينمائي جزائري
عن جريدة ” الأخبار ” اللبنانية بتاريخ 18 أغسطس 2008