العقل السياسي الغربي وبقايا الفكر الكولونيالي بقلم نبيل عبد الفتاح
فى ظل انفجار طوفان الوباء والأشلاء والضحايا والأطلال فى الحروب الحاملة فى أعطافها أساطير وسرديات دينية وضعية كأقنعة تخفى وراءها غطرسة القوة التقنية العسكرية العمياء، ووراءها فائض من الدعم السياسى والعسكرى والاقتصادى والدبلوماسى الأمريكى، والغربى للدولة الإسرائيلية غالبا ما تكون هذه الغطرسة، واستعراضات القوة الغاشمة باعثة، ومحركة للعقل السياسى المسيطر فى هذه البلدان وكاشفة له فى ذات الوقت. الملاحظ هذا الميل لدى بايدن ووزير خارجيته بلينكن، – وبعض أعضاء الكونجرس، وبعض القادة الأوروبيين – إلى الخطاب السياسى الشفاهى، الذى ينُد عنه، اللغة السياسية العفوية العنيفة على نحو ما وصف بايدن عملية «طوفان الأقصى» حركة حماس بأنها شر مطلق!، والحق الإسرائيلى فى الدفاع عن النفس، وتحطيم حركة حماس، وسحقها، واستبعادها من قطاع غزة!.
شايع بايدن بعض قادة الدول الأوروبية فى فرنسا ماكرون، وشولتز فى ألمانيا، وريشى سوناك فى بريطانيا، وجورجيا ميلونى فى إيطاليا! اللغة السياسية الحاملة لعنفها المفرط والدعم السياسى، وبالسلاح الفائق التطور، والدعم المالى الأمريكى بمساعدات لإسرائيل بـ 14٫3 مليار دولار، ومعه الدعم العسكرى بالسلاح من بريطانيا..إلخ!.
هذا النمط من عفوية الخطاب كاشفة عن عقلية بعض السياسيين ما بعد الحرب الباردة، – باستثناء بايدن وانحيازاته المسبقة مع بعض جيله -، يشير إلى هشاشة الخبرات السياسية، فى مجال العلاقات الدولية، وذلك لأن غالبهم جاء كنتاج لحالات سياسية، سيطرت فيها ضغوط قوة اليمين المتطرف، واليمين عموما، والذى يركز دائما على كراهية الأجانب -الأكزنوفوبيا والإسلاموفوبيا- والتجمعات الإسلامية الحاصلة على جنسيات هذه الدول من الجيل الأول إلى الأجيال الثالثة والرابعة، وبعض العمليات الإرهابية التى قامت بها القاعدة، فى بعض هذه الدول، مع نسيان أن الولايات المتحدة، وبريطانيا ساهمتا فى نشأة هذه الجماعات ودعمها ضد حركات التحرر الوطنى، وصولا لمواجهة الاتحاد السوفيتى السابق فى أفغانستان!، وفق السياسة البريطانية الكولونيالية التى استعارتها الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، واستمرت إلى ما بعد الحرب الباردة، ثم وقعت ضحية لها، لأنهم لم يدركوا أن هذا النمط من الأصوليات الدينية لا تحركه السياسة كموازين للقوى، وإنما السردية الدينية الوضعية التى يتحرك، وفقا لها، ويمكنه تغيير أهدافه المرحلية ضد من أسهموا فى دعمه وتأييده على نحو ما حدث فى الحادى عشر من سبتمبر 2001! كلاهما يمثل نمطا من البراجماتية السياسية السوقية ذات الطابع اللحظى، لا التاريخى فى مسارات الرؤى والاستراتيجيات، والسياسات المستقبلية. هذا الجيل من السياسيين، هو ابن اللحظة السياسية، والمصالح المحمولة عليها، وليس ابن الرؤى السياسية، واستراتيجيات العمل، التى تتحرك فى مسار تاريخى!.
بايدن حالة خاصة لسياسى قديم، لكن كبر السن، جعله، يستخدم خطابا ضد القانون الدولى العام، واتفاقيات جنيف فى عفوية وعشوائية، لا تحترم القانون الدولى، وقانون الحرب معا سعيا وراء تأييده فى الانتخابات الرئاسية المقبلة، ودعم الاتجاهات المسيحية الصهيونية له! هذا الجيل -ومعه بايدن – ، يسعى إلى دعم سياسى، وتأييد من الجماعات السياسية الصهيونية، داخل مجتمعاتهم، انتخابياـ، وهو نمط من السلوك السياسى اللا أخلاقى، واللا قانونى الذى يتعامل بانتقائية مع قواعد القانون الدولى العام، وقانون الحرب، واتفاقيات جنيف، هذه الازدواجية فى المعايير تتمثل فى التركيز على حق إسرائيل فى الدفاع عن النفس، دون حق الفلسطينيين فى الدفاع عن أنفسهم إزاء عمليات القصف الجوى، والمدفعى، و5087 شهيدا – حتى يوم الأحد الماضى- منهم أكثر من 2087 طفلا، و1023 امرأة، بالإضافة إلى اكثر من 14 ألف جريح، وهى أعداد فى تزايد كل لحظة، من عمليات التدمير للمبانى، وأنهار الدماء البريئة، مع نزوح 700 ألف نازح من جنوب غزة إلى شمالها.
ثمة نسيان عمدى لانهيار النظام الصحى، وندرة الغذاء، والأدوية والمياه، والطاقة اللازمة. كل هذا الحصار الدموى الاستثنائى – الذى يحملُ معه نظرة لا إنسانية للإنسان غير الغربى، يتناقض مع مبادئ وقواعد قانون الحرب، واتفاقيات جنيف، وعجز التنظيم الدولى ما بعد الحرب العالمية الثانية -الاتحاد الأوروبى، ومنظمة الأمم المتحدة-، فى التوصل إلى قرار أممى، بهدنة إنسانية، وتنظيم دخول المساعدات الإنسانية- الأجهزة الطبية، والدواء، والغذاء، والماء والطاقة -إلى قطاع غزة.وراء هذا العجز والفشل للمنظمة الدولية، مواقف الدول الغربية الكبرى التى ترفض حتى هدنة إنسانية حتى كتابة هذا المقال. الأخطر إغفال عمليات النزوح القسرى الذى تقوم به إسرائيل للمواطنين الأبرياء فى جنوب غزة لشمالها، والأبرتهايد فى الضفة الغربية، والمناطق المحيطة بقطاع غزة!. كل هذه المذابح الوحشية، وثمة إصرار على الدعم الأمريكى والأوروبى، والكندى للسياسات الإسرائيلية التى أفشلت كل محاولات إيجاد حل سلمى للصراع، وفق قواعد الشرعية الدولية منذ القرار 242، ومؤتمر مدريد، وإفشال اتفاقات أوسلو، وكثافة الاستيطان الإسرائيلى بالأراضى الفلسطينية المحتلة منذ يونيو 1967!.
أن العقل السياسى الأمريكى/ الأوروبى والكندى محكوم بأساطير الاتجاهات المسيحية الصهيونية، وبعض ظلال الأصوليات الدينية المساندة له، ويحملُ عقدة ذنب تاريخية إزاء المسألة اليهودية، وتاريخ المحرقة التى هى صناعة أوروبية – وألمانية-، ولم يكن للعالم العربى أى دور فيها قط!. هذا الدعم السياسى الاقتصادى، والعسكرى الأمريكى والأوروبى، يشير إلى التناقض بين قيم الليبرالية الغربية، وأجيال حقوق الإنسان -حقوق المرأة، والطفل، وكبار السن من الأبرياء-، وبين الممارسات الاستيطانية، والعدوانية الإسرائيلية على قطاع غزة قبل التدخل البرى.
العقل السياسى الغربى ما بعد الحرب الباردة سيغذى نزعات التطرف اليمينى، والإسلاموفوبيا، وسيؤدى إلى تنشيط التطرف الإسلاموى الأصولى داخلها، وعلى المستوى العالمى.
بقلم
نبيل عبد الفتاح
نبيل عبد الفتاح كاتب وباحث ومفكر مصري ومستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية
***
عن جريدة ” الأهرام ” بتاريخ الخميس 26 أكتوبر 2023