العدوان الوحشي والأقنعة الدينية التأويلية بقلم نبيل عبد الفتاح
إن نظرة طائر على مشاهد الحرب العدوانية الإسرائيلية على المدنيين فى قطاع غزة، تشير إلى حالة من التحلل الكامل من الشرعية الدولية لقانون الحرب، والقانون الدولى العام، والدولى الإنسانى، التى تشكلت تاريخياً من أجل ضبط السلوك السياسى، والعسكرى، والإنسانى لأعضاء المجتمع الدولى، ومنظمة الأمم المتحدة، وضبط غلواء الدول وقادتها من النزعات التدميرية فى الحروب، والنزاعات الدولية، والإقليمية، والتى تؤدى إلى دمار البشر، والحجر، وأنهارالدماء، خاصة فى الدول الصغرى، والمجتمعات والشعوب المحتلة، والتى لا تزال تحت الحكم الكولونيالى وبقاياه، مثل الشعب الفلسطينى، وأراضيه المحتلة فى غزة، والضفة الغربية! الأخطر حماية المدنيين وقت الحرب، وحدود وضوابط سلوك المستعمر تجاه المدنيين، وأرض، وممتلكات الشعب المستعمر! المثير للسخط، والغضب أن المستعمر الاستيطانى الإسرائيلى لا يأبه قط، ومعه داعموه الولايات المتحدة الأمريكية، وكندا ، وبريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، ودول الاتحاد الأوروبى، تساند وبقوة الحالة الاستعمارية الاستيطانية سياسيا، وعسكريا، واقتصاديا بكل قوة. الأخطر – الأخطر هو التلاعب بقواعد الشرعية الدولية، وشرعنة العدوان الإسرائيلى بمقولة إننا إزاء دفاع شرعى تجاه عملية طوفان الأقصى التى قامت بها جماعة حماس والجهاد الإسلامى، ونسيان أن الحق فى المقاومة بكافة أشكالها هو عمل من أعمال الشرعية للشعب أو الجماعة المحتلة إزاء المستعمر الاستيطانى، من أجل تحرير الأرض، والشعب المحتلين. هذا النمط من التلاعب، واللا مبالاة بقواعد الشرعية الدولية يرمى إلى إضفاء الشرعية على العدوان الإسرائيلى ونسيان جرائمه فى تمدد المستوطنات، والإبادة الجماعية للشعب الفلسطينى، والتطهير العرقى، والعقوبات الجماعية، وعمليات القتل، والتدمير الممنهج لأعداد ضخمة من المدنيين، والمبانى حيث وصل عدد القتلى – الشهداء- إلى أكثر من 13 ألفا، وأكثر من 4506 أطفال خلال ما يزيد قليلا على 4 أسابيع، وهو ما يفوق عدد الأطفال الذين قتلوا فى الصراعات المسلحة فى 22 بلدا حول العالم منذ عام 2020، وفق الأمينة التنفيذية للإسكوا -برنامج الأمم المتحدة الإنمائى ولجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا-، وتشير أيضا منظمات حقوقية إلى مقتل طفل كل 7 دقائق،، وهو سلوك ممنهج فى عمليات القتل والتدمير، على نحو يكشف عن نزعة عدوانية متأصلة فى الثقافة العسكرية الإسرائيلية التى تجد سندا سياسيا وعسكريا داخل اليمين المتطرف الإسرائيلى، والمسيحية الصهيونية داخل الولايات المتحدة، وخارجها
لا شك أن تفسير هذا السلوك العدوانى المتعصب مرجعه تركيبة الثقافة السياسية، والدينية داخل المجتمع الإسرائيلى، والطبقة السياسية، وجذور بعضها العسكرية والدينية الراديكالية إزاء الأغيار، خاصة العرب، والمسلمين. إن بعض الخطاب الدينى التوراتى لرئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نيتانياهو، وحكومة الحرب المصغرة، وغيرهم فى الحكومة الموسعة، ومعهم الحاخامات المتطرفون تعيد طرح سؤال جديد، وقديم هل نحن إزاء صراع دينى، ومن ثم حرب دينية؟
هذا السؤال القديم/ الجديد مرجعه استخدام الميثولوجيا ذات السند الدينى، فى بناء تصورات أطراف النزاع المسلح فى خطاباتهم، وفى أنظمة التنشئة الاجتماعية والدينية والسياسية، وفى نظام التعليم الإسرائيلى، على نحو يؤدى إلى إنتاج هذه الميثولوجياالدينية التأويلية، وإعادة إنتاجها، فى تكوين وتشكيل المواطنين من مراحل الطفولة، والصبا، إلى مراحل الرشد المدنى. من هنا تدخل هذه الميثولوجيا الدينية التأويلية من منظور غالبية الحاخامات، والمعلمين فى تشكيل إدراك، ورؤية المواطنين الإسرائيليين تجاه الأغيار– “ الجويم”-عموما، والفلسطينيين، والمسلمين والإسلام خصوصا ، على نحو يؤدى إلى هيمنة رمزية للأيديولوجيا الدينية وأساطيرها التأويلية التوراتية تجاه الشعب الفلسطينى، ومعها شرعنة دينية للقتل، والاستيطان، واحتلال أراضى الشعب الفلسطينى، خاصة ما بعد 5 يونيو 1967!
ثمة انتهاك لقواعد القانون الدولى، وقانونى الحرب، والدولى الإنسانى، والقرارات الدولية 242، 338، وغيرها، -بل واتفاقية أوسلو 1993، وعدم الالتفات الإسرائيلى إلى المناشدات الدولية بوقف إطلاق النار، أو إقامة هدن إنسانية، وإنما إصرار على تدمير المبانى التى وصلت نسبتها إلى نصف مبانى قطاع غزة، سواء المبانى السكنية، أو الحكومية، وقتل الأطفال والنساء، والمسنين من المدنيين! والمدارس، وأماكن الإيواء، وقصف المستشفيات، ودور العبادة الإسلامية، والمسيحية، على نحو غير مسبوق فى النزاعات الدولية المسلمة!
إن عملية أسطرة الصراع الإسرائيلى، الفلسطينى، وتحويله من صراع بين المحتل الكولونيالى/ الاستيطانى، وبين الشعب الفلسطينى المستعمر، مرجعه استمداد أطرافه تاريخيا المرجعية الدينية سنداً، فى تبرير وتسويغ وشرعنة عمليات القتل، والتدمير، والأهم الاستخدام الوظيفى الإسرائيلى للميثولوجيا الدينية التأويلية فى بناء العقيدة العسكرية للجيش، والجنود والضباط إزاء الفلسطينيين والعرب عموما. هذا الدور الوظيفى للدين فى الميثولوجيا التأويلية للمسيحية الصهيونية مسيطر إعلاميا وسياسيا فى الولايات المتحدة، وبريطانيا، وألمانيا، على الرغم من التناقضات التأويلية حول النصوص الدينية المقدسة لدى كل هؤلاء السياسيين الغربيين، ورجال الدين ونسائه!. من ناحية أخرى، تبرز حالة الهوس الإعلامى التقليدى فى فرنسا، وبريطانيا، وألمانيا، والولايات المتحدة فى الدعم غير المسبوق لإسرائيل؛ وحربها العدوانية على قطاع غزة.،ومرجع ذلك «عقدة الذنب» التاريخية إزاء المحرقة لليهود، والتى لم يكن للعرب، والفلسطينيين أى دخل بها مطلقاً! إنها الميثولوجيا، والإسلاموفوبيا التى يؤججها اليمين الأوروبى، المتطرف، واليمين عموما، وبعض من اليسار المأفون ضد الإسلام والمسلمين فى فرنسا، وبلجيكا، وألمانيا، وأوروبا إزاء إسلام الضواحى، والتهميش، والحصار له، وللمسلمين الأوروبيين من ذوى الأصول العرقية غير الأوروبية، من الأجيال الثانية، والثالثة من المولودين داخل هذه المجتمعات، وباتت تشكل حالة هوسية لدى اليمين الأوروبى بجميع أطيافه، ومكوناته، ومعهم الطبقات السياسية الحاكمة، والسياسيون ما بعد الحرب الباردة، وملكاتهم السياسية المحدودة عن أجيال ما بعد الحرب العالمية الثانية، والحرب الباردة!
إن تديين الصراع، يهدف إلى تحويله من صراع بين الشعب المستعمر، وحقه فى الدفاع الشرعى عن نفسه، ومقاومة المحتل الاستيطانى على الأراضى الفلسطينية المحتلة ما بعد 5 يونيو 1967 إلى صراع أديان، وهو ما ينذر باحتمالات خطيرة بعد أن تنتهى هذه الحرب العدوانية، وظهور راديكاليات إسلامية سياسية جديدة، ترد على مذابح الحرب الإسرائيلية. إن تديين الصراع السياسى بين الكونيالية الاستيطانية الإسرائيلية، وبين الشعب الفلسطينى، خطر على كل الأطراف، لأنه يذكى عمليات القتل والمذابح والتدمير الممنهج للمبانى، والبشر.
قد يقال إن حماس والجهاد الإسلامى حركتان دينيتان، وخطابهما دينى! وهذا صحيح وجذوره ترجع إلى الاستدعاء المقابل للمرجعية الدينية التوراتية إزاء الكولونيالية الاستيطانية التى احتلت أراضى فلسطينية على أساس دينى! من ناحية أخرى جذر هذه الجماعات -الإخوان المسلمين لحركة حماس- الدينى والأيديولوجى واستخدامها الوظيفى للدين الإسلامى، يعود إلى فشل الأمم المتحدة، والدول الخمس الكبرى، فى إنفاذ قرارات الشرعية الدولية، وحل الدولتين، واللامبالاة بالعدوان المستمر على المدنيين. من هنا هذا التوظيف الدينى للمقاومة، مرجعه أن إسرائيل استخدمته فى مواجهة الجماعات الراديكالية فى تكوين منظمة التحرير الفلسطينية، وفى إفشال اتفاق أوسلو -42% من الأراضى المحتلة بعد 5 يونيو 1967 – ، وفى دعم وتوظيف الانقسام الفلسطينى بين سلطة أوسلو، وسلطة حماس. عندما يغيب أفق حل الدولتين، والدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية ، لا يجد الفلسطينيون أداة للتماسك الاجتماعى، والتضامن، والتعاضد، سوى الإسلام، والمسيحية الشرقية، وأداة هوياتية ضد المستعمر الاستيطانى، ووحشيته خاصة فى ظل القصف الجوى، والمدفعى، والصاروخى، والقنص، وأنهار الدمار المتفجرة من الأطفال والنساء والمسنين، والآباء والأمهات، والأجداد! هنا يبدو السند الرئيس للمدنيين، والمقاومة المشروعة للاحتلال متمثلا فى الإسلام كهوية، وعقيدة، وأداة للتعبئة، والتعاضد الاجتماعى، وسط الدمار، لأن العالم لا يقدم سوى بعض الكلمات الفارغة التى تذهب هباء منثوراً فى الفراغ الإنسانى!
بقلم
نبيل عبد الفتاح
نبيل عبد الفتاح كاتب وباحث ومفكر مصري تنويري ومستشار الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية