للحب قصة أخيرة .قراءة في سينما رأفت الميهي بقلم أسامة عبد الفتاح
admin رئيسية, شخصيات ومذاهب, مختارات سينما ازيس 0
رأفت الميهي
إستهلال
فيلم ” للحب قصة أخيرة ” إخراج رأفت الميهي
عرفت صديقي كاتب السيناريو والمخرج السينمائي المصري الكبير رأفت الميهي ضمن العديد من الكتاب والمخرجين والشعراء والفنانين المصريين في فترة الستينيات – وحرب أمريكا في فيتنام وثورة الطلبة في العالم- من أمثال الأصدقاء محمد ناجي و بهاء طاهر و زين العابدين فؤاد وعبده جبير ويحيى الطاهر عبد الله ومحمد البساطي ومحمد القليوبي وعبد العظيم الورداني ومحمد خليل وأنور إبراهيم وغيرهم، وأعتبرها من أخصب الفترات الثقافية في تاريخ مصر المعاصرة،مع ظهور جيل من المبدعين الشبان، أطلق عليه د.غالي شكري في مجلة ” الطليعة ” المصرية ” جيل الستينيات في مصر “، وهو الجيل الذي ينتمي إاليه كاتب هذه السطور،ويحكي عنه هنا الناقد السينمائي المتميز أسامة عبد الفتاح حين يتحدث عن الميهي.
، وأعتبر شخصيا ، أن الراعي الرسمي لهذا الجيل، هو الروائي والكاتب والصحافي المصري الكبير الأستاذ عبد الفتاح الجمل ،وكان ينشر لنا أشعارنا وقصصنا ودراساتنا آنذاك في جريدة ” المساء “. وقد اشتهر الميهي أولا ككاتب سيناريو ، فقد دلف الى السينما من باب الأدب، ودراسته للأدب الإنجليزي، ثم التحاقه بمعهد السيناريو، و قبل أن يعمل بالإخراج، ويبدع لذاكرة مصر ، وتاريخها وتراثها السينمائي- وإرثها الفني العريق – رائعته ” للحب قصة أخيرة “.
وكنت كتبت مقالا عن فيلمه ذاك، أعجب به ،الميهي كثيرا ،حتى أنه أهداني سيناريو الفيلم الفذ – تصوير مدير التصوير الكبير محمود عبد السميع – وكان المخرج رضوان الكاشف فعلها من قبل ،حين أهداني سيناريو فيلم التخرج ، فيلم ” الجنوبية ” – أثناء دراسته في معهد السينما – وراح الميهي يردد في الأوساط السينمائية، أنه حين يكتب الكاتب و الناقد المثقف صلاح هاشم صاحب مجموعة ” الحصان الأبيض ” القصصية – القادم أيضا الى السينما من باب الأدب، ويعتبر من أبرز كناب القصة القصيرة في ذلك الجيل- حين يكتب عن فيلم ما، فأنه يمسكه من ” بيضاته “، ولايتركه إلا قبل أن يعصره، لمعرفة إن كان سيسقط منها أي شييء، وهذا الأمر في الواقع هو سر تميزه وتفرده
واترككم الآن مع هذه الدراسة البديعة – نشرناها من قبل في موقع سينما إيزيس – بعنوان ” رأفت الميهي في ذكراه السادسة ” عام 2021 ونعيد نشرها هنا بمناسبة الاحنفال بذكراه التاسعة- للناقد المصري الجد متميز وأصيل – أسامة عبد الفتاح.
صلاح هاشم
مؤسس ورئيس تحرير موقع ” سينما إيزيس ” كوكب سينمائي صغير
***
يشعر من يتتبع مسيرة فنان السينما الكبير رأفت الميهي بأن هناك أكثر من سينمائي مصري يحملون نفس الاسم، ليس فقط لتعدد “الأدوار” التي قام بها في تاريخ السينما المصرية، كسيناريست ومخرج ومنتج وأستاذ أكاديمي، ولكن أيضا لتعدد التحولات الحادة في مسيرته والأنواع السينمائية التي قدمها، وتنوع الأساليب التي استخدمها، سواء ككاتب للنص السينمائي أو كمنفذ له برؤية شديدة الخصوصية وروح ساخرة لم تفارق معظم أعماله، وإن كانت تحمل قدرا كبيرا من المرارة.
رأفت الميهي، المولود في 25 سبتمبر 1940، ينتمي إلى جيل من المثقفين المصريين تفتح وعيه على ثورة يوليو 1952، وتربى على قيمها ومبادئها، وعاش انتصاراتها وانكساراتها، وصدمته نكستها في يونيو 1967، ولم يكد يستعيد توازنه بعد انتصار أكتوبر 1973 حتى أصابه الإحباط والحيرة مع تطبيق سياسة الانفتاح الاقتصادي في منتصف السبعينيات من القرن الماضي، بكل ما رافقه من فساد اقتصادي واجتماعي وسياسي، وبكل ما تسبب فيه من زيادة نسبة الفقر، واتساع الهوة بين الفقراء والأغنياء، وتلاشي مفهوم العدالة الاجتماعية، ربما إلى يومنا هذا.
بدأ مشواره عام 1966 بكتابة السيناريو، حين كان شابا في السادسة والعشرين، وفي هذه المرحلة المبكرة كانت أعماله تعبيرا سينمائيا بليغا عن التحولات والتطورات الوطنية الحادة والمتلاحقة، في فترة “درامية” بامتياز من تاريخ مصر، هوت من ذروة وفورة الحلم القومي السعيد، بعد انتصار واستقرار ثورة 1952، إلى سفح ومستنقع النكسة، وبمعنى أدق: الهزيمة.. ومن قمة الشعور بالفخر الوطني بعد انتصار 1973، إلى حضيض فساد الانفتاح، الذي وصفه الكاتب الكبير الراحل أحمد بهاء الدين بأنه “سداح مداح”.
ويمكن اعتبار الفترة من 1966 إلى 1975 المرحلة الأولى من مسيرة رأفت الميهي، حين كان القلم الأمين المعبر عن هذه التحولات الدرامية، والعين التي رصدت تلك المتغيرات المصرية المتلاحقة خلال فترة قصيرة من الزمن، بوعي المثقف اليساري الذي يشعر بأن من واجبه تصفية حساب وطنه – وحساب جيله وحسابه هو شخصيا – مع فترة ما قبل ثورة 1952، ومع هزيمة 1967، ومع سياسة الانفتاح الاقتصادي وغيرها.
خلال تلك الفترة، كتب الميهي السيناريو والحوار، أو قام بالتأليف الكامل، لمجموعة من الأفلام المهمة التي دخل بعضها تاريخ السينما المصرية، ومنها “غروب وشروق” (1970)، و”شيء في صدري” (1971)، و”على من نطلق الرصاص” (1975)، وكلها من إخراج الكبير كمال الشيخ، الذي كوّن مع الميهي خلال هذه الفترة ثنائيا لا ينسى كان بمثابة ضمير سينمائي للوطن.. وفي هذه المجموعة من الأفلام، اعتنى الميهي بالحوار، وحوله في بعض الأحيان إلى محاكمات حقيقية لعهود أو أشخاص، من دون مضايقة المشاهد بالتعبيرات الإنشائية أو الشعارات الجوفاء، ومن دون إصابته بالملل.. وفيها أيضا اتبع طرقا في السرد مختلفة عما كان سائدا في السينما المصرية في ذلك الوقت، أبرزها في رأيي التوظيف الجيد لأسلوب العودة إلى الماضي (الفلاش باك)، بطريقة تجعل منه جزءا لا يتجزأ من البناء الدرامي، وليس زائدة يمكن الاستغناء عنها ببعض الجمل الحوارية، كما هي الحال في العديد من الأفلام السابقة واللاحقة.
وتميز أسلوبه في كتابة السيناريو خلال تلك الفترة أيضا باستخدام الإسقاطات والرموز الفنية، لكن بطريقة غير مباشرة تبتعد عن الفجاجة التي استخدم بها غيره الرموز خلال نفس الفترة وفي فترة سابقة عليها.. وعلى سبيل المثال، في المشهد الأخير من تحفة الشيخ والميهي “غروب وشروق”، تقف البطلة المستهترة التي تدفع ثمن استهتارها غالياً في عهد ما قبل الثورة (سعاد حسني) في النافذة وتزيح الستار قليلاً لكي تتابع – بعينين مبتلتين بالدموع – زوجها وصديقه (رشدي أباظة وصلاح ذو الفقار) وهما يغادران حديقة القصر بعد نهاية والدها رئيس القلم السياسي (محمود المليجي) وتدمير حياتها هي بالكامل.. عيناها تلخصان المأساة كلها من دون كلمة واحدة.. بعد خروجهما، تسحب يدها لينسدل الستار بسرعة على حياتها وعلى الفيلم كله.
هذه اللقطة البارعة لا تنهي المشهد أو الفيلم فقط، بل تنهي عصرا كاملا وتعلن بداية عصر جديد بشكل سينمائي بليغ وغير مباشر، شأن العديد من اللقطات والمشاهد الأخرى في سيناريوهات رأفت الميهي.
وفي “شيء في صدري”، صراع درامي نادر بين “الباشا” الفاسد عديم الأخلاق (رشدي أباظة)، و”الأفندي” رمز الشرف والاستقامة (شكري سرحان)، وتعود خصوصية الصراع إلى عدم وجود الأفندي أصلا، حيث يموت تاركا طيفه يطارد الباشا ليلا ونهارا، ويحول حياته إلى جحيم، مما يحول بدوره الميلودراما التقليدية المعهودة في مثل تلك القوالب إلى ما يشبه الدراما النفسية شديدة التعقيد، والتي تتطلب في كتابتها قدرا كبيرا من الوعي والمهارة والموهبة.
في الفيلمين السابق ذكرهما، أعد الميهي السيناريو والحوار عن أصلين أدبيين لجمال حماد وإحسان عبد القدوس على الترتيب، أما في الفيلم الثالث الذي يجب التوقف عنده، “على من نطلق الرصاص”، فكتب القصة والسيناريو والحوار، للتعبير عما يمكن تسميته “أزمة جيل النكسة” من شباب المثقفين، الذين أصابتهم الهزيمة بالإحباط واليأس والحيرة، وخرجوا – أثناء دراستهم الجامعية أو بعد انخراطهم في سوق العمل – في مظاهرات للمطالبة بالحقوق السياسية ومحاسبة المسئولين عن الهزيمة العسكرية، ثم صدمتهم – بعد سنوات قليلة – سياسة الانفتاح الاقتصادي وتداعياتها.
من هؤلاء “مصطفى” (محمود ياسين)، الذي اعتقل مرتين عامي 1964 و1967 لمشاركته في مظاهرات تطالب بالمزيد من الحريات وتقديم المسئولين الحقيقيين عن النكسة للمحاكمة وإعادة جميع الأحزاب بما فيها الحزب الشيوعي، وخضع للعلاج النفسي بعد إصابته بمرض عصبي إثر تعذيبه في المعتقل.. ولدينا صديقه المهندس “سامي” (مجدي وهبه)، الذي تلفق له تهمة التسبب في سقوط مشروع للإسكان الشعبي ويسجن ثم يتم قتله في السجن بالسم.
ينتمي “على من نطلق الرصاص” إلى نوعية “الفيلم نوار” أو البوليسي القاتم، ويشهد تطبيقا مبكرا لمبدأ “الحل الفردي”، حيث يطلق “مصطفى” الرصاص على “رشدي”، رئيس شركة الإسكان (جميل راتب)، انتقاما لصديقه الذي قتله “رشدي” وتزوج خطيبته “تهاني” (سعاد حسني).. ويقدم الميهي في الفيلم مصيرا قاتما بدوره لجيل الهزيمة، حيث يموت “مصطفى” – كما مات صديقه – بعد أن صدمته سيارة أثناء هروبه من مسرح إطلاق الرصاص على “رشدي”، وتنهار حياة “تهاني” بالكامل بعد اكتشافها حقيقة زوجها الذي تحول من مجني عليه في واقعة إطلاق الرصاص إلى جان في جريمتي قتل “سامي” والغش في بناء المساكن الشعبية.
رسالة الفيلم شديدة الوضوح، وتصلح لكل زمان ومكان، وهي أنه يجب إطلاق الرصاص على “القطط السمان” من مصاصي دماء الشعوب، وليس على المجني عليهم من أبناء هذه الشعوب.. ويكشف الفيلم عن رؤية ثاقبة لرأفت الميهي تتجاوز حدود تصفية الحساب مع الماضي وتحليل الحاضر إلى استشراف المستقبل، وتتجلى في صرخة أطلقتها “تهاني” (سعاد حسني) في النهاية بعد أن اكتشفت الحقيقة: “الناس دي كلها ماتت ليه.. ماتت ليه.. الناس دي كلها بتموت ليه؟”، وكأنها صرخة يتم إطلاقها على خلفية ما تشهده مصر هذه الأيام.
ينهي “على من نطلق الرصاص” المرحلة الأولى من مسيرة رأفت الميهي، والتي أدلى فيها بشهادته عن فترة حرجة من تاريخ مصر، ثم توقف ليلتقط الأنفاس ويعيد الحسابات وترتيب الأوراق، حيث لم يقدم أي عمل سينمائي من 1975 إلى 1981.. وعندما عاد، كان كل شيء قد تغير، سواء على المستوى الوطني أو على مستواه هو شخصيا، ومستوى قناعاته الفكرية والفنية.
على المستوى الوطني، تولى الرئيس المخلوع حسني مبارك الحكم في عام عودة الميهي إلى السينما، وبدأ فترة حكمه بإشارات اعتبرها المثقفون – ومنهم السينمائيون – إيجابية، ومنها الإفراج عن المعتقلين السياسيين، وإعلانه رغبته في ألا تزيد مدة حكمه عن فترتين، ورفضه النفاق والمنافقين، وانعكس التجاوب معه في تخلي السينما المصرية عن أفلام الهزل وتصفية الحسابات التي كانت قد سادت في السبعينيات، ومحاولتها النزول إلى الواقع للتعبير عنه، فظهر ما سمي بعد ذلك – مع تحفظي شخصيا على التسمية – “الواقعية الجديدة”، وصعد نجم عدد من المخرجين المتميزين، سواء الذين بدأوا في الثمانينيات أو قبلها بسنوات قليلة، مثل عاطف الطيب ومحمد خان وداود عبد السيد وخيري بشارة وسمير سيف، وشهد عقد الثمانينيات صناعة عدد من تحف وكلاسيكيات السينما المصرية.
وعلى المستوى الشخصي، اتخذ الميهي في بداية الثمانينيات قرار الاتجاه للإخراج إلى جانب التأليف والإنتاج، ليصبح – في المرحلة الثانية من مسيرته السينمائية – أحد فرسان “الواقعية الجديدة” وأحد أبرز وجوهها.. ويبدو أن القرار كان استجابة للتحولات السياسية والاجتماعية من حوله، ولتحولاته الشخصية التي فرضت عليه أن يعبر عن أفكاره وآرائه في تلك التطورات بشكل أكثر حرية ووضوحا.. وكنت سألته – في حوار أجريته معه ونشر في “الأهرام المسائي” بتاريخ 30 يوليو 1995 – عن أسباب تحوله للإخراج، فرد قائلا: ” هذا تحول طبيعى جدا لأن معظم المخرجين قادمون إما من السيناريو أو من المونتاج.. طبيعى أن (سكة) السيناريو توصل إلى الإخراج.. وأيام كنت كاتبا للسيناريو فقط، كان الناس يقولون عنى إننى (مشروع مخرج) لأننى كنت أكتب الفيلم كاملا بكل تفاصيله على الورق.. ثم أننى فى لحظة ما شعرت برغبة داخلية فى أن أمتلك قيادة سفينتى وان أميل إلى التعبير الذاتى فى أفلامى وأن أقدم رؤيتى الخاصة التى يصعب على المخرجين الآخرين أن يقدموها.. وذلك رغم أننى لا أشكو من المخرجين الذين عملوا معى على الإطلاق، فقد قدموا جميعا أفلامى كما كتبتها على الورق تماما”.
تمتد المرحلة الثانية من مسيرة الميهي من 1981 إلى 1987، وخلالها أصبح “صانعا للأفلام” يكتب وينتج ويخرج، وقدم ثلاثة أفلام مهمة لا يمكن إغفالها، سواء في تيار الواقعية الجديدة أو في تاريخ السينما المصرية بشكل عام.. فقد عرض عام 1981 فيلم “عيون لا تنام”، أولى تجاربه الإخراجية، مستوحياً السيناريو من مسرحية “رغبة تحت شجرة الدردار” ليوجين أونيل، غير أن الفيلم مختلف تماما عن أحداث وأجواء المسرحية الأمريكية، حيث قدم الميهي معالجة جديدة لهذا العمل الأدبي الشهير، وغيَّر في الأحداث وفي بناء الشخصيات وعلاقاتها. وعن ذلك قال: “أنا مسئول عن نص (عيون لا تنام) من أوله إلى آخره.. فأنا لست ناشراً، ولا أعيد نشر رواية، بل أتناولها وأكتب وجهة نظري الخاصة”.
أضفى الميهي نكهة ملحمية على فيلمه الأول كمخرج، وحمّله أفكارا تعتمد أساساً على الرغبات المرتبطة بالطبيعة الإنسانية، ومنها الشهوة، والطمع، وحب التملك. ولكنه قدمها بعيون ناقدة ومتفهمة لمدى خطورة هذه الرغبات، فهي عندما تسيطر على الإنسان تحطمه وتقضي عليه.
وبعد 17 عاما كاملة من بدء مسيرته، شهد عام 1983 أول موعد للميهي مع الكوميديا التي ارتبط بها وارتبطت به فيما بعد طويلا، وإن كان الفيلم الذي بدأ به مشواره معها – “الأفوكاتو” – ينتمي إلى ما يمكن اعتباره “كوميديا سوداء”، حيث يتناول بسخرية مريرة مجتمع الفهلوة والشطارة المادي الذي أفرزته سياسة الانفتاح الاقتصادي، من خلال المحامي الألعبان “حسن سبانخ” (عادل إمام) الذي يحاول التأقلم مع أوضاع السجن أثناء قضائه عقوبة الحبس لمدة شهر بسبب إهانته المحكمة فى إحدى القضايا.
يتمكن “سبانخ” من إقامة العديد من علاقات البيزنس البهلوانية أبرزها مع تاجر المخدرات حسونة محرم، وسليم أبو زيد أحد مراكز القوى فى الستينيات، ويلعب على جميع الحبال، ويبدأ فى تحريك النظام القضائى وأوضاع المجتمع المقلوبة كعرائس الماريونيت. ينجح فى إخراج حسونة محرم من السجن “زى الشعرة من العجين”، وإعادته لواجهة المجتمع مرة أخرى، ليس من أجل “سواد عيونه” ولكن تمهيداً لقيام “سبانخ” نفسه بالنصب على حسونة فى “خبطة العمر”، حيث تضمنت خطته دخول المستشفيات والاتجار فى العملة، و تزويج شقيقة زوجته لحسونة، إلا أن الأخير ينجح فى الإيقاع بالمحامى البهلوان وإرغامه على دخوله السجن.. ولأن سبانخ لاعب أكروبات، فإنه سرعان ما يستأنف نشاطه من داخل أسوار السجن، متحالفاً مع سليم أبو زيد فى عملية جديدة وحياة “ملتوية” جديدة.
تلك كانت رؤية الميهي الساخرة لمجتمع ما بعد الانفتاح، والتي أتبعها برؤية ميلودرامية شجية لمجتمع الثمانينيات في فيلمه الجميل “للحب قصة أخيرة”، الذي يعتبره الكثيرون – وأنا منهم – من أهم الأفلام في تاريخ السينما المصرية.. ورغم أنه يُصنف ضمن أبرز أعمال ما يسمى بتيار الواقعية الجديدة، إلا أنني أرى أنه ينتمي أكثر إلى الواقعية السحرية، بفضل أبعاده الروحية والميتافيزيقية، والأجواء الغامضة الساحرة لجزيرة الوراق التي تدور فيها أحداثه، وأسلوب تنفيذه تقنيا، ومعالجته دراميا ليصبح مزيجا من العلاقات الإنسانية المتناقضة، ومن الحب والكراهية، الحياة والموت، الوضوح والغموض، الصدق والزيف، الصحة والمرض، الخرافة والعلم.
قدم الميهي الفيلم في منتصف الثمانينيات، ومنتصف مسيرته السينمائية، ليكون شاهدا على وصوله إلى ذروة نضجه الفني، حيث أعتبر “للحب قصة أخيرة” أهم أفلامه على الإطلاق، سواء على مستوى التأليف أو الإخراج، لتعدد مستويات تلقيه، وتحميله رسائل ومعان شديدة الأهمية من دون مباشرة ولا فجاجة ولا صوت عال.. يضعنا الفيلم في مواجهة المرض والموت من خلال المدرس المثقف “رفعت” (يحيى الفخراني)، المريض بالقلب والذي ينتظر الموت في أي لحظة، لكنه يقرر أن يكذب على زوجته “سلوى” (معالي زايد) – بالاشتراك مع طبيب الجزيرة “حسين” (عبد العزيز مخيون) – ويوحي لها بأنه شُفي.. وتظن الزوجة أن “المعجزة” من “كرامات” الشيخ “التلاوي” الدجال الذي كانت قد لجأت إليه بعد أن أقام له أهل الجزيرة “مولد” إثر عودته إلى الحياة من الموت!
وعندما يموت “رفعت” في مشهد بليغ، وتنكشف حقيقة التلاوي، تذهب “سلوى” – في النهاية – إلى مقر الدجال وتحطمه بالفأس، في واحد من أهم مشاهد الفيلم، لأنه دعوة مباشرة للتخلص من الغيبيات والخرافات التي تحكم تفكير وسلوك الكثير من المصريين وتعطل تقدمهم، مسلمين ومسيحيين، حيث يشير الفيلم إلى جارة مسيحية طيبة تدعى “دميانة” تأتي ب”البشارة” على طريقتها بأن الله سينجي “رفعت”.
ويحسب لرأفت الميهي أنه كان – في ذلك الفيلم – من أوائل الذين نبهوا إلى خطورة تجار ومهاويس الدين، قبل سنوات قليلة جدا من موجة الإرهاب الديني الأسود التي ضربت مصر في بدايات التسعينيات من القرن الماضي.
وعلى مستوى آخر من التلقي، يطرح الفيلم قضايا فلسفية مثل الحياة والموت، وهناك معادل موضوعي للشاب الذي ينتظر الموت المؤكد – ورغم ذلك يتفاءل ويتمسك بالأمل – يتمثل في والدة الطبيب البالغة من العمر 95 عاما، والتي تظل وابنها يتوقعان الموت لمدة 15 عاما من دون أن يأتي، ويكون موتها بعد ذلك نذيرا بموت البطل.. ومقابل المدرس الحيّ / الميّت، هناك الميّت / الحيّ، المتمثل في شاب من أبناء الجزيرة يُقتل في حادث، ورغم ذلك يظل والده (عبد الحفيظ التطاوي) ينتظره كل ليلة – على مدار 15 عاما – عند “المعدية” التي تربط الجزيرة بالعالم الخارجي.
ويرمز المدرس المريض بالقلب للمثقف المأزوم الذي لا يستطيع تحمل الضغوط المحيطة به، حتى أنه من فرط اليأس والإحباط يفكر في فكرة تناسخ الأرواح، على أمل أن تعيش روحه بالشكل الذي يريده ويحلم به في جسد آخر بعد موته.. لكن الحقيقة أن الفيلم لا يتمسك بذلك الأمل، ولا يترك للمشاهد سوى الشجن النبيل الذي من المفترض أن يدعوه للتأمل وإعادة الحسابات.
ورغم التميز الفني الواضح لفيلمي “الأفوكاتو” و”للحب قصة أخيرة”، اللذين قدمهما الميهي في قمة توهجه الفني خلال ثلاث سنوات فقط (من 1983 إلى 1985)، إلا أنه لم يسلم من أعداء الإبداع من خفافيش الظلام، الذين أشهروا في وجهه سلاح محاكم التفتيش المصرية ولا حقوه قضائيا من دون أي مبرر.. فقد حوكم “الأفوكاتو” ومخرجه ومنتجه، وكذلك بطله (عادل إمام)، بتهمة “تشويه مهنة المحاماة”، وهي قضية كانت تعد – في ذلك الوقت – سابقة خطيرة في تاريخ السينما المصرية.
أما قضية “للحب قصة أخيرة”، فكانت أخطر، حيث اتهم المخرج وبطلا الفيلم (معالي زايد ويحيى الفخراني) ومنتجه (حسين القلا) بتهمة تصوير فعل فاضح وأحيلوا إلى نيابة آداب القاهرة. أما “الفعل الفاضح”، فكان مشهد حب جمع بين الزوجين في الفيلم، علماً بأن كل مشاهد الحب في ذلك العمل لم تكن لها أي علاقة بالإثارة، حيث كانت حزينة، تنعي علاقة عاطفية شاعرية مصيرها الموت.
بتلك القضية المؤسفة، انتهت المرحلة الثانية من مسيرة رأفت الميهي السينمائية، وبدأت المرحلة الثالثة عام 1987 بإخراجه فيلم “السادة الرجال”، وكانت – كالعادة – مختلفة تماما عن سابقتيها، ولابد من التوقف طويلا عندها، ليس فقط لأنها آخر مراحله واستقرت عندها شخصيته الفنية، ولكن أيضا لأنها شهدت أكثر تحولاته حدة، وأكبر كم من الصعوبات واجهها في مشواره.
من الواقعية، والواقعية السحرية، والدراما النفسية، و”الفيلم نوار”، والميلودراما، وكل الأنواع التي قدمها في المرحلتين السابقتين، إلى الفانتازيا والعبث المطلق والكوميديا الصرفة – “الفارص” إن شئت التعبير – في “السادة الرجال” وما تلاه من أفلام حتى فيلمه الأخير “شرم برم” (2007).. كيف حدث هذا التحول الحاد المفاجئ، الذي جاء بعد عامين فقط من تقديمه “للحب قصة أخيرة”؟
للإجابة، لابد من استعراض الأوضاع السياسية والاجتماعية والسينمائية أيضا في مصر في النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي، وفي عقد التسعينيات كله، وهي الفترة التي صنع خلالها الميهي معظم أفلامه الفانتازية أو العبثية، في رد محتمل على ما أحاط به من تطورات وما تعرض له من ضغوط.
كان الرئيس المخلوع حسني مبارك – بعد مرور بضع سنوات على توليه الحكم – قد بدأ يطرب للنفاق، ويحب المنافقين، ويلتصق بالكرسي، ويستعد للبقاء مدى الحياة.. وكان قد تحول إلى “زعيم” معزول في قصره لا يستمع ولا يثق إلا في البطانة السيئة المحيطة به.. وعلى أساس أن “الناس على دين ملوكهم”، انطلقت على الفور صناعة “الزعيم الأوحد” في كل مجال وقطاع على أيدي البطانات المنتفعة، وانسحب ذلك على السينما، فأصبح هناك زعيم للإخراج، وآخر للنقد السينمائي، وثالث للسيناريو.. إلى آخره.
وكما تجاوبت السينما مع الإشارات الإيجابية لمبارك في بداية فترة حكمه، تجاوبت مع الإشارات والممارسات السلبية التي ظهرت في دائرة سلطته وتزايدت بمرور السنوات، وبدأ السينمائيون يدركون أنه ليس الحاكم الذي تخيلوه أو تمنوه، وانعكس موقفهم الجديد على أعمالهم واختياراتهم.
وكانت التسعينيات عقدا مفصليا في تاريخ الوطن العربي، ومنطقة الشرق الأوسط، وفي فترة حكم مبارك بشكل خاص، ليس لأنها تتوسط هذه الفترة، ولكن لأنها شهدت حماقة غزو العراق للكويت، ثم تدمير العراق نفسه على أيدي الولايات المتحدة وحلفائها، في مأساة غيرت وجه المنطقة وموازين القوى والمصالح فيها إلى الأبد.. كما شهدت موجة الإرهاب الدموية التي اجتاحت مصر ودولا أخرى خلال النصف الأول من العقد، وتركت جرحا غائرا ما زلنا جميعا نحاول علاجه.
وكان من الطبيعي أن ينعكس كل ذلك على السينما، التي سرعان ما بدأت تخلع عباءة “الواقعية”، التي كانت قد ارتدتها في الثمانينيات، لنفورها من الواقع المرير.. وانعكس هروب السينمائيين المصريين من الواقع في اللجوء للترميز، والسينما الذهنية، التي قام أغلبها على أعمال أدبية، والعودة إلى التاريخ بشكل مشوه وممسوخ، كما فعل يوسف شاهين في “المهاجر” و”المصير”، وفي الدق على أبواب الدجل والشعوذة في أفلام مثل “البيضة والحجر” و”عتبة الستات”، وفي النقل عن الأفلام الأمريكية بلا حرج لتقديم “أكشن” ضعيف ومتهافت في أعمال مثل “الباشا” و”الإمبراطور” و”شمس الزناتي”.
وما يهمنا هنا، أن رفض الواقع والنفور منه انعكس أيضا في اللجوء إلى الفانتازيا كما فعل عدد من المخرجين منهم رأفت الميهي، ولا يعني ذلك بالضرورة أن هذا هو السبب الوحيد لتحوله الفني الحاد، فهناك بالتأكيد أسباب أخرى، منها قناعاته الشخصية، وتفاعله مع ظروف وشروط السوق – خاصة أنه يعمل بالإنتاج – وظروف وأجواء الأزمات التي عصفت بالسينما خلال تلك الفترة.
وقد تتعجل – كما فعلت أنا شخصيا في يوم من الأيام – وتصف هذه المرحلة بأنها الأضعف في تاريخ الميهي الطويل، وأنه لم يقدم خلالها ما يرقى لما حمل توقيعه منذ بدأ الكتابة للسينما وحتى ألّف وأخرج “للحب قصة أخيرة”، لكنك لابد أن تتروى قليلا قبل إصدار مثل هذا الحكم.. وربما تساعدك الكلمات التي وصف بها الفنان الكبير – في حواره معي – حال السينما والسينمائيين خلال تلك الفترة التي شهدت اتجاهه للعبث والكوميديا، حيث قال: “ظللت أكثر من 30 سنة (أهاتى) دون أن يشعر بى أحد ودون أن يستمع أحد.. حتى بدا لى أنه لا يوجد أمل فى الحل.. المشكلة أن هناك أناسا لا يحبون السينما ولا يدركون ما يمكن أن تضيفه للدخل القومى المصرى.. عندهم كنز ولا يعرفون كيف يستثمرونه.. نبحث عن البترول تحت الأرض وفوق الأرض صناعة هى الفريدة من نوعها فى الشرق الأوسط.. السينما يمكن أن تحقق مليار دولار سنويا.. وكما ندعم صناعة السياحة وصناعة البترول ونسافر إلى دول العالم لكى ندافع عن صناعة القمصان وتجارة البطاطس، يجب أن نعطى صناعة السينما – التى ليس لها منافس فى المنطقة – مثل هذا الدعم أو حتى نصفه لأنها ليست أقل من هذه الصناعات.. وليس معنى ذلك أن ينتج القطاع العام، بل يعنى ان السينما تحتاج إلى دفعة قوية من الدولة تشمل مجموعة من القرارات والقوانين لتشجيع الاستثمار.. يجب أن يفهم المستثمر أنه يستطيع أن يكسب من السينما أكثر مما يكسب من صناعة الجلود. لا أمل ولا حل سوى في إعادة النظر فى صناعة السينما برمتها، ووضع دراسة جدوى اقتصادية (مهما كانت تكلفتها) للسينما المصرية لعشر سنوات لكى نحدد بالضبط ما هو المطلوب لكل قطاع من قطاعاتها لتحقيق المرجو منها وتشجيع الاستثمار. أما السينمائيون فإنهم يفعلون أقصى ما فى استطاعتهم ويعملون فى ظروف بالغة الصعوبة.. ونوع من القسوة الإنسانية أن تطلب من السينمائيين أن يفعلوا المزيد.. هؤلاء الناس الذين يعشقون الفن ويعشقون السينما وينحتون فى الصخر ويصنعون أفلاما جيدة رغم الأوضاع المتردية للسينما وستوديوهاتها ومعاملها وقاعاتها، يستحقون أن نقيم لهم تمثالا مثل الجندى المجهول ونسميه (السينمائى المجهول). هل يعلم أحد أننا ننتج بقروض من البنوك ونعمل بدون حماية؟ المسئولون عن السينما أقاموا الصناعة وعملوا فيها طويلا لكن السن لها حكمها والقضية فى حاجة إلى خيال خصب شاب وقرار حاسم، قبل أن نتصور أن هناك من يخطط لضرب صناعة السينما المصرية ومن يستهدف تدمير المنتجين حتى يتوقفوا عن العمل”.
معنى ذلك أن هذا الفنان كان يعمل ويحاول ويكافح فى ظل أزمة طاحنة وظروف قاسية، رغم أنه كان من السهل تماما أن يؤثر السلامة والراحة والربح ويعمل فى “الفيديو كليب” أو الإعلانات مثل غيره، ولكنه واصل الجهاد، ولذلك فهو – على الأقل – يستحق التحية.. وإن كان ذلك لا يمنع أنني لم أعجب بأفلام مثل “ميت فل” و”تفاحة”، رغم فوز الثاني بهرم مهرجان القاهرة الذهبي عام 1996.
فقد بدا لي الاستسهال واضحا فى الفيلمين، وأخطر ما فيه استسهال الموضوع أو القضية المطروحة، وهى فى “ميت فل” استبدال الآباء، وفى “تفاحة” استبدال الأزواج، مع الاعتماد فى كليهما على أربع شخصيات رئيسية فحسب، بينهما علاقات غائمة وغير منطقية (وغير فانتازية أيضا)، وتقوم على مفارقات فجة وبدائية.. وفى الحالتين، لم تكن “القماشة” (بلغة السينمائيين) تصلح لأن تكون فيلما، وكان الإصرار عليها يستوجب تعويض ضعف الموضوع بالعمق، والإحساس، والجدة، واللغة السينمائية الراقية، لكن الفيلمين افتقدا إلى كل ذلك.
وعلى المستوى التقنى، تبدى الاستسهال (بالفيلمين أيضا) فى الصور المسطحة، والإضاءة العادية، وزوايا التصوير التقليدية، فضلا عن السيناريو غير الجدير بتوقيع الميهي.. ويبدو أن ما دفعه إلى الاستسهال هو السعى لتخفيض النفقات، والتوفير، وإنجاز الفيلم فى أسرع وقت ممكن، نظرا لظروف الإنتاج وشروط “القرض” التى تجبره – كما قال – على إنتاج عدد معين من الأفلام فى عدد معين من السنين، لكن حتى ذلك ليس مبررا مقنعا، فطالما أن النقود موجودة (بأية طريقة)، لماذا لا نستغلها فى صناعة أفلام جيدة؟
أما أفضل أفلام تلك المرحلة الثالثة من مسيرة الميهي على الإطلاق، فهو “قليل من الحب كثير من العنف”، الذي يعد تجريبيا بامتياز ويقوم على سيناريو محكم وغير مسبوق لا يمكن أن يصدر إلا عن فنان كبير.. ولعل التردد بلغ بالميهى أشده وهو يفكر فى كيفية معالجة رواية الكاتب الكبير فتحى غانم التي تحمل نفس الاسم، فأخذ يسأل نفسه: هل يعالجها بالطريقة الميلودرامية التقليدية أم بالطريقة العبثية التى أحبها واعتاد عليها؟ ثم قرر فى النهاية، بعد أن أعياه التفكير، أن يقدم المعالجتين معا فى فيلم واحد، وهذا فى حد ذاته عبث يرضيه ويرضى من ينتظرون منه دائما الجنون (الفنى طبعا). فماذا كانت نتيجة هذه المغامرة؟
كانت النتيجة عملا جيدا يعد أول فيلم فى تاريخ السينما المصرية – وربما العالمية – يقدم معالجتين مختلفتين تماما لنفس القصة على نفس الشريط بفريقين مختلفين من الممثلين، فيما عدا ممثلة واحدة (ليلى علوى) تلعب نفس الدور فى المعالجتين، فكأنها تلعب شخصيتين مختلفتين تماما للاختلاف الكبير فى ملامح وخصائص الشخصية فى كل معالجة.
عهد الميهى إلى ثلاثى وسيم من الفتيان الأوائل (محمود حميده – هشام سليم – هشام عبد الحميد) ببطولة المعالجة الميلودرامية، وإلى ثلاثى كوميدى (يونس شلبى – نجاح الموجى – أشرف عبد الباقى) ببطولة المعالجة العبثية، وهو ما يعنى تلقائيا أن المعالجة الأولى ميلودرامية يشوبها الدمار والدموع، وأن المعالجة الثانية تتفجر بالمفارقات الكوميدية والسخرية المريرة.
ودون أن يشعر (وربما عن عمد)، يتحيز المخرج للمعالجة الميلودرامية، فيعطيها مساحة أكبر، ويختار أن ينهى الفيلم بنهايتها، ربما لأنه يهدى الفيلم – فى نهايته وليس بدايته – للمخرج الكبير صلاح أبو سيف، وهو من نجوم الميلودراما.
أما البداية فقد انشغل خلالها الميهى بأزمة السينما، وقضية السينمائيين، وأنشأ ما أسماه “مقبرة السينمائيين”، التى يُدفن فيها أهل السينما أحياء، أو يدفنون أنفسهم بكامل إرادتهم. ويستغل الميهى هذه المشاهد الأولى لضرب عصفورين بحجر واحد: توجيه صرخة السينمائيين إلى من يهمه الأمر، ومساعدة المشاهدين على الانتقال من معالجة إلى الأخرى، غير أنه – وفى منتصف الفيلم تقريبا، يرفع هذه المساعدة وينتقل بين المعالجتين دون فاصل، وهذا أفضل.
ولا شك أن أفضل مشهد تم فيه هذا الانتقال المباشر – ولعله أفضل مشاهد الفيلم – هو المشهد الذى تحتضن فيه ليلى علوى هشام سليم ثم يتسع الكادر لنجدها تحتضن نجاح الموجى الذى يقوم بدور هشام فى المعالجة العبثية، وهو أيضا أحسن مشاهد ليلى علوى من حيث الأداء، فهى تتحول أمام المشاهدين من النسخة الميلودرامية لشخصيتها إلى النسخة العبثية فى يسر وتمكن.
يدور الصراع فى المعالجتين بين ثلاثة رجال على شخصية “فاطمة زكريا الأفيونجى” التى تلعبها ليلى علوى فى الحالتين.. والذى يدفعنا إلى تسمية إحدى المعالجتين “ميلودرامية” والأخرى “عبثية” هو نهاية كل منهما، فالمعالجة الأولى تنتهى بالكثير من العنف والدماء وبطريقة ميلودرامية (مصرع فاطمة وأحد الرجال الثلاثة وتلويث ملابس الجميع بالدماء)، بينما تنتهى المعالجة الثانية نهاية عبثية (أغنية “فخفخينا” فى أحضان الإسكندرية واتفاق الرجال الثلاثة على “اقتسام” فاطمة).
والشيء الممتع فى “قليل من الحب كثير من العنف” أنه يشعرك أن الميهى يصطحب معه شخصيات فتحى غانم إلى الملاهى ويمررها أمام “المرايا المسحورة” فتطول أو تقصر أو تسمن أو ترفع بصورة تثير الضحك والكثير من المرارة أيضا.. فشخصية “طلعت” يلعبها محمود حميده بوسامته ويونس شلبى بخفة ظله وشكله المميز، ونفس الازدواجية فى شخصية “يونس” التى يلعبها هشام سليم ونجاح الموجى، وشخصية “سيد” التى يلعبها هشام عبد الحميد وأشرف عبد الباقى بالإضافة إلى شخصية “فاطمة” التى تلعبها ليلى علوى بطريقة “خلطة المحشى” وأيضا بطريقة الكمبيوتر التى تجعلها تنجب كل شهر مثل الأرانب!
وتمتد لعبة المرايا إلى الشخصيات الثانوية، فشخصية “مرسى” التى يقدمها عطية عويس بكل وقار وجدية، تصبح أمام المرآة قزما “لكن واصل” كما ورد على لسان نجاح الموجى، وشخصية “صفوت” يلعبها حسن كامى بكل عنجهية وتتحول فى نفس الوقت إلى شخص صامت مريب يتحدث مع الناس عبر جهاز التسجيل وبصمات الصوت.. أما أبلغ مثال على لعبة المرايا فهو شخصية شقيقة يونس التى تلعبها الرقيقة عزة بهاء وتتحول فى المعالجة العبثية إلى السمينة فاتن شعبان، التي اشتهرت وقت عرض الفيلم بعمل إعلان لنوع من الحلاوة الطحينية!
وبرر الميهي ظهور الفيلم بفريقين من الممثلين وبمعالجتين وكأنه فيلمان فى فيلم واحد بأن الرواية تبدأ بعد حرب الخليج، وأنه أراد أن يبرز حالة الشيزوفرينيا التى أصابت العالم العربى كله بسبب هذه الأزمة.. فكان لابد من هذا الشكل الجديد الذى يعبر عن المضمون.. ثم تساءل: “لماذا لا أتشجع وأقدمه، هل يجب أن أنتظر حتى يقدمه الغرب حتى أقلده؟”.
ولم يرجع صاحب الفيلم نجاحه تجاريا إلى استيعاب الناس للشكل الجديد، بل نسب الفضل لفريق النجوم الذي شارك في البطولة، قائلا: “أعتقد أن فريق الممثلين له دور، فالشكل صدم المشاهد إلى حد كبير لأنه غير معتاد عليه.. وبالمناسبة هو شكل غير مسبوق ويعتمد على إقامة (ماراثون) بين الممثلين ولم يقدم من قبل لا فى السينما المصرية ولا فى السينما العالمية، ولذلك أرهق المشاهد.. أعتقد أننى كنت قاسيا جدا على المشاهد لأن الفيلم – إلى جانب الشكل غير المألوف – به كمية كبيرة من القلق والتوتر والمتلقى بدوره به ما به منهما ولا يتحمل المزيد.. ولذلك قررت أن أقدم، فى مرحلة ما بعد (قليل من الحب)، لونا آخر يميل إلى الكوميديا”.
وربما يكون ذلك مبرر الميهي لإخراج “ميت فل”، و”تفاحة” و”ست الستات”، في محاولة “لتخفيف الجرعة” بعض الشيء.. وعندما سألته إن كان سعى بذلك لمصالحة الجمهور، قال: “لا، أتراجع فقط خطوتين لكى أتمكن من الانطلاق مرة أخرى.. ليس تراجعا فنيا ولكنه (تراجع طموح).. ثم أن الجمهور ليس له ذنب فى قضيتى الشخصية”.
إنه من “آخر السينمائيين المحترمين” الذين يضعون الجمهور في حسبانهم، لا بحسابات التجارة و”خلطاتها السرية” التي يظن بعض السينمائيين والمنتجين أنهم يحتكرونها، ولا بشعار “الجمهور عايز كده” المقيت، ولكن بحسابات التلقي التي يجريها مبدع كبير ليعرف أين يقف من جمهوره، وأين يقف جمهوره منه، وما إذا كان “قاسيا” على ذلك الجمهور من عدمه، رغم أنه أثرى السينما المصرية والعربية كاتبا للسيناريو ومخرجا ومنتجا تحت ظروف فى غاية الصعوبة والقسوة، ولم يهتم أحد بمعاناته ولم يمد له أحد يد العون.
ظنه الجميع يريد الحصول على لقب “مخرج” ليزين به صدره عندما بدأ مسيرة الإخراج إلى جانب كتابة السيناريو، لكن كانت لديه حسابات فنية دقيقة تصب في صالح الدراما التي يقدمها، والحرية المطلقة التي يحلم بها، من دون أي رغبات نرجسية أو أطماع ديكتاتورية.. وعندما سألته عن أقرب مظاهر إبداعه إلى نفسه، لم يختر “المخرج”، بل قال على الفور: “طبعا كاتب السيناريو”. وأضاف: “هذه هى لحظة الإبداع الأولى والحقيقية.. المخرج مايسترو يعزف سيمفونية أبدعها السيناريست، لكن هذا لا يعنى أنه أقل قيمة، فأنت قد تحب أن تسمع سيمفونية من مايسترو معين ولا تحب أن تسمعها من مايسترو آخر”.
وعندما أقدم على الإنتاج، ظنه الجميع ساعيا للربح المادي، لكنه كانت له وجهة نظر فنية بحتة ليست لها أي علاقة بالمعايير التجارية: “اقتحمت مجال الإنتاج من أجل المزيد من السيطرة على موضوعى، وحتى لا أحمل المنتج تبعاته.. أردت أن أتحمل وحدى مسئولية تجريبى وتجديدى لاسيما فى لون الفانتازيا”.
خاض – كمنتج – مغامرة غير مضمونة العواقب بتقديم مجدى أحمد على كمخرج لأول مرة فى “يا دنيا يا غرامى”، حيث لم يكن الأخير له اسم في السوق كما يقولون، وكان قادما بدوره من مجال كتابة السيناريو، لكن الميهي كانت له مبرراته التي توضح إلى أي مدى تصل موضوعيته: “مجدي كتب قبل أن يخرج سيناريو فيلم (ضحك ولعب وجد وحب) وعمل مساعدا لجميع المخرجين الذين كانوا موجودين على الساحة، وأنا اكتشفته كمخرج وأفخر بأنني قدمته (هدية) للسينما المصرية.. وقد جاء فيلمه الأول شديد الرقة والنعومة والجمال”.
ورغم كل ما قدم، لم يشعر يوما – مثل أي فنان حقيقي وأصيل – بالرضا الكامل، ولا بالاطمئنان والاستكانة : “أنا قلق، ولست راضيا.. لكن ما قدمته هو أقصى ما استطعت أن أفعله فى الظروف التى مررت بها.. أنا فخور بكل أفلامى، ولكن السؤال: ماذا أفعل غدا؟ أنا (مرعوب من بكرة). لا أريد أن أكرر نفسي.. عندى طاقة خيال أريد أن أفتحها ولكننى قتلت خيالى بنفسى لضعف الإمكانيات، فالخيال معناه المزيد من المال، ومعاناتى الآن أننى أخنق خيالى بيدى.. عندى أكثر من أربعة موضوعات وهناك استحالة أن أنفذها.. ومن قبيل (الإجرام) أن أطلب من منتج آخر أن ينفذها”.
وربما لذلك ابتعد عن الإخراج للسينما منذ أن قدم آخر أفلامه “شرم برم” عام 2007، والذي لم يحقق النجاح المطلوب، شأنه في ذلك شأن أفلامه الثلاثة السابقة عليه: “علشان ربنا يحبك” و”ست الستات” و”ميت فل”. أخرج مسلسلا واحدا للتليفزيون هو “وكالة عطية” عام 2009 عن رواية للكاتب الكبير الراحل خيري شلبي، لكنه لم يستطع أن يضبط بوصلته الفنية الدقيقة على اتجاهات السوق الإعلانية التليفزيونية المتوحشة، ولم يجد نفسه في التجربة فلم يكررها.
وحتى تكتمل رسالته، أنشأ أكاديمية “فنون وتكنولوجيا السينما” التي تحمل اسمه لتدريس الفن السابع، وتضم أقسام الإخراج والسيناريو والمونتاج، ليضيف إلى “أدواره” السينمائية التي لا تنسى دور الأستاذ الأكاديمي الذي يحرص على نقل خبراته الكبيرة إلى الأجيال الجديدة من السينمائيين.
ولأن قلوب المبدعين الحقيقيين لا تحتمل كل هذا القلق وكل تلك الضغوط، فقد مرض قلب رأفت الميهي، وأجرى فيه عمليتين جراحيتين، إحداهما عملية قلب مفتوح.. كما دخل العناية المركزة بمستشفى “الهلال” في أغسطس 2012 بعد أن أجرى عملية جراحية فى مفصل الحوض إثر تعرضه لكسر. وظل يصارع المرض إلى أن رحل في 24 يوليو 2015.
بقلم
يشعر من يتتبع مسيرة فنان السينما الكبير رأفت الميهي بأن هناك أكثر من سينمائي مصري يحملون نفس الاسم، ليس فقط لتعدد “الأدوار” التي قام بها في تاريخ السينما المصرية، كسيناريست ومخرج ومنتج وأستاذ أكاديمي، ولكن أيضا لتعدد التحولات الحادة في مسيرته والأنواع السينمائية التي قدمها، وتنوع الأساليب التي استخدمها، سواء ككاتب للنص السينمائي أو كمنفذ له برؤية شديدة الخصوصية وروح ساخرة لم تفارق معظم أعماله، وإن كانت تحمل قدرا كبيرا من المرارة.
رأفت الميهي، المولود في 25 سبتمبر 1940، ينتمي إلى جيل من المثقفين المصريين تفتح وعيه على ثورة يوليو 1952، وتربى على قيمها ومبادئها، وعاش انتصاراتها وانكساراتها، وصدمته نكستها في يونيو 1967، ولم يكد يستعيد توازنه بعد انتصار أكتوبر 1973 حتى أصابه الإحباط والحيرة مع تطبيق سياسة الانفتاح الاقتصادي في منتصف السبعينيات من القرن الماضي، بكل ما رافقه من فساد اقتصادي واجتماعي وسياسي، وبكل ما تسبب فيه من زيادة نسبة الفقر، واتساع الهوة بين الفقراء والأغنياء، وتلاشي مفهوم العدالة الاجتماعية، ربما إلى يومنا هذا.
بدأ مشواره عام 1966 بكتابة السيناريو، حين كان شابا في السادسة والعشرين، وفي هذه المرحلة المبكرة كانت أعماله تعبيرا سينمائيا بليغا عن التحولات والتطورات الوطنية الحادة والمتلاحقة، في فترة “درامية” بامتياز من تاريخ مصر، هوت من ذروة وفورة الحلم القومي السعيد، بعد انتصار واستقرار ثورة 1952، إلى سفح ومستنقع النكسة، وبمعنى أدق: الهزيمة.. ومن قمة الشعور بالفخر الوطني بعد انتصار 1973، إلى حضيض فساد الانفتاح، الذي وصفه الكاتب الكبير الراحل أحمد بهاء الدين بأنه “سداح مداح”.
ويمكن اعتبار الفترة من 1966 إلى 1975 المرحلة الأولى من مسيرة رأفت الميهي، حين كان القلم الأمين المعبر عن هذه التحولات الدرامية، والعين التي رصدت تلك المتغيرات المصرية المتلاحقة خلال فترة قصيرة من الزمن، بوعي المثقف اليساري الذي يشعر بأن من واجبه تصفية حساب وطنه – وحساب جيله وحسابه هو شخصيا – مع فترة ما قبل ثورة 1952، ومع هزيمة 1967، ومع سياسة الانفتاح الاقتصادي وغيرها.
خلال تلك الفترة، كتب الميهي السيناريو والحوار، أو قام بالتأليف الكامل، لمجموعة من الأفلام المهمة التي دخل بعضها تاريخ السينما المصرية، ومنها “غروب وشروق” (1970)، و”شيء في صدري” (1971)، و”على من نطلق الرصاص” (1975)، وكلها من إخراج الكبير كمال الشيخ، الذي كوّن مع الميهي خلال هذه الفترة ثنائيا لا ينسى كان بمثابة ضمير سينمائي للوطن.. وفي هذه المجموعة من الأفلام، اعتنى الميهي بالحوار، وحوله في بعض الأحيان إلى محاكمات حقيقية لعهود أو أشخاص، من دون مضايقة المشاهد بالتعبيرات الإنشائية أو الشعارات الجوفاء، ومن دون إصابته بالملل.. وفيها أيضا اتبع طرقا في السرد مختلفة عما كان سائدا في السينما المصرية في ذلك الوقت، أبرزها في رأيي التوظيف الجيد لأسلوب العودة إلى الماضي (الفلاش باك)، بطريقة تجعل منه جزءا لا يتجزأ من البناء الدرامي، وليس زائدة يمكن الاستغناء عنها ببعض الجمل الحوارية، كما هي الحال في العديد من الأفلام السابقة واللاحقة.
وتميز أسلوبه في كتابة السيناريو خلال تلك الفترة أيضا باستخدام الإسقاطات والرموز الفنية، لكن بطريقة غير مباشرة تبتعد عن الفجاجة التي استخدم بها غيره الرموز خلال نفس الفترة وفي فترة سابقة عليها.. وعلى سبيل المثال، في المشهد الأخير من تحفة الشيخ والميهي “غروب وشروق”، تقف البطلة المستهترة التي تدفع ثمن استهتارها غالياً في عهد ما قبل الثورة (سعاد حسني) في النافذة وتزيح الستار قليلاً لكي تتابع – بعينين مبتلتين بالدموع – زوجها وصديقه (رشدي أباظة وصلاح ذو الفقار) وهما يغادران حديقة القصر بعد نهاية والدها رئيس القلم السياسي (محمود المليجي) وتدمير حياتها هي بالكامل.. عيناها تلخصان المأساة كلها من دون كلمة واحدة.. بعد خروجهما، تسحب يدها لينسدل الستار بسرعة على حياتها وعلى الفيلم كله.
هذه اللقطة البارعة لا تنهي المشهد أو الفيلم فقط، بل تنهي عصرا كاملا وتعلن بداية عصر جديد بشكل سينمائي بليغ وغير مباشر، شأن العديد من اللقطات والمشاهد الأخرى في سيناريوهات رأفت الميهي.
وفي “شيء في صدري”، صراع درامي نادر بين “الباشا” الفاسد عديم الأخلاق (رشدي أباظة)، و”الأفندي” رمز الشرف والاستقامة (شكري سرحان)، وتعود خصوصية الصراع إلى عدم وجود الأفندي أصلا، حيث يموت تاركا طيفه يطارد الباشا ليلا ونهارا، ويحول حياته إلى جحيم، مما يحول بدوره الميلودراما التقليدية المعهودة في مثل تلك القوالب إلى ما يشبه الدراما النفسية شديدة التعقيد، والتي تتطلب في كتابتها قدرا كبيرا من الوعي والمهارة والموهبة.
في الفيلمين السابق ذكرهما، أعد الميهي السيناريو والحوار عن أصلين أدبيين لجمال حماد وإحسان عبد القدوس على الترتيب، أما في الفيلم الثالث الذي يجب التوقف عنده، “على من نطلق الرصاص”، فكتب القصة والسيناريو والحوار، للتعبير عما يمكن تسميته “أزمة جيل النكسة” من شباب المثقفين، الذين أصابتهم الهزيمة بالإحباط واليأس والحيرة، وخرجوا – أثناء دراستهم الجامعية أو بعد انخراطهم في سوق العمل – في مظاهرات للمطالبة بالحقوق السياسية ومحاسبة المسئولين عن الهزيمة العسكرية، ثم صدمتهم – بعد سنوات قليلة – سياسة الانفتاح الاقتصادي وتداعياتها.
من هؤلاء “مصطفى” (محمود ياسين)، الذي اعتقل مرتين عامي 1964 و1967 لمشاركته في مظاهرات تطالب بالمزيد من الحريات وتقديم المسئولين الحقيقيين عن النكسة للمحاكمة وإعادة جميع الأحزاب بما فيها الحزب الشيوعي، وخضع للعلاج النفسي بعد إصابته بمرض عصبي إثر تعذيبه في المعتقل.. ولدينا صديقه المهندس “سامي” (مجدي وهبه)، الذي تلفق له تهمة التسبب في سقوط مشروع للإسكان الشعبي ويسجن ثم يتم قتله في السجن بالسم.
ينتمي “على من نطلق الرصاص” إلى نوعية “الفيلم نوار” أو البوليسي القاتم، ويشهد تطبيقا مبكرا لمبدأ “الحل الفردي”، حيث يطلق “مصطفى” الرصاص على “رشدي”، رئيس شركة الإسكان (جميل راتب)، انتقاما لصديقه الذي قتله “رشدي” وتزوج خطيبته “تهاني” (سعاد حسني).. ويقدم الميهي في الفيلم مصيرا قاتما بدوره لجيل الهزيمة، حيث يموت “مصطفى” – كما مات صديقه – بعد أن صدمته سيارة أثناء هروبه من مسرح إطلاق الرصاص على “رشدي”، وتنهار حياة “تهاني” بالكامل بعد اكتشافها حقيقة زوجها الذي تحول من مجني عليه في واقعة إطلاق الرصاص إلى جان في جريمتي قتل “سامي” والغش في بناء المساكن الشعبية.
رسالة الفيلم شديدة الوضوح، وتصلح لكل زمان ومكان، وهي أنه يجب إطلاق الرصاص على “القطط السمان” من مصاصي دماء الشعوب، وليس على المجني عليهم من أبناء هذه الشعوب.. ويكشف الفيلم عن رؤية ثاقبة لرأفت الميهي تتجاوز حدود تصفية الحساب مع الماضي وتحليل الحاضر إلى استشراف المستقبل، وتتجلى في صرخة أطلقتها “تهاني” (سعاد حسني) في النهاية بعد أن اكتشفت الحقيقة: “الناس دي كلها ماتت ليه.. ماتت ليه.. الناس دي كلها بتموت ليه؟”، وكأنها صرخة يتم إطلاقها على خلفية ما تشهده مصر هذه الأيام.
ينهي “على من نطلق الرصاص” المرحلة الأولى من مسيرة رأفت الميهي، والتي أدلى فيها بشهادته عن فترة حرجة من تاريخ مصر، ثم توقف ليلتقط الأنفاس ويعيد الحسابات وترتيب الأوراق، حيث لم يقدم أي عمل سينمائي من 1975 إلى 1981.. وعندما عاد، كان كل شيء قد تغير، سواء على المستوى الوطني أو على مستواه هو شخصيا، ومستوى قناعاته الفكرية والفنية.
على المستوى الوطني، تولى الرئيس المخلوع حسني مبارك الحكم في عام عودة الميهي إلى السينما، وبدأ فترة حكمه بإشارات اعتبرها المثقفون – ومنهم السينمائيون – إيجابية، ومنها الإفراج عن المعتقلين السياسيين، وإعلانه رغبته في ألا تزيد مدة حكمه عن فترتين، ورفضه النفاق والمنافقين، وانعكس التجاوب معه في تخلي السينما المصرية عن أفلام الهزل وتصفية الحسابات التي كانت قد سادت في السبعينيات، ومحاولتها النزول إلى الواقع للتعبير عنه، فظهر ما سمي بعد ذلك – مع تحفظي شخصيا على التسمية – “الواقعية الجديدة”، وصعد نجم عدد من المخرجين المتميزين، سواء الذين بدأوا في الثمانينيات أو قبلها بسنوات قليلة، مثل عاطف الطيب ومحمد خان وداود عبد السيد وخيري بشارة وسمير سيف، وشهد عقد الثمانينيات صناعة عدد من تحف وكلاسيكيات السينما المصرية.
وعلى المستوى الشخصي، اتخذ الميهي في بداية الثمانينيات قرار الاتجاه للإخراج إلى جانب التأليف والإنتاج، ليصبح – في المرحلة الثانية من مسيرته السينمائية – أحد فرسان “الواقعية الجديدة” وأحد أبرز وجوهها.. ويبدو أن القرار كان استجابة للتحولات السياسية والاجتماعية من حوله، ولتحولاته الشخصية التي فرضت عليه أن يعبر عن أفكاره وآرائه في تلك التطورات بشكل أكثر حرية ووضوحا.. وكنت سألته – في حوار أجريته معه ونشر في “الأهرام المسائي” بتاريخ 30 يوليو 1995 – عن أسباب تحوله للإخراج، فرد قائلا: ” هذا تحول طبيعى جدا لأن معظم المخرجين قادمون إما من السيناريو أو من المونتاج.. طبيعى أن (سكة) السيناريو توصل إلى الإخراج.. وأيام كنت كاتبا للسيناريو فقط، كان الناس يقولون عنى إننى (مشروع مخرج) لأننى كنت أكتب الفيلم كاملا بكل تفاصيله على الورق.. ثم أننى فى لحظة ما شعرت برغبة داخلية فى أن أمتلك قيادة سفينتى وان أميل إلى التعبير الذاتى فى أفلامى وأن أقدم رؤيتى الخاصة التى يصعب على المخرجين الآخرين أن يقدموها.. وذلك رغم أننى لا أشكو من المخرجين الذين عملوا معى على الإطلاق، فقد قدموا جميعا أفلامى كما كتبتها على الورق تماما”.
تمتد المرحلة الثانية من مسيرة الميهي من 1981 إلى 1987، وخلالها أصبح “صانعا للأفلام” يكتب وينتج ويخرج، وقدم ثلاثة أفلام مهمة لا يمكن إغفالها، سواء في تيار الواقعية الجديدة أو في تاريخ السينما المصرية بشكل عام.. فقد عرض عام 1981 فيلم “عيون لا تنام”، أولى تجاربه الإخراجية، مستوحياً السيناريو من مسرحية “رغبة تحت شجرة الدردار” ليوجين أونيل، غير أن الفيلم مختلف تماما عن أحداث وأجواء المسرحية الأمريكية، حيث قدم الميهي معالجة جديدة لهذا العمل الأدبي الشهير، وغيَّر في الأحداث وفي بناء الشخصيات وعلاقاتها. وعن ذلك قال: “أنا مسئول عن نص (عيون لا تنام) من أوله إلى آخره.. فأنا لست ناشراً، ولا أعيد نشر رواية، بل أتناولها وأكتب وجهة نظري الخاصة”.
أضفى الميهي نكهة ملحمية على فيلمه الأول كمخرج، وحمّله أفكارا تعتمد أساساً على الرغبات المرتبطة بالطبيعة الإنسانية، ومنها الشهوة، والطمع، وحب التملك. ولكنه قدمها بعيون ناقدة ومتفهمة لمدى خطورة هذه الرغبات، فهي عندما تسيطر على الإنسان تحطمه وتقضي عليه.
وبعد 17 عاما كاملة من بدء مسيرته، شهد عام 1983 أول موعد للميهي مع الكوميديا التي ارتبط بها وارتبطت به فيما بعد طويلا، وإن كان الفيلم الذي بدأ به مشواره معها – “الأفوكاتو” – ينتمي إلى ما يمكن اعتباره “كوميديا سوداء”، حيث يتناول بسخرية مريرة مجتمع الفهلوة والشطارة المادي الذي أفرزته سياسة الانفتاح الاقتصادي، من خلال المحامي الألعبان “حسن سبانخ” (عادل إمام) الذي يحاول التأقلم مع أوضاع السجن أثناء قضائه عقوبة الحبس لمدة شهر بسبب إهانته المحكمة فى إحدى القضايا.
يتمكن “سبانخ” من إقامة العديد من علاقات البيزنس البهلوانية أبرزها مع تاجر المخدرات حسونة محرم، وسليم أبو زيد أحد مراكز القوى فى الستينيات، ويلعب على جميع الحبال، ويبدأ فى تحريك النظام القضائى وأوضاع المجتمع المقلوبة كعرائس الماريونيت. ينجح فى إخراج حسونة محرم من السجن “زى الشعرة من العجين”، وإعادته لواجهة المجتمع مرة أخرى، ليس من أجل “سواد عيونه” ولكن تمهيداً لقيام “سبانخ” نفسه بالنصب على حسونة فى “خبطة العمر”، حيث تضمنت خطته دخول المستشفيات والاتجار فى العملة، و تزويج شقيقة زوجته لحسونة، إلا أن الأخير ينجح فى الإيقاع بالمحامى البهلوان وإرغامه على دخوله السجن.. ولأن سبانخ لاعب أكروبات، فإنه سرعان ما يستأنف نشاطه من داخل أسوار السجن، متحالفاً مع سليم أبو زيد فى عملية جديدة وحياة “ملتوية” جديدة.
تلك كانت رؤية الميهي الساخرة لمجتمع ما بعد الانفتاح، والتي أتبعها برؤية ميلودرامية شجية لمجتمع الثمانينيات في فيلمه الجميل “للحب قصة أخيرة”، الذي يعتبره الكثيرون – وأنا منهم – من أهم الأفلام في تاريخ السينما المصرية.. ورغم أنه يُصنف ضمن أبرز أعمال ما يسمى بتيار الواقعية الجديدة، إلا أنني أرى أنه ينتمي أكثر إلى الواقعية السحرية، بفضل أبعاده الروحية والميتافيزيقية، والأجواء الغامضة الساحرة لجزيرة الوراق التي تدور فيها أحداثه، وأسلوب تنفيذه تقنيا، ومعالجته دراميا ليصبح مزيجا من العلاقات الإنسانية المتناقضة، ومن الحب والكراهية، الحياة والموت، الوضوح والغموض، الصدق والزيف، الصحة والمرض، الخرافة والعلم.
قدم الميهي الفيلم في منتصف الثمانينيات، ومنتصف مسيرته السينمائية، ليكون شاهدا على وصوله إلى ذروة نضجه الفني، حيث أعتبر “للحب قصة أخيرة” أهم أفلامه على الإطلاق، سواء على مستوى التأليف أو الإخراج، لتعدد مستويات تلقيه، وتحميله رسائل ومعان شديدة الأهمية من دون مباشرة ولا فجاجة ولا صوت عال.. يضعنا الفيلم في مواجهة المرض والموت من خلال المدرس المثقف “رفعت” (يحيى الفخراني)، المريض بالقلب والذي ينتظر الموت في أي لحظة، لكنه يقرر أن يكذب على زوجته “سلوى” (معالي زايد) – بالاشتراك مع طبيب الجزيرة “حسين” (عبد العزيز مخيون) – ويوحي لها بأنه شُفي.. وتظن الزوجة أن “المعجزة” من “كرامات” الشيخ “التلاوي” الدجال الذي كانت قد لجأت إليه بعد أن أقام له أهل الجزيرة “مولد” إثر عودته إلى الحياة من الموت!
وعندما يموت “رفعت” في مشهد بليغ، وتنكشف حقيقة التلاوي، تذهب “سلوى” – في النهاية – إلى مقر الدجال وتحطمه بالفأس، في واحد من أهم مشاهد الفيلم، لأنه دعوة مباشرة للتخلص من الغيبيات والخرافات التي تحكم تفكير وسلوك الكثير من المصريين وتعطل تقدمهم، مسلمين ومسيحيين، حيث يشير الفيلم إلى جارة مسيحية طيبة تدعى “دميانة” تأتي ب”البشارة” على طريقتها بأن الله سينجي “رفعت”.
ويحسب لرأفت الميهي أنه كان – في ذلك الفيلم – من أوائل الذين نبهوا إلى خطورة تجار ومهاويس الدين، قبل سنوات قليلة جدا من موجة الإرهاب الديني الأسود التي ضربت مصر في بدايات التسعينيات من القرن الماضي.
وعلى مستوى آخر من التلقي، يطرح الفيلم قضايا فلسفية مثل الحياة والموت، وهناك معادل موضوعي للشاب الذي ينتظر الموت المؤكد – ورغم ذلك يتفاءل ويتمسك بالأمل – يتمثل في والدة الطبيب البالغة من العمر 95 عاما، والتي تظل وابنها يتوقعان الموت لمدة 15 عاما من دون أن يأتي، ويكون موتها بعد ذلك نذيرا بموت البطل.. ومقابل المدرس الحيّ / الميّت، هناك الميّت / الحيّ، المتمثل في شاب من أبناء الجزيرة يُقتل في حادث، ورغم ذلك يظل والده (عبد الحفيظ التطاوي) ينتظره كل ليلة – على مدار 15 عاما – عند “المعدية” التي تربط الجزيرة بالعالم الخارجي.
ويرمز المدرس المريض بالقلب للمثقف المأزوم الذي لا يستطيع تحمل الضغوط المحيطة به، حتى أنه من فرط اليأس والإحباط يفكر في فكرة تناسخ الأرواح، على أمل أن تعيش روحه بالشكل الذي يريده ويحلم به في جسد آخر بعد موته.. لكن الحقيقة أن الفيلم لا يتمسك بذلك الأمل، ولا يترك للمشاهد سوى الشجن النبيل الذي من المفترض أن يدعوه للتأمل وإعادة الحسابات.
ورغم التميز الفني الواضح لفيلمي “الأفوكاتو” و”للحب قصة أخيرة”، اللذين قدمهما الميهي في قمة توهجه الفني خلال ثلاث سنوات فقط (من 1983 إلى 1985)، إلا أنه لم يسلم من أعداء الإبداع من خفافيش الظلام، الذين أشهروا في وجهه سلاح محاكم التفتيش المصرية ولا حقوه قضائيا من دون أي مبرر.. فقد حوكم “الأفوكاتو” ومخرجه ومنتجه، وكذلك بطله (عادل إمام)، بتهمة “تشويه مهنة المحاماة”، وهي قضية كانت تعد – في ذلك الوقت – سابقة خطيرة في تاريخ السينما المصرية.
أما قضية “للحب قصة أخيرة”، فكانت أخطر، حيث اتهم المخرج وبطلا الفيلم (معالي زايد ويحيى الفخراني) ومنتجه (حسين القلا) بتهمة تصوير فعل فاضح وأحيلوا إلى نيابة آداب القاهرة. أما “الفعل الفاضح”، فكان مشهد حب جمع بين الزوجين في الفيلم، علماً بأن كل مشاهد الحب في ذلك العمل لم تكن لها أي علاقة بالإثارة، حيث كانت حزينة، تنعي علاقة عاطفية شاعرية مصيرها الموت.
بتلك القضية المؤسفة، انتهت المرحلة الثانية من مسيرة رأفت الميهي السينمائية، وبدأت المرحلة الثالثة عام 1987 بإخراجه فيلم “السادة الرجال”، وكانت – كالعادة – مختلفة تماما عن سابقتيها، ولابد من التوقف طويلا عندها، ليس فقط لأنها آخر مراحله واستقرت عندها شخصيته الفنية، ولكن أيضا لأنها شهدت أكثر تحولاته حدة، وأكبر كم من الصعوبات واجهها في مشواره.
من الواقعية، والواقعية السحرية، والدراما النفسية، و”الفيلم نوار”، والميلودراما، وكل الأنواع التي قدمها في المرحلتين السابقتين، إلى الفانتازيا والعبث المطلق والكوميديا الصرفة – “الفارص” إن شئت التعبير – في “السادة الرجال” وما تلاه من أفلام حتى فيلمه الأخير “شرم برم” (2007).. كيف حدث هذا التحول الحاد المفاجئ، الذي جاء بعد عامين فقط من تقديمه “للحب قصة أخيرة”؟
للإجابة، لابد من استعراض الأوضاع السياسية والاجتماعية والسينمائية أيضا في مصر في النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي، وفي عقد التسعينيات كله، وهي الفترة التي صنع خلالها الميهي معظم أفلامه الفانتازية أو العبثية، في رد محتمل على ما أحاط به من تطورات وما تعرض له من ضغوط.
كان الرئيس المخلوع حسني مبارك – بعد مرور بضع سنوات على توليه الحكم – قد بدأ يطرب للنفاق، ويحب المنافقين، ويلتصق بالكرسي، ويستعد للبقاء مدى الحياة.. وكان قد تحول إلى “زعيم” معزول في قصره لا يستمع ولا يثق إلا في البطانة السيئة المحيطة به.. وعلى أساس أن “الناس على دين ملوكهم”، انطلقت على الفور صناعة “الزعيم الأوحد” في كل مجال وقطاع على أيدي البطانات المنتفعة، وانسحب ذلك على السينما، فأصبح هناك زعيم للإخراج، وآخر للنقد السينمائي، وثالث للسيناريو.. إلى آخره.
وكما تجاوبت السينما مع الإشارات الإيجابية لمبارك في بداية فترة حكمه، تجاوبت مع الإشارات والممارسات السلبية التي ظهرت في دائرة سلطته وتزايدت بمرور السنوات، وبدأ السينمائيون يدركون أنه ليس الحاكم الذي تخيلوه أو تمنوه، وانعكس موقفهم الجديد على أعمالهم واختياراتهم.
وكانت التسعينيات عقدا مفصليا في تاريخ الوطن العربي، ومنطقة الشرق الأوسط، وفي فترة حكم مبارك بشكل خاص، ليس لأنها تتوسط هذه الفترة، ولكن لأنها شهدت حماقة غزو العراق للكويت، ثم تدمير العراق نفسه على أيدي الولايات المتحدة وحلفائها، في مأساة غيرت وجه المنطقة وموازين القوى والمصالح فيها إلى الأبد.. كما شهدت موجة الإرهاب الدموية التي اجتاحت مصر ودولا أخرى خلال النصف الأول من العقد، وتركت جرحا غائرا ما زلنا جميعا نحاول علاجه.
وكان من الطبيعي أن ينعكس كل ذلك على السينما، التي سرعان ما بدأت تخلع عباءة “الواقعية”، التي كانت قد ارتدتها في الثمانينيات، لنفورها من الواقع المرير.. وانعكس هروب السينمائيين المصريين من الواقع في اللجوء للترميز، والسينما الذهنية، التي قام أغلبها على أعمال أدبية، والعودة إلى التاريخ بشكل مشوه وممسوخ، كما فعل يوسف شاهين في “المهاجر” و”المصير”، وفي الدق على أبواب الدجل والشعوذة في أفلام مثل “البيضة والحجر” و”عتبة الستات”، وفي النقل عن الأفلام الأمريكية بلا حرج لتقديم “أكشن” ضعيف ومتهافت في أعمال مثل “الباشا” و”الإمبراطور” و”شمس الزناتي”.
وما يهمنا هنا، أن رفض الواقع والنفور منه انعكس أيضا في اللجوء إلى الفانتازيا كما فعل عدد من المخرجين منهم رأفت الميهي، ولا يعني ذلك بالضرورة أن هذا هو السبب الوحيد لتحوله الفني الحاد، فهناك بالتأكيد أسباب أخرى، منها قناعاته الشخصية، وتفاعله مع ظروف وشروط السوق – خاصة أنه يعمل بالإنتاج – وظروف وأجواء الأزمات التي عصفت بالسينما خلال تلك الفترة.
وقد تتعجل – كما فعلت أنا شخصيا في يوم من الأيام – وتصف هذه المرحلة بأنها الأضعف في تاريخ الميهي الطويل، وأنه لم يقدم خلالها ما يرقى لما حمل توقيعه منذ بدأ الكتابة للسينما وحتى ألّف وأخرج “للحب قصة أخيرة”، لكنك لابد أن تتروى قليلا قبل إصدار مثل هذا الحكم.. وربما تساعدك الكلمات التي وصف بها الفنان الكبير – في حواره معي – حال السينما والسينمائيين خلال تلك الفترة التي شهدت اتجاهه للعبث والكوميديا، حيث قال: “ظللت أكثر من 30 سنة (أهاتى) دون أن يشعر بى أحد ودون أن يستمع أحد.. حتى بدا لى أنه لا يوجد أمل فى الحل.. المشكلة أن هناك أناسا لا يحبون السينما ولا يدركون ما يمكن أن تضيفه للدخل القومى المصرى.. عندهم كنز ولا يعرفون كيف يستثمرونه.. نبحث عن البترول تحت الأرض وفوق الأرض صناعة هى الفريدة من نوعها فى الشرق الأوسط.. السينما يمكن أن تحقق مليار دولار سنويا.. وكما ندعم صناعة السياحة وصناعة البترول ونسافر إلى دول العالم لكى ندافع عن صناعة القمصان وتجارة البطاطس، يجب أن نعطى صناعة السينما – التى ليس لها منافس فى المنطقة – مثل هذا الدعم أو حتى نصفه لأنها ليست أقل من هذه الصناعات.. وليس معنى ذلك أن ينتج القطاع العام، بل يعنى ان السينما تحتاج إلى دفعة قوية من الدولة تشمل مجموعة من القرارات والقوانين لتشجيع الاستثمار.. يجب أن يفهم المستثمر أنه يستطيع أن يكسب من السينما أكثر مما يكسب من صناعة الجلود. لا أمل ولا حل سوى في إعادة النظر فى صناعة السينما برمتها، ووضع دراسة جدوى اقتصادية (مهما كانت تكلفتها) للسينما المصرية لعشر سنوات لكى نحدد بالضبط ما هو المطلوب لكل قطاع من قطاعاتها لتحقيق المرجو منها وتشجيع الاستثمار. أما السينمائيون فإنهم يفعلون أقصى ما فى استطاعتهم ويعملون فى ظروف بالغة الصعوبة.. ونوع من القسوة الإنسانية أن تطلب من السينمائيين أن يفعلوا المزيد.. هؤلاء الناس الذين يعشقون الفن ويعشقون السينما وينحتون فى الصخر ويصنعون أفلاما جيدة رغم الأوضاع المتردية للسينما وستوديوهاتها ومعاملها وقاعاتها، يستحقون أن نقيم لهم تمثالا مثل الجندى المجهول ونسميه (السينمائى المجهول). هل يعلم أحد أننا ننتج بقروض من البنوك ونعمل بدون حماية؟ المسئولون عن السينما أقاموا الصناعة وعملوا فيها طويلا لكن السن لها حكمها والقضية فى حاجة إلى خيال خصب شاب وقرار حاسم، قبل أن نتصور أن هناك من يخطط لضرب صناعة السينما المصرية ومن يستهدف تدمير المنتجين حتى يتوقفوا عن العمل”.
معنى ذلك أن هذا الفنان كان يعمل ويحاول ويكافح فى ظل أزمة طاحنة وظروف قاسية، رغم أنه كان من السهل تماما أن يؤثر السلامة والراحة والربح ويعمل فى “الفيديو كليب” أو الإعلانات مثل غيره، ولكنه واصل الجهاد، ولذلك فهو – على الأقل – يستحق التحية.. وإن كان ذلك لا يمنع أنني لم أعجب بأفلام مثل “ميت فل” و”تفاحة”، رغم فوز الثاني بهرم مهرجان القاهرة الذهبي عام 1996.
فقد بدا لي الاستسهال واضحا فى الفيلمين، وأخطر ما فيه استسهال الموضوع أو القضية المطروحة، وهى فى “ميت فل” استبدال الآباء، وفى “تفاحة” استبدال الأزواج، مع الاعتماد فى كليهما على أربع شخصيات رئيسية فحسب، بينهما علاقات غائمة وغير منطقية (وغير فانتازية أيضا)، وتقوم على مفارقات فجة وبدائية.. وفى الحالتين، لم تكن “القماشة” (بلغة السينمائيين) تصلح لأن تكون فيلما، وكان الإصرار عليها يستوجب تعويض ضعف الموضوع بالعمق، والإحساس، والجدة، واللغة السينمائية الراقية، لكن الفيلمين افتقدا إلى كل ذلك.
وعلى المستوى التقنى، تبدى الاستسهال (بالفيلمين أيضا) فى الصور المسطحة، والإضاءة العادية، وزوايا التصوير التقليدية، فضلا عن السيناريو غير الجدير بتوقيع الميهي.. ويبدو أن ما دفعه إلى الاستسهال هو السعى لتخفيض النفقات، والتوفير، وإنجاز الفيلم فى أسرع وقت ممكن، نظرا لظروف الإنتاج وشروط “القرض” التى تجبره – كما قال – على إنتاج عدد معين من الأفلام فى عدد معين من السنين، لكن حتى ذلك ليس مبررا مقنعا، فطالما أن النقود موجودة (بأية طريقة)، لماذا لا نستغلها فى صناعة أفلام جيدة؟
أما أفضل أفلام تلك المرحلة الثالثة من مسيرة الميهي على الإطلاق، فهو “قليل من الحب كثير من العنف”، الذي يعد تجريبيا بامتياز ويقوم على سيناريو محكم وغير مسبوق لا يمكن أن يصدر إلا عن فنان كبير.. ولعل التردد بلغ بالميهى أشده وهو يفكر فى كيفية معالجة رواية الكاتب الكبير فتحى غانم التي تحمل نفس الاسم، فأخذ يسأل نفسه: هل يعالجها بالطريقة الميلودرامية التقليدية أم بالطريقة العبثية التى أحبها واعتاد عليها؟ ثم قرر فى النهاية، بعد أن أعياه التفكير، أن يقدم المعالجتين معا فى فيلم واحد، وهذا فى حد ذاته عبث يرضيه ويرضى من ينتظرون منه دائما الجنون (الفنى طبعا). فماذا كانت نتيجة هذه المغامرة؟
كانت النتيجة عملا جيدا يعد أول فيلم فى تاريخ السينما المصرية – وربما العالمية – يقدم معالجتين مختلفتين تماما لنفس القصة على نفس الشريط بفريقين مختلفين من الممثلين، فيما عدا ممثلة واحدة (ليلى علوى) تلعب نفس الدور فى المعالجتين، فكأنها تلعب شخصيتين مختلفتين تماما للاختلاف الكبير فى ملامح وخصائص الشخصية فى كل معالجة.
عهد الميهى إلى ثلاثى وسيم من الفتيان الأوائل (محمود حميده – هشام سليم – هشام عبد الحميد) ببطولة المعالجة الميلودرامية، وإلى ثلاثى كوميدى (يونس شلبى – نجاح الموجى – أشرف عبد الباقى) ببطولة المعالجة العبثية، وهو ما يعنى تلقائيا أن المعالجة الأولى ميلودرامية يشوبها الدمار والدموع، وأن المعالجة الثانية تتفجر بالمفارقات الكوميدية والسخرية المريرة.
ودون أن يشعر (وربما عن عمد)، يتحيز المخرج للمعالجة الميلودرامية، فيعطيها مساحة أكبر، ويختار أن ينهى الفيلم بنهايتها، ربما لأنه يهدى الفيلم – فى نهايته وليس بدايته – للمخرج الكبير صلاح أبو سيف، وهو من نجوم الميلودراما.
أما البداية فقد انشغل خلالها الميهى بأزمة السينما، وقضية السينمائيين، وأنشأ ما أسماه “مقبرة السينمائيين”، التى يُدفن فيها أهل السينما أحياء، أو يدفنون أنفسهم بكامل إرادتهم. ويستغل الميهى هذه المشاهد الأولى لضرب عصفورين بحجر واحد: توجيه صرخة السينمائيين إلى من يهمه الأمر، ومساعدة المشاهدين على الانتقال من معالجة إلى الأخرى، غير أنه – وفى منتصف الفيلم تقريبا، يرفع هذه المساعدة وينتقل بين المعالجتين دون فاصل، وهذا أفضل.
ولا شك أن أفضل مشهد تم فيه هذا الانتقال المباشر – ولعله أفضل مشاهد الفيلم – هو المشهد الذى تحتضن فيه ليلى علوى هشام سليم ثم يتسع الكادر لنجدها تحتضن نجاح الموجى الذى يقوم بدور هشام فى المعالجة العبثية، وهو أيضا أحسن مشاهد ليلى علوى من حيث الأداء، فهى تتحول أمام المشاهدين من النسخة الميلودرامية لشخصيتها إلى النسخة العبثية فى يسر وتمكن.
يدور الصراع فى المعالجتين بين ثلاثة رجال على شخصية “فاطمة زكريا الأفيونجى” التى تلعبها ليلى علوى فى الحالتين.. والذى يدفعنا إلى تسمية إحدى المعالجتين “ميلودرامية” والأخرى “عبثية” هو نهاية كل منهما، فالمعالجة الأولى تنتهى بالكثير من العنف والدماء وبطريقة ميلودرامية (مصرع فاطمة وأحد الرجال الثلاثة وتلويث ملابس الجميع بالدماء)، بينما تنتهى المعالجة الثانية نهاية عبثية (أغنية “فخفخينا” فى أحضان الإسكندرية واتفاق الرجال الثلاثة على “اقتسام” فاطمة).
والشيء الممتع فى “قليل من الحب كثير من العنف” أنه يشعرك أن الميهى يصطحب معه شخصيات فتحى غانم إلى الملاهى ويمررها أمام “المرايا المسحورة” فتطول أو تقصر أو تسمن أو ترفع بصورة تثير الضحك والكثير من المرارة أيضا.. فشخصية “طلعت” يلعبها محمود حميده بوسامته ويونس شلبى بخفة ظله وشكله المميز، ونفس الازدواجية فى شخصية “يونس” التى يلعبها هشام سليم ونجاح الموجى، وشخصية “سيد” التى يلعبها هشام عبد الحميد وأشرف عبد الباقى بالإضافة إلى شخصية “فاطمة” التى تلعبها ليلى علوى بطريقة “خلطة المحشى” وأيضا بطريقة الكمبيوتر التى تجعلها تنجب كل شهر مثل الأرانب!
وتمتد لعبة المرايا إلى الشخصيات الثانوية، فشخصية “مرسى” التى يقدمها عطية عويس بكل وقار وجدية، تصبح أمام المرآة قزما “لكن واصل” كما ورد على لسان نجاح الموجى، وشخصية “صفوت” يلعبها حسن كامى بكل عنجهية وتتحول فى نفس الوقت إلى شخص صامت مريب يتحدث مع الناس عبر جهاز التسجيل وبصمات الصوت.. أما أبلغ مثال على لعبة المرايا فهو شخصية شقيقة يونس التى تلعبها الرقيقة عزة بهاء وتتحول فى المعالجة العبثية إلى السمينة فاتن شعبان، التي اشتهرت وقت عرض الفيلم بعمل إعلان لنوع من الحلاوة الطحينية!
وبرر الميهي ظهور الفيلم بفريقين من الممثلين وبمعالجتين وكأنه فيلمان فى فيلم واحد بأن الرواية تبدأ بعد حرب الخليج، وأنه أراد أن يبرز حالة الشيزوفرينيا التى أصابت العالم العربى كله بسبب هذه الأزمة.. فكان لابد من هذا الشكل الجديد الذى يعبر عن المضمون.. ثم تساءل: “لماذا لا أتشجع وأقدمه، هل يجب أن أنتظر حتى يقدمه الغرب حتى أقلده؟”.
ولم يرجع صاحب الفيلم نجاحه تجاريا إلى استيعاب الناس للشكل الجديد، بل نسب الفضل لفريق النجوم الذي شارك في البطولة، قائلا: “أعتقد أن فريق الممثلين له دور، فالشكل صدم المشاهد إلى حد كبير لأنه غير معتاد عليه.. وبالمناسبة هو شكل غير مسبوق ويعتمد على إقامة (ماراثون) بين الممثلين ولم يقدم من قبل لا فى السينما المصرية ولا فى السينما العالمية، ولذلك أرهق المشاهد.. أعتقد أننى كنت قاسيا جدا على المشاهد لأن الفيلم – إلى جانب الشكل غير المألوف – به كمية كبيرة من القلق والتوتر والمتلقى بدوره به ما به منهما ولا يتحمل المزيد.. ولذلك قررت أن أقدم، فى مرحلة ما بعد (قليل من الحب)، لونا آخر يميل إلى الكوميديا”.
وربما يكون ذلك مبرر الميهي لإخراج “ميت فل”، و”تفاحة” و”ست الستات”، في محاولة “لتخفيف الجرعة” بعض الشيء.. وعندما سألته إن كان سعى بذلك لمصالحة الجمهور، قال: “لا، أتراجع فقط خطوتين لكى أتمكن من الانطلاق مرة أخرى.. ليس تراجعا فنيا ولكنه (تراجع طموح).. ثم أن الجمهور ليس له ذنب فى قضيتى الشخصية”.
إنه من “آخر السينمائيين المحترمين” الذين يضعون الجمهور في حسبانهم، لا بحسابات التجارة و”خلطاتها السرية” التي يظن بعض السينمائيين والمنتجين أنهم يحتكرونها، ولا بشعار “الجمهور عايز كده” المقيت، ولكن بحسابات التلقي التي يجريها مبدع كبير ليعرف أين يقف من جمهوره، وأين يقف جمهوره منه، وما إذا كان “قاسيا” على ذلك الجمهور من عدمه، رغم أنه أثرى السينما المصرية والعربية كاتبا للسيناريو ومخرجا ومنتجا تحت ظروف فى غاية الصعوبة والقسوة، ولم يهتم أحد بمعاناته ولم يمد له أحد يد العون.
ظنه الجميع يريد الحصول على لقب “مخرج” ليزين به صدره عندما بدأ مسيرة الإخراج إلى جانب كتابة السيناريو، لكن كانت لديه حسابات فنية دقيقة تصب في صالح الدراما التي يقدمها، والحرية المطلقة التي يحلم بها، من دون أي رغبات نرجسية أو أطماع ديكتاتورية.. وعندما سألته عن أقرب مظاهر إبداعه إلى نفسه، لم يختر “المخرج”، بل قال على الفور: “طبعا كاتب السيناريو”. وأضاف: “هذه هى لحظة الإبداع الأولى والحقيقية.. المخرج مايسترو يعزف سيمفونية أبدعها السيناريست، لكن هذا لا يعنى أنه أقل قيمة، فأنت قد تحب أن تسمع سيمفونية من مايسترو معين ولا تحب أن تسمعها من مايسترو آخر”.
وعندما أقدم على الإنتاج، ظنه الجميع ساعيا للربح المادي، لكنه كانت له وجهة نظر فنية بحتة ليست لها أي علاقة بالمعايير التجارية: “اقتحمت مجال الإنتاج من أجل المزيد من السيطرة على موضوعى، وحتى لا أحمل المنتج تبعاته.. أردت أن أتحمل وحدى مسئولية تجريبى وتجديدى لاسيما فى لون الفانتازيا”.
خاض – كمنتج – مغامرة غير مضمونة العواقب بتقديم مجدى أحمد على كمخرج لأول مرة فى “يا دنيا يا غرامى”، حيث لم يكن الأخير له اسم في السوق كما يقولون، وكان قادما بدوره من مجال كتابة السيناريو، لكن الميهي كانت له مبرراته التي توضح إلى أي مدى تصل موضوعيته: “مجدي كتب قبل أن يخرج سيناريو فيلم (ضحك ولعب وجد وحب) وعمل مساعدا لجميع المخرجين الذين كانوا موجودين على الساحة، وأنا اكتشفته كمخرج وأفخر بأنني قدمته (هدية) للسينما المصرية.. وقد جاء فيلمه الأول شديد الرقة والنعومة والجمال”.
ورغم كل ما قدم، لم يشعر يوما – مثل أي فنان حقيقي وأصيل – بالرضا الكامل، ولا بالاطمئنان والاستكانة : “أنا قلق، ولست راضيا.. لكن ما قدمته هو أقصى ما استطعت أن أفعله فى الظروف التى مررت بها.. أنا فخور بكل أفلامى، ولكن السؤال: ماذا أفعل غدا؟ أنا (مرعوب من بكرة). لا أريد أن أكرر نفسي.. عندى طاقة خيال أريد أن أفتحها ولكننى قتلت خيالى بنفسى لضعف الإمكانيات، فالخيال معناه المزيد من المال، ومعاناتى الآن أننى أخنق خيالى بيدى.. عندى أكثر من أربعة موضوعات وهناك استحالة أن أنفذها.. ومن قبيل (الإجرام) أن أطلب من منتج آخر أن ينفذها”.
وربما لذلك ابتعد عن الإخراج للسينما منذ أن قدم آخر أفلامه “شرم برم” عام 2007، والذي لم يحقق النجاح المطلوب، شأنه في ذلك شأن أفلامه الثلاثة السابقة عليه: “علشان ربنا يحبك” و”ست الستات” و”ميت فل”. أخرج مسلسلا واحدا للتليفزيون هو “وكالة عطية” عام 2009 عن رواية للكاتب الكبير الراحل خيري شلبي، لكنه لم يستطع أن يضبط بوصلته الفنية الدقيقة على اتجاهات السوق الإعلانية التليفزيونية المتوحشة، ولم يجد نفسه في التجربة فلم يكررها.
وحتى تكتمل رسالته، أنشأ أكاديمية “فنون وتكنولوجيا السينما” التي تحمل اسمه لتدريس الفن السابع، وتضم أقسام الإخراج والسيناريو والمونتاج، ليضيف إلى “أدواره” السينمائية التي لا تنسى دور الأستاذ الأكاديمي الذي يحرص على نقل خبراته الكبيرة إلى الأجيال الجديدة من السينمائيين.
ولأن قلوب المبدعين الحقيقيين لا تحتمل كل هذا القلق وكل تلك الضغوط، فقد مرض قلب رأفت الميهي، وأجرى فيه عمليتين جراحيتين، إحداهما عملية قلب مفتوح.. كما دخل العناية المركزة بمستشفى “الهلال” في أغسطس 2012 بعد أن أجرى عملية جراحية فى مفصل الحوض إثر تعرضه لكسر. وظل يصارع المرض إلى أن رحل في 24 يوليو 2015.
بقلم
أسامة عبد الفتاح
أسامة عبد الفتاح كاتب وناقد سينمائي مصري مقيم في القاهرة .مصر