الغرابة والإثارة وثقافة التفاهة الرقمية بقلم نبيل عبد الفتاح
إن نظرة ومضة على وسائل التواصل الاجتماعى الرقمية تشير إلى حالة انفجار للمنشورات، والتعليقات، والتفضيلات للجموع الرقمية الغفيرة، وهو ما يعكس حالة من الكبت، والقمع، والرغبات المكبوتة السياسية، والدينية، والأخلاقية، والقيمية فى الواقع الموضوعى الفعلى، ومرجع ذلك أشكال متعددة من المحرمات الوضعية، والخوف من التعبير عن الذات فى المواقف المختلفة للحياة اليومية، ومنها قمع الحريات العامة، من السلطات السياسية العربية، أو حالة المسايرة لما هو سائد من ثقافة الازدواجية، والكذب، والنفاق فى التفاعل الاجتماعى فى علاقات الأسرة، والجيرة، والزمالة فى العمل، والعلاقات خارج الزواج، من الرفقة أو العشق، أو المخادنة…إلخ، واللجوء إلى الأقنعة لستر هذه العلاقات، وإلى اللغة الدينية والأخلاقية فى المشافهات اليومية. هذا النمط من علامات ثقافة الازدواجية، والنفاق يبدو مستورًا فيما وراء السلوك الإجرامى، واللا أخلاقى الذى يعبر عن غياب ضوابط وروادع دولة القانون فى العالم العربى.
هنا تبدو اللغة النفاقية مهيمنة على المجالين العام والخاص. جميع أشكال الكبت والكبح التى تسود الواقع الفعلى، وجدت طريقها إلى مواقع التواصل الاجتماعى، الفيسبوك، وتويتر سابقا وX حاليا، وانستجرام.. وتبدو خلالها فيضانات من المنشورات، والتغريدات، والصور الومضات، التى تنطوى على السطحية، والتفاهات، والأكاذيب فى الأخبار، وفى تقديم الحكم الأخلاقية السطحية، وإسنادها إلى مفكرين كبار، ورجال دين ذائعى الصيت، أو فلاسفة، أو أدباء عالميين! وهو ما يعكس رغبات بعض الجموع الغفيرة، فى إبداء خطاب أخلاقى، يجاوز ما تفعله بعض هذه الشخوص فى واقعها الفعلى، ويناقضها.
من ناحية أخرى رغبات بعضهم فى إثبات وجودهم، وحضورهم فى الحياة، لأنهم فقدوا معناها فى الحياة الفعلية، ويتم اللجوء إلى أشكال لغة التعبير الرقمية فى إضفاء معنى كاذب لحياتهم الفعلية!. التعبيرات الرقمية المختلفة بالصور الومضات، والفيديو الطلقة، والقراءة الرقمية الومضة، باتت خاضعة للغة الإثارة، بهدف جذب بعض الجموع الغفيرة، سواء من خلال إثارة الغضب، أو إثارة الاهتمام، وجذب الرغبة والاهتمام، أو أثارة الرأى والتحريض العام، أو إثارة ذهنية، أو أثارة لا شعورية، أو إثارة الضحك أو الفضول Excitement، وفق تعريفات القواميس اللغوية العربية والإنجليزية، والفرنسية.
اللغة الرقمية الإثارية الومضة، تهدف إلى تحفيز التفضيلات، ويلجأ إليها الأفراد الرقميون، وأيضا المشاهير، أو من يريدون تحقيق شهرة ما من خلال الإثارة، عبر الصورة الومضة، أو الفيديو الطلقة، أو التغريدات. بعضها تقوم به شركات وأفراد متخصصون فى تقديم بعض الممثلات والممثلين والمطربين والمطربات، وبعض الكتاب والروائيين! هنا الإثارة غالبها مصطنع ويرمى إلى جذب الانتباهات للجموع الرقمية الغفيرة تحقيقا للشهرة أو الاستمرار فيها، أو بعض علاماتها! من مشروع ممثلات شابات جميلات، أو نصف جميلات مثيرات، وغالبا يفتقرن إلى الموهبة والخبرة، ومن ثم يلجأن إلى الإثارة عبر الصور، ونظام الزى الغريب أو المثير للجدل الأخلاقى، أو ارتداء مطرب ملابس ذات علامات تومئ أو دالة على المثلية على سبيل المثال، أو ارتداء ممثلة ملابس كاشفة عن بعض من مكامن الإثارة لديها.
أو قيام رجل دين بإبداء رأى قديم يتنافى مع مألوف الحياة السائدة.. إلخ ثمة نمط من الإثارة عبر السخرية السياسية، أو الدينية أو الأخلاقية، أو فى الفن، أو الترفيه.. إلخ، باتت الحياة الرقمية، وغالب جماهيرها الغفيرة موضة للإثارات أيا كانت لجذب النظرات الومضات والتعليقات الومضة فائقة السرعة! بعضهم ــ أيا كان مجالهم ــ يرمون إلى الإثارة والجذب عن طريق Trend، وهى الموضوعات ــ أيا كانت ــ الأكثر شيوعا على وسائل التواصل الاجتماعى، وتثير اهتمامات المستخدمين، خاصة الفيسبوك، من خلال حدث أو صورة أو مقطع فيديو، أو خبر، يتم بثه وتداوله بسرعة فائقة خلال فترة زمنية وجيزة، وتتكاثر عليه التعليقات، أو مشاركته، وينتهى الـ Trend بعد انتهاء الجدل أو السجال أو التعليق عليه.
التريندات تعتمد على التناقض مع بعض السائد فى القيم والثقافة، ونظام الزى، والسخرية، وإثارة الضحك، أو معارضة المألوف فى الحياة العامة، وفى السياسة حيث السخرية، أو النقد أو اللوم، أو الأخبار الصادمة، والمثيرة للغضب، أو بعض أراء تافهة للممثلين والممثلات والمطربين والمطربات، أو لبعض رجال السياسة أو الإعلام.. إلخ، كلها مادة للـ Trend. الغرابة تبدو قرينة الإثارة، ومعها السطحية والتفاهة فى غالب الـ Trend، وهى ليست جنسية فقط، واللغة الإثارية ليست حواسية بالجسد فقط، والموضة الغريبة والكتابة الساخرة، والتهكمية، أو العلامات الدالة على الغرابة، وإنما لغة الأرقام الاقتصادية الصادمة حول الديون الخارجية، وعدم القدرة على الوفاء بها فى دول العسر الاقتصادى… إلخ!
بقلم
نبيل عبد الفتاح
نبيل عبد الفتاح كاتب وباحث ومفكر مصري تنويري ومستشار مركز الأهرام للدراسات الإستراتيجية
**
عن جريدة ” الأهرام ” .مصر بتاريخ 31 أغسطس 2023 لباب ” مختارات سينما إيزيس “