الحياة الرقمية وثقافة السطحية والإستهلاك المفرط بقلم نبيل عبد الفتاح
أدى طوفان خطابات المنشورات، والتغريدات، والصور والفيديوهات الومضات على الحياة الرقمية إلى ثقافة التسطيح والأكاذيب، والنظرات الخاطفة، والانطباعات، والآراء المرسلة، دونما عمق، أو معلومات تستند إليها، وإلى حالة هوسيّة من إطلاق الفتاوى الأخلاقية، أو السياسية، أو الدينية والمذهبية فائقة السرعة، دونما حد أدنى من التأنى والتبصر، ومراعاة خصوصية ثقافة وديانة ومذهبية الآخر المختلف ونظامه القيمى والأخلاقى ونظرته للعالم والوجود الإنسانى، وسطوة حالة من اليقين الزائف، على بعض الجماهير الرقمية الغفيرة، وخاصة على الحياة الرقمية العربية وارتحالاً من حياتها الفعلية . ثقافة السطحية، حملت فى أعطافها أنماطا من استعراضات الذات عبر الصور والفيديوهات الطلقة، التى حلت بديلاً عن الذات الفعلية. ثمة تركيز من الجموع الرقمية الغفيرة على الوقائع اليومية، والتعليق عليها من مشاهداتها، أو صورها، أو على تصرفات بعض الفنانين، والفنانات الخارجة عن المألوف، فى استعراضات نظام الزى، أو الأقوال المحمولة على السخرية، والسطحية، والتفاهة، والمعبرة عن ضحالة الثقافة، والوعى، أو السلوكيات الفعلية الفظة! أو قصص الطلاق والزواج لهم/هن وأبنائهم ..الخ.
تحولت الجموع الرقمية الغفيرة إلى سلطة افتائية فى كل القضايا، والمشكلات والأزمات، وهيمنة آراء التفاهة والأكاذيب على سلوكهم الرقمى، بقطع النظر عن مستويات تعليمهم، وانتماءاتهم الاجتماعية، بالنظر إلى ضحالة وسطحية عمليات التعليم، والتنشئة الاجتماعية والسياسية والدينية لهم، وتراجع الطلب على الثقافة، والمعرفة فى الوعى الاجتماعى والسياسى المتخلف لهم. لا شك أن تجليات ثقافة السطحية والأكاذيب والادعاءات المسيطرة على الحياة الرقمية أدت إلى تراجع القراءة العميقة الورقية والرقمية ـ والاستثناءات محددة جداً ـ، ومن ثم إلى حالة اللامبالاة بأى كتابات ذات طبيعة علمية ومعرفية وفلسفية ولغوية وجمالية، ونقدية، لمصلحة ما سبق أن أطلقنا عليه النظرات والقراءات الومضيات فائقة السرعة، ومعها التعليقات الومضات، والتفضيلات، حتى وإن كانت النظرات لم تستوعب الكتابة الومضية على المنشورات، أو التغريدات، بل الصور، والفيديوهات فائقة السرعة، والإيجاز البصرى، و هو ما يبدو فى بعض الأحيان متناقضاً على ما تم التعليق عليه، سواء أكان من خلال اللغة المحتشمة، أو البذيئة، أو الفتاوى الدينية الوضعية، أو استخدام نصوص أو سرديات دينية ماضوية موروثة لايعرفون سياقاتها ودلالتها الشرعية أو اللاهوتية، أو من خلال إحكام القيمة الأخلاقية، والقيمية المنفلتة عن مساراتها وسياقاتها ومواضعها!
أدت ظواهر السطحية، إلى هيمنة الأكاذيب والتفاهات، ومعها ثقافة الرداءة التى أدت إلى تراجع، ونهاية المثقفين النقديين الكبار، وأدوارهم السياسية والاجتماعية، ومعهم المتخصصون، والخبراء فى عديد المجالات، الإغراق فى الشئون المحلية والإقليمية، ومشاكلها، أكثر من الانفتاح على القضايا العالمية السياسية والعلمية والتقنية والاقتصادية والاجتماعية، والثقافية على تعددها، وتنوعها، ومساسها بالحياة الكونية للبشر أيا كانت انتماءاتهم الوطنية، والدينية والمذهبية. ثمة نزعة عارمة على الحياة الرقمية فى كل بلد عربى للتركيز على القضايا والوقائع السياسية والاجتماعية المحلية والمناطقية والشخصية، والأسرية والعائلية، والدينية والمذهبية، والعرقية، وقضايا النزاع على الهويات المتنازعة ومن ثم أصبحت تعبيرًا صارخاً عن عمق الأزمات الهيكلية فى المجتمعات العربية.
من الشيق ملاحظة أن الأجيال الأكبر سناً والشابة -زد وألفا- باتت غالبيتهم تركز على المنافسات الكروية الداخلية، أو بين الفرق الأوروبية الكبرى، ومعها تحيزاتهم المفرطة لهم، ولبعض اللاعبين الكبار، والمدربين لهذه الفرق، وباتت كرة القدم تمثل الشغل الشاغل للجماهير الفعلية والرقمية الغفيرة، ومعها تحيزاتهم الكروية، ومنافساتها على الحياة الفعلية، والرقمية، وذلك كأحد أشكال المتعة الكروية وقضاء أوقات الفراغ وهو أمر بات كونياً فى مجتمعات تسودها ثقافة العمل والكفاءة والمسئولية، وعربياً باتت مساحة للانشغال عن المشاكل الكبرى والشخصية التى تواجه مجتمعات لاتسودها ثقافة العمل، وتواجهها مشكلات متفاقمة، ولا تجد حلاً لها!.
هذه التحولات فى الحياة الرقمية، وقوائم اهتماماتها المتغيرة فى سرعة فائقة أدت إلى إحداث تسطيح فى الآراء، والأفكار، والقضايا، وإلى حالة من اللا مبالاة بالمعرفة، وإلى تسليع السلوك الرقمى على الحياة الافتراضية، من خلال السعى نحو التفضيلات للمنشورات، والتغريدات، والصور، والفيديوهات فائقة السرعة Reelsمن خلال إعداد وصفات الطعام، من ثقافات المطابخ العربية -على تعددها وتنوعها- والآسيوية والإيطالية والفرنسية، وهو ما يسهم فى تكثيف النزعة للاستهلاك المفرط! بقطع النظر عن مدى قدرة الجموع الغفيرة المالية المستهلكة لهذه الفيديوهات الطلقة فى الدول المعسورة على إنجاز هذه الوصفات من الطعام!.
انتقلت بعض الظواهر الاجتماعية الفعلية إلى الحياة الرقمية، ومنها قراءة الطالع، والتنبؤ بأحداث المستقبل التى تناهض العقل العلمى، وتروج بعضا من الخرافات التى ترتكز على بعض المكونات الميتافيزيقية فى ثقافات المنطقة العربية الشعبية، والاختلاطات فى الدروس التعليمية بين العقل العلمى، والعقل الميتاوضعى، فى بعض المناهج المقررة، أو فى درس المعلمين حول الدرس ممن يغلبُ عليهم هذا النمط من الثقافة الشعبية الميتاوضعية والخرافاتية، السائدة وسط العوام، وبعض المتعلمين.
كشفت الحياة الرقمية عن اهتمامات ثقافة الجموع الفعلية، والرقمية الغفيرة المقموعة فى المجتمعات العربية، وعن تحول السلوك الاجتماعى والاستهلاكى المفرط دونما إنتاج، وعمل خلاق وتحوله إلى سلوك استهلاكى رقمى للصور، والفيديوهات، والمنشورات والتغريدات. ساعدت على ذلك الشركات الرقمية الكبرى التى توظف هذه الاهتمامات الاستهلاكية، فى استثارتها وتحفيزها لكل الكتل الجماهيرية الرقمية الغفيرة، بحسب قوائم اهتماماتها وتفضيلاتها فى كل التفاصيل، وبيعها للشركات الرأسمالية الكبرى التى توظف ثقافة السطحية والرداءة فى إعادة تكييف قوائم الإنتاج، والخدمات، وترويجها رقميا وفعليًا. من هنا تحولت الحياة الرقمية، إلى مجموعات بيانات ضخمة Big Data، ومعقدة يتم تحليلها، من خلال نظم تحليلية أكثر تعقيدًا، ويتم توظفيها فى إعادة تجديد سياسات الإنتاج، والخدمات من الشركات الكبرى، بقطع النظر عن تكريسها لثقافة السطحية والتفاهة والاستهلاك المكثف، وفق مصالح الشركات الرأسمالية الوحشية.
من ناحية أخرى بالموازاة مع ثقافة الأكاذيب والسطحية، ثمة بعض من الإيجابيات تتمثل فى توظيف الحياة الرقمية فى الكشف عن أشكال العنصرية، والتحرش والتنمر، وجرائم الإبادة الجماعية على نحو ما يتم من رصدها فى الحياة الفعلية فى الحرب العدوانية الإسرائيلية على قطاع غزة، وهو ما أدى إلى إنتاج سرديات مشهدية مرئية موازية للسرديات الإسرائيلية، والأمريكية والأوروبية الداعمة للإبادة الإسرائيلية.
السردية المرئية لوقائع الإبادة، والتهجير القسرى والقتل الوحشى والتجويع، وتدمير البشر والحجر والمشافى أسهمت فى بعض من اليقظة النسبية لدى طلاب الجامعات الشباب فى الجامعات الكبرى وغيرها فى أمريكا وأوروبا، وأيضا للقوى والجماعات المناهضة للحرب، وللمجازر الإسرائيلية، فى دول أوروبية، وغيرها على خلاف انحيازات إدارتها السياسية، وحكوماتها لإسرائيل، وهو ما شكل يقظة للضمير الحر فى هذه المجتمعات، حول القيم الإنسانية والأخلاقية للثقافة السياسية الليبرالية، التى انحسر ألقها عن بعض الطبقات السياسية الحاكمة وأحزابها السياسية، وتوظيفهم للحريات وحقوق الإنسان كسلاح للضغط على الأنظمة التسلطية، والاستبدادية فى المنطقة وبعض دول جنوب العالم، وهو ما قامت بتعريته الحرب العدوانية الوحشية على قطاع غزة، وعدم إدانة الدولة العبرية، وحكومتها اليمينية المتشددة، وخطابها الاستعلائى التوراتى تجاه الشعب الفلسطينى، وكفاحه ومقاومته من أجل الحرية والاستقلال، وبناء دولته المستقلة على الأرض المحتلة بعد 5 يونيو 1967، وعاصمتها القدس الشرقية.
بقلم
نبيل عبد الفتاح
تبيل عبد الفتاح كاتب وباحث ومفكر تنويري مصري ومستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية