الدولة والسينما في مصر.خبايا الإختفاء القسري لدعم السينما المصرية. بقلم مجدي الطيب..
الأمر المؤكد، ومن دون مجاملة أو مُبالغة، أن د. إيناس عبد الدايم، وزير الثقافة، فوجئت بالتركة الثقيلة، التي وجدتها في إنتظارها، عقب توليها حقيبة الوزارة، ومن ثم راحت تبذل قصارى جهدها لإزالة الأزمات، وتذليل العقبات، التي تعرقل خطتها الطموح للارتقاء بالشأن الثقافي، على الأصعدة كافة، وهو ما توجته، مؤخراً، بالمواجهة الناجحة لوباء «كورونا»، الذي كان سبباً في إغلاق الصروح، والمنابر، الثقافية، عبر إطلاق قناة وزارة الثقافة، على «اليوتيوب»، التي أسهمت، ولو مؤقتاً، في سد فراغ هائل اجتاح الساحة الثقافية !
فكرة «خارج الصندوق»، كما وصفها الكثيرون، تعكس، بجلاء، جدية د. إيناس، والرغبة الجادة، من جانبها، في عدم الاستسلام للظروف الراهنة، مهما كانت صعوبتها، وقسوتها، وهو ما شجعني على مُطالبتها هنا بالتعجيل بفتح ملف آخر يكتنفه الغموض وبعض التعقيد، لكنه أقل صعوبة، بكل تأكيد، من صعوبة مواجهة وباء «الكورونا»، التي نجحت فيها بإمتياز .
أول «الحدوتة» !
تبدأ «الحكاية»، سيدتي، عندما نجحت وزارة الثقافة، فى عهد الفنان فاروق حسنى، فى إقناع الحكومة، بتخصيص مبلغ 20 مليون جنيه من ميزانية الدولة، لدعم صناعة الأفلام، وهو ما تم بالفعل، فى عام 2012؛ حيث قام د. مجدي أحمد علي، رئيس المركز القومي للسينما وقتها، في حضور د. خالد عبد الجليل، رئيس قطاع الإنتاج الثقافي وقتها، بالإعلان في مؤتمر صحفي عُقد يوم الثامن من مارس 2012، عن دعم إنتاج 37 مشروعاً من بينها : 12 فيلم روائي طويل، 15 فيلم روائي قصير، 6 أفلام تسجيلية، 3 أفلام تحريك، وضمت قائمة الأفلام الروائية الطويلة مشاريع أفلام : «بأي أرض تموت»، «رسائل حب»، «فتاة المصنع»
فيلم فتاة المصنع لمحمد خان
«69 ميدان المساحة»، الذي سُمي عند عرضه «فيلا 69»، «قبل الربيع»، «سنة سعيدة»، «لا مؤاخذة»، «علي معزة»، «هرج ومرج»، «ليلى والمجنون»، «ورد مسموم» و«لحظات انتحارية»، وبينما ظن الجميع أن العجلة دارت، وأنه آن الأوان لتجني السينما ثمار تدخل الدولة، من أجل تشجيع الإنتاج الجاد، تقرر، فجأة وعلى غير توقع، ألا يتم تجديد الدعم بشكل سنوي، إلا بعد قيام المركز القومى للسينما، وصندوق التنمية الثقافية، بصرف كامل المبلغ المُخصص للدعم، ونتيجة للقرار، الذي لم يتدخل أحد لإقناع صاحبه أن عجلة الإنتاج في صناعة السينما تحتاج إلى وقت طويل للتحضير واستكمال الخطوات، والعناصر، اللازمة لتجهيز الفيلم، تحول الدعم السنوي إلى دعم «حسب التساهيل» (!)
ففي مطلع يناير 2015، أصدر د. جابر عصفور، وزير الثقافة، قراراً، بتشكيل لجنة قراءة لدعم إنتاج مشروعات الأفلام الروائية الطويلة، في ما أطلق عليه، «المسابقة التكميلية»، وفي توقيت متزامن أعلن د. وليد سيف رئيس المركز القومي للسينما، وقتها، عن فتح باب تلقى طلبات دعم إنتاج مشروعات الأفلام، ابتداءً من 1 وحتى 15 يناير 2015، لتوزيع ثمانية ملايين جنيه !
مصدر ال 8 مليون جنيه
هنا يجدر بنا العودة إلى السبب في وجود مبلغ الثمانية مليون جنيه لدى المركز القومي للسينما، تحت حساب الدعم؛ فنؤكد أنه نظراً لظروف متباينة، لم يتمكن بعض أصحاب المشاريع الروائية الطويلة الفائزة في مسابقة الدعم، من المضي قدماً في تنفيذ مشاريعهم، وتعثروا في تنفيذها، ما استوجب على المركز القومي للسينما تجميد مبلغ الدعم، الذي كان مخصصاً لإنتاجها، وتوجيهه إلى دعم إنتاج مشروعات عدد من الأفلام الروائية الطويلة الجديدة، في ما أطلق عليه «المسابقة التكميلية»؛ حيث تم تشكيل لجنة قراءة، بناء على قرار د.جابر عصفور، ضمت في عضويتها : كاتبي السيناريو إبراهيم الموجي ود. أشرف محمد، القاص والأديب إبراهيم عبد المجيد، الكاتب الصحفي والشاعر إبراهيم داود، المخرج عمر عبد العزيز والنقاد : مجدي الطيب، عصام زكريا، رامي عبد الرازق، ياسر محب والمنتج الفني مجدي عبد المسيح، الذي تمت الاستعانة به كخبير إنتاجي لدراسة ميزانيات الأفلام الفائزة بالدعم وتقييمها
ووصل عدد المشاريع المقدمة إلى 125 سيناريو فيلم روائي طويل، اشترطت لائحة المسابقة التكميلية ألا يكون صاحب المشروع «كاتب السيناريو / المخرج»، قد تقدم بها للمسابقة «الأولى»، وجرى توزيع المشاريع على أعضاء اللجنة، وروعي أن تتم القراءة بالتناوب، بمعنى أن العضو يقرأ مجموعة من السيناريوهات، وحالما انتهي منها تذهب إلى عضو آخر .. وقبل أن تقدم اللجنة تقريرها النهائي إلى د. وليد سيف، رئيس المركز القومي للسينما، تقدم الأخير، في 11 مايو 2015، باستقالته لوزير الثقافة الدكتور عبد الواحد النبوي، الذي عين محمد عزيز، كرئيس للمركز القومي للسينما، وعلى الفور اجتمع بأعضاء لجنة القراءة، التي استمرت في أعمالها حتى 23 أغسطس 2015، مُعلنة حصول 15 سيناريو علي أعلي الأصوات، ما دفع محمد عزيز، رئيس المركز، إلى تشكيل لجنة مصغرة، من 5 أعضاء، فوضها في اختيار 4 سيناريوهات فقط يذهب إليها الدعم، وهو ما فعلته اللجنة التي قامت، في سبتمبر 2015، بتقديم تقريرها النهائي متضمناً الأفلام الأربعة، وسلمته، بشكل سري، لرئيس المركز، الذي أكد أنه رفع النتيجة لمكتب الوزير، الذي أحالها، لسبب مجهول وغامض، إلى المستشار القانوني للوزارة، لإبداء الرأي فيها، قبل عرضها علي الوزير لاعتمادها، وأقر ( في تصريح لجريدة الوفد يوم الاثنين 7 ديسمبر 2015) أن القرار النهائي في عهدة مكتب وزير الثقافة، منذ 20 سبتمبر 2015، وسيُعلن بعد انتهاء الشئون القانونية من دراسة سلامة الإجراءات !
الأيدي الخفية !
وقتها اعترف محمد عزيز، رئيس المركز القومي للسينما، أن تأخر إعلان النتيجة، رغم انتهاء لجنة القراءة من أعمالها، يعود إلى أن تقريرها أودع مكتب وزير الثقافة، منذ 20 سبتمبر 2015، وأرجع سبب التأخير إلى تغيير المستشار القانوني للوزارة، وأن إعلان النتيجة لا يتم، حسب ما تنص اللائحة، إلا بعد اعتماد وزير الثقافة، الذي لم يفعل، ما كان سبباً في القول إن «أياد خفية حالت دون إعلان النتيجة» وإن «بعض أصحاب المصالح سجلوا انزعاجهم ورفضهم لتقرير اللجنة، الذي يُفترض أنه سري للغاية» (!)، ثم كانت التداعيات السريعة؛ حيث غادر د.عبد الواحد النبوي منصبه كوزير للثقافة، وتولى د. حلمي النمنم الحقيبة بدلاً منه، كما أحيل محمد عزيز إلى التقاعد، وعُين د. أحمد عواض خلفاً له، وفيما انتظر الحقل الثقافي، وليس الساحة السينمائية فحسب، اعتماد نتيجة مسابقة الدعم التكميلي، بواسطة «النمنم»، أصيب الجميع بصدمة، وذهول، وخيبة أمل، مع تأكيد د. أحمد عواض، رئيس المركز القومي للسينما، أن ثمة خطأ شاب إجراءات المسابقة، كان سبباً في اتخاذ «النمنم» قراراً بعدم اعتماد النتيجة (!)
هنا لا يمكن إنكار أن «عواض» بذل جهوداً مستميتة لاحتواء غضب أعضاء لجنة القراءة، بعد ما أكد لهم أن أحداً، أياً كان، لم يتطرق إلى أداء اللجنة بسوء، أو يُشكك في موضوعية، ونزاهة، أعضائها، وأن «الثقة كاملة» فيهم، مُضيفاً أن قرار تجميد النتيجة يعود إلى خطأ إجرائي، لا تُسئل عنه اللجنة، مُطلقاً، بل يكمن في الخطوات، التي أقرها «عزيز»، وكانت محل اعتراض المستشار القانوني للوزارة، وأحصى عدداً منها؛ مثل : «عدم قانونية تشكيل لجنة القراءة المصغرة، التي انبثقت من اللجنة الرئيسة لتقييم السيناريوهات، واختيار الأفلام الأربعة»، وأن «عزيز»، لم يحصل علي موافقة الوزير علي تشكيل اللجنة المصغرة، بالإضافة إلى عرض مشاريع على أعضاء دون سواهم، وهو ما نظرت إليه الشئون القانونية للوزارة بوصفه «تجاوزاً يتطلب إعادة المسابقة» !
عندها، وبناء على جلسة «تجديد الثقة»، وافقت اللجنة بالكامل، على قراءة الأعمال من جديد، وفق المعايير والنظام، الذي وضعه «عواض»، وأبرزه : تغيير «الأكواد السرية»؛ التي تصدرت المشاريع المقدمة في القراءة الأولى؛ حيث من المعروف أن قراءة المشاريع، بواسطة أعضاء اللجنة، تتم بعد استبعاد أسماء أصحابها، والاكتفاء برقم كودي، بعكس النظام الذي كان متبعاً في عهد د. مجدي أحمد علي وقت أن كان رئيساً للمركز القومي للسينما، ورفض خلاله، وبشكل حاسم، نظام «الأكواد». وجاء «عواض» ليتشبث به، لكنه لجأ إلى تغيير «الأكواد» بحيث احتفظ، ومكتب الوزير مباشرة، بمفاتيح «فك الشفرة»، التي سيبدأ العمل بها فور اعتماد النتيجة وقبل إعلانها . وفي محاولة لتجاوز ثغرة أخرى نوه إليها المستشار القانوني؛ تتعلق بعدم تمكن بعض أعضاء اللجنة من قراءة عدد من المشاريع، ما يخل بمبدأ تكافؤ الفرص، قرر«عواض» تدشين ثلاث مجموعات روعي في تكوين كل مجموعة أن تضم ممثلين عن عناصر صناعة السينما ( كاتب وناقد ومخرج .. إلخ)، كما اتجه إلى توسيع نطاق لجنة خبراء الإنتاج المكلفة بدراسة ميزانيات الأفلام الفائزة بالدعم.
نصيب من التورتة !
انتهت لجنة القراءة من أعمالها، في الخامس والعشرين من مايو 2016، وقدمت تقريرها النهائي لرئيس المركز القومي د. أحمد عواض، الذي وعد باعتمادها من مجلس إدارة المركز القومي للسينما، ثم رفعها إلى وزير الثقافة حلمي النمنم، ومضت الأيام والشهور من دون أن يستجد جديد؛ فتارة يُقال إن مجلس إدارة المركز القومي للسينما لم يجتمع لاعتماد التقرير النهائي للجنة القراءة، وأخرى يُشاع أن المركز اجتمع وألقى بالكرة في ملعب الوزير، الذي لم يعتمد النتيجة، وطوال الوقت لم يصدر تصريح رسمي واحد؛ سواء من المركز أو من الوزارة، يقطع الشك باليقين، ويوضح ملابسات الموقف الغامض، وفجأة أطلت مصلحة الضرائب، التي طالبت بنصيبها من «التورتة»؛ بعد ما تذكرت أن المسابقة، التي ينظمها المركز القومي للسينما، بدعم تقدمه الدولة، ممثلة في وزارة المالية، وموافقة مجلس الوزراء الذي أمر في العام 2005 بتشكيل لجنة من وزارتي الثقافة والمالية لوضع الضوابط، لا يتم التعامل معها ضرائبياً بالشكل القانوني الصحيح، ومن ثم لجأت المصلحة إلى اقتطاع مبلغ يقترب من الأربعة ملايين جنيه، من إجمالي مبلغ الثمانية مليون جنيه، المخصص للدعم التكميلي، تحت حساب ضريبة الأفلام التي أنتجت في المسابقة الأولى. والمفارقة الموجعة أن مصلحة الضرائب بررت موقفها العجيب المفاجئ بأن «الإعلان فى الصحف أشار إلى أنها مسابقة، وهو ما يعني في قوانين الضرائب أن المبالغ المخصصة للدعم تخضع لضريبة الدمغة النسبية، التى تقدر قيمتها ب 20%»، وهو ما دفعها إلى مطالبة المركز القومي بتسديد مبلغ الأربعة ملايين جنيه، كضريبة عن الأعمال التي أنتجت من قبل، ورغم تكليف رئيس الوزراء للمخرج د. أحمد عواض، رئيس المركز، قبل تعيينه رئيساً لصندوق التنمية الثقافية وقتها، بالتوجه للاجتماع وعمرو المنيّر نائب وزير المالية للسياسة الضريبية، الذي أفتى بأن مسابقة الدعم تدخل في باب «مسابقات اليانصيب» (!)، التي ينبغي للدولة أن تُحصل ضرائب عنها، كما طالب بتحصيلها، بأثر رجعي؛ بمعنى مُطالبة الفائزين بجوائز الدعم، في السنوات السابقة؛ مثل : محمد خان وداوود عبد السيد وهالة خليل وعمرو سلامة، بتسديد ضرائب الجوائز المالية، التي حصلوا عليها، وبالطبع انتهت جلسات التفاوض إلى فشل ذريع، رغم موافقة المركز على استيفاء بعض الأوراق المطلوبة، والقبول بتخفيض مبلغ الدعم التكميلي إلى 4 مليون جنيه، بدلاً من 8 مليون، والتأثير السلبي لقرار تعويم الجنيه، بما يعني أن دعم الفيلم الفائز سيتراجع إلى النصف، في حين تنص اللائحة على دعم الفيلم الفائز بقيمة 50% من كلفة إنتاجه؛ أي 2.5 مليون جنيه كحد أقصى؛ حيث تشبث «المُنيَر» بموقفه المتعنت، الذي منح مصلحة الضرائب الضوء الأخضر لضرب المسابقة في مقتل، ورغم خروج «المُنيَر» من منصبه، والقبول باقتراح استبعاد فيلمين من الأفلام التي وافقت اللجنة على دعمها، للخروج من الأزمة بدون الإخلال باللائحة، التي لا تتضمن أية إشارة، منذ بداية مسابقة الدعم، في عهد الوزير فاروق حسنى، إلى مسألة خصم ضريبة الدمغة، إلا أن الموقف مازال مُعلقاً، والدعم مُجمداً؛ نظراً لأن الضرائب تتعامل مع مسابقة الدعم بذات الطريقة التي تتعامل بها مع مسابقات «اليانصيب» !
المستقبل المُخيف !
لا تكمن المأساة في إجهاض 125 مشروع سيناريو، قدمها شباب واعد، كان ينتظر الفرصة ليتحقق، وتنتظر السينما المصرية على أيديهم الكثير، وإنما تجاوزت هذا إلى تجميد مبلغ الدعم بالكامل؛حيث ألغيت المسابقة بصورة نهائية، ومازال قرار المهندس شريف إسماعيل، رئيس مجلس الوزراء وقتها، برفع قيمة دعم صناعة السينما إلى 50 مليون جنيه سنوياً، مجرد حبر على ورق، ولم يدخل حيز التنفيذ، وهو ما يستدعي من د. إيناس عبد الدايم، ومستشاريها، بعد الإطاحة بالمنيري، ضرورة إعادة الأمور إلى نصابها، وإحياء مسابقة دعم السينما، بعد تصويب مفاهيم الدولة، في ما يتعلق بدعم الصناعة بالجوائز المالية، واعتماد نتيجة مسابقة الدعم التكميلي، إذا كان قرار وزارة المالية باستمرار الدعم بالكامل، متوقفاً عليها، ومن ثم العودة إلى صرف المبلغ المخصص للدعم، من ميزانية الدولة، في موعده، وعودة المسابقة إلى عملها، وتغيير اللائحة إذا اقتضى الأمر !
مجدي الطيب